الخميس، 16 فبراير 2017

عقل الإنسان وعقل الحيوان والفرق بينهما (5) ..


الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يعرف أشياء من خارج حياته, أما الحيوانات فلا تعرف إلا ماله علاقة بحياتها ودورها في الطبيعة, ولهذا يبدو لنا أن الحيوان قدراته العقلية ضعيفة مقارنة بالإنسان, وهذا غير صحيح, فالحيوان عبقري في ما يتعلق بحياته أكثر من الإنسان, ولكنه لم يؤت العلم الذي أعطي للإنسان. لاحظ العلميات العقلية الذكية والسريعة التي يقوم بها حيوان مفترس مثلا بما فيها الاختباء والتخفي والتوقع, وانظر لبحث الحيوان عن أكل فكله تفكير وتوقع, وليس كل شيء بالغريزة كما يتصورون, ولذلك بعضها يكون أذكى وأكثر براعة من بعض, مثل البشر, فبعض الغنم مثلا أذكى من بعضها, وبعضها يميل للعنف, وبعض الطيور تستطيع خداعها وبعضها لا بناء على التجارب التي مرت بها مع الناس. لاحظ المواد السامة التي توضع للجرذان بعد فترة تعرف أنها سامة فتتجنبها مع أنها مغرية, بل إن الحيوان يراقب حركاتك وهل نيتك أن تمسك به أم أنك مشغول بشيء آخر, ونظرات القطيع من الغنم لشيء جديد أتى ليست خالية من المعنى بل هي مراقبة وتفكير لما سيفعل, وإذا رأتك تنظر إليها تشك فيك أما إذا رأتك مشغولا بعمل آخر استأمنت. 

الحيوانات تخاف أو تأمن للإنسان أكثر من الحيوانات الأخرى, فالإنسان إما أن تخافنه الحيونات أكثر أو تأمنونه أكثر لأن الناس مختلفين ومقاصدهم مختلفة, لكن الدجاجة تمر من عند قطيع الغنم والأمر عادي, لكن حين يمر إنسان فالوضع مختلف إما خوف منه أو رغبة بما عنده بناء على التجارب, أما طيور أو حيوانات ترى الإنسان لأول مرة تجدها تعامله كالحيوان ولا تخاف منه, لهذا الحيوانات حديثة الولادة لا تخاف من الإنسان, وهذا يدل أن الوئام هو الأصل في الطبيعة وليس الصراع.

أساليب الحيوانات المفترسة ليست واحدة حتى من نفس الفصيلة, فتلاحظ حيوان بارع بالصيد وآخر أقل براعة , والدجاجة التي تحمي فراخها أكثر قوة وبراعة من الدجاجة التي تحمي نفسها. الحيوانات ليست آلات, أي عكس ما يتصور الملاحدة بأنها آلات تعمل بالطاقة. بل إن الحيوان أعطي ذكاء وحس أكبر منا في ما يتعلق بحياته وحركته, والإنسان أعطي حس بحياته وبما هو خارج حياته, فنحن نعرف لماذا الحيوانات تفعل كذا أو كذا, فحس الحيوانات متعلق بها وحسّنا متعلق بنا وبغيرنا, القط مثلا يرى إناء فيه حليب وإنا آخر مكسور والحليب منسكب منه, هذا القط لا يرى إناء مكسورا بل يرى أنه لا يوجد حليب, وهذه القضية هي التي تعنيه, الإنسان يرى أن الإناء الثاني مكسور وأيضا ليس فيه حليب, وأيضا نستطيع أن نحس بمعلومات أكثر مثل من كسر الإناء وكيف...إلخ, إذن الإنسان يلاحظ أشياء لا يلاحظها القط, هذه السعة في الإحساس عند الإنسان هو الشعور الإنساني العظيم, و من كثرة الأحاسيس عند الإنسان صار يستنبط منها ويفكر. فالفرق في عقل الحيوان عن الإنسان ليس بسبب نقص في عقل الحيوان, بل بسبب حصر الشعور الحيواني بما يتعلق ببقائه ووظيفته لأنه مسخر. كل الأحياء منهمكة في وظيفتها إلا الإنسان, هذا يدل أنها مسخرة وأن الإنسان ليس مسخر, ولابد أن يكون مسخَّرا لشيء أرقى بما أن الجميع يخدمه, لكنه مخير في هذا التسخير: هل يشكر الله أو يكفره.

هل الحيوانات تركب عقليا في مجالها؟ الحيوانات تفكر والتفكير يدخل فيه تركيب ولكنه بسيط على قدر عالمها, وعندها ذاكرة, فانظر إذا ضربت حيوان حين رآك مرة أخرى يهرب منك أنت بالذات وإذا دللته يقصدك أنت بالذات, وهذا بالذاكرة وليس فقط بالرائحة, فترى الكلب أحيانا ينبح عليك وإذا اقتربت ورآك غيّر رأيه. لهذا كل العمليات العقلية عند الإنسان هي عند الحيوان, لكن الاختلاف في تركيبة الشعور نفسه, فالمعرفة هي شعور في أساسها, فكلمة عقل معطاة أكبر من حجمها فالعقل في أساسه مكون من شعور متكرر, فمعرفتنا أن النار خطرة أتت بعد تجربة متكررة من الشعور بالنار, إذن يمكن أن نبدل كلمة "نعرف" بكلمة "نشعر".  نحن نشعر أنه إذا أضفنا واحد إلى واحد ظهر شيء مختلف أسميناه اثنين, لكننا لا ندري ما هو الإثنين, لهذا فالمعرفة من الله, القط لا يعرف هذه المعرفة, فلو تضع أمام القط قفصين قفص فيه إناء حليب والآخر فيه إناءين، فلن يعرف أن هذين إناءين وبالتالي فيهما كمية حليب أكثر من الإناء الواحد, بل سيتجه للأقرب والأكثر أمنا, بسبب أن شعوره لم يؤت التمييز الذي هباه الله لشعور الإنسان, فما جعله حيوان شعوره وليس عقله, فشعوره حيواني أي مجاله ضيق مقارنة بالإنسان. لو كان الحيوان أوتي المعرفة التي عند الإنسان لقال مثلا لأركب على ظهر هذا الغزال لينقلني معه ويريحني, فهو لم يلاحظ أن الغزال صالح كوسيلة نقل, لذا الحيوان لا يتعلم أبدا, ولماذا يتعلم؟ فليس لديه الحاجة للتعلم لأنه مسخر ولا يحب أن يتغير بل لا يستطيع, خلافا لرأي التطوريين. حيوانات السرك يعلمونها لكن هي نفسها لا تريد أن تتعلم, وهي تعمل هذه الحركات من أجل الأكل, بدليل أنه حالما تخرج من السيرك إلى الطبيعة تتخلى عن هذا التعليم. حتى الإنسان المتخلف العقلي هو لا يريد أن يتعلم وهنا مشكلته, ومحاولة تركيزه على الموضوع حين تشرح له معاناة بالنسبة له, وتكون ردة فعله بفرط الحركة أو بتغيير الموضوع أو بالسخط حتى.


بالأخير, هذا المفهوم عن الفرق بين عقل الإنسان والحيوان ينفي فكرة التطور من جذورها, لأنهم يعتبرون ذكاء الحيوان مرحلة مررنا بها وتطورنا منها.  

الثلاثاء، 14 فبراير 2017

خرافة التفاوت الفطري بين العقول


فكرة أن هناك شيء يفهمه أحد من البشر و أحد لا يستطيع أن يفهمه فكرة سخيفة, مثل قولهم أن النظرية النسبية لأينشتاين لا يستطيع فهمها إلا الندرة, أو نظرية التطور أو نظرية الكم أو غيرها. العقل البشري أساسه واحد لكن الاختلاف بين العقول يكون في الإهمال والتركيز, والذكاء عبارة عن سرعة في إجراء العمليات العقلية واستفادة من مخزون الذاكرة وليس شيئا خارقا للعادة لا يملكه إلا ندرة والبقية محرومون منه. ثم إن عقل الإنسان محدود وليس مفتوحا حتى يقولون تحتاجون مئات السنين حتى تصلوا لمستوى عقل أينشتاين أو غيره.

ثم, هل واجهت العلوم الثابتة هذه المشكلة: أن أكثر الناس لا يفهمونها و قلة من يفهمها؟ هل هناك أحد طُرِد من قسم الكهرباء مثلا لأن عقله لا يستطيع أن يفهم مع أنه يريد أن يفهم؟ وهل هناك طالب لم يفهم دروس الجمع والطرح في الرياضيات رغم أنه يرغب أن يفهمها؟ طبعا لا, إذن المشكلة في نظرياتهم وليست في عقول الناس, فالعلم الثابت يفهمه الجميع إذا بذلوا المجهود اللازم. إذن أساس العقل البشري واحد والاختلاف يكون في الدافعية والاجتهاد والثقة بالنفس, ولاحظ أنها أمور معنوية خارجة عن العقل نفسه.

والتعليم لا يعني بالضرورة بناء عقل, لأن أكثر الإبداعات أتت من أناس غير متعلمين. و كم من أناس كانوا يعانون من صعوبة مجال ثم صاروا يحبونه, فهل تطورت عقولهم؟ هي نفسها لكن الدافعية اختلفت. اختلافات العقول أسبابها خارج العقول وليست من العقول نفسها. ولاحظ الأطفال الذين عندهم فرط حركة كيف يعانون من عدم الفهم, ليس بنقص في عقولهم بل لأنهم مشغولون عن التركيز الطويل. إذن التفاوت الفطري بين عقول البشر والفروق الحادة بينها خرافة ويدعمها الماديون التطوريون خاصة.

بعبارة أخرى, المعلومة الرياضية الواحدة التي يعرفها كل إنسان هو قد عرفها, لو كان هناك تفاوت في العقول لاختلفت المعرفة, فـ5+5=10 يعرفها أينشتاين ويعرفها الطفل بنفس الدرجة, فالمعلومة المفردة الواحدة من عرفها فقد عرفها كغيره بلا تفاوت بين العقول, لو كان هناك تفاوت في العقول لظهر هنا. وحواسنا مشتركة وليس للأذكياء حواس مختلفة عن حواس غيرهم, فالقمر نراه كلنا بنفس الدرجة دون اختلاف, لكن المشاعر والعواطف تختلف, فأحد يرى جمال القمر وأحد ينظر له بشكل علمي تركيبي, لكن بالنسبة للعقل الرؤية واحدة, بدليل أن كل شخص يصفه بنفس الأوصاف, فلا أحد يرى القمر أخضر مثلا بل الكل يراه أبيض.

العقل يعتمد على المعرفة, ومادامت المعرفة واحدة ودخولها واحد إذن العقول أساسها واحد و من نفس المستوى, فلا فرق بين عقل أينشتاين وعقل غيره, التفاوت يكون في الاجتهاد والدافعية والمران وحب المجال, فأحد يبيع ويشتري كل يوم ستنبهر من سرعة حسابه, قد تظن ذلك بسبب ملكة عقلية خاصة به, وهي فعلا قدرة عقلية لكنها ليست خاصة به بل لأنه تمرن, ولو تمرن غيره لصار مثله.

من يتكلم عن الذكاء غالبا ينظر للنتيجة وليس للأسباب, فيرى إنسانا يعرف علوما دقيقة ومتشعبة ويحفظ أرقاما صعبة فيقول: هذا يملك عقلا ذكيا, لكن لا ينظر إلى أنه يملك حماسا ودافعية قوية لهذا المجال لا يملكها غيره, فما ميّزه أن لديه عاطفة قوية أكثر من غيره في هذا المجال وليس ذكاءً, وقد يكون أحمقا في مجالات أخرى, أو قد يكون دقيقا في الجزئية وفاشلا في الشمولية.

وعلى هذا ليس صحيحا أنه فقط أناس محدودون يستطيعون وحدهم فهم النظرية النسبية وغيرهم لا يستطيع, كل البشر يستطيعون فهم ما يمكن فهمه, أي: ما يفهمه إنسان يمكن أن يفهمه أي إنسان, لكن مثل تلك النظريات كنظرية الكم صعوبة فهمها في أنها أصلا غير متكاملة الصورة بشكل منطقي, ومن يقول أنه فهمها فهو آمن بها أكثر من غيره وليس أنه فهم أكثر من غيره. تماما مثل فهم بعض الشعر الرمزي الحداثي, فالمشكلة ليست أنه يتطلب ذكاء عالي بل المشكلة أنه غير واضح من ناحية منطقية, فالإنسان يفهم من خلال المنطق وغير المنطقي لا يمكن أن يُفهَم. لو كان شعرا معقدا لكن على أساس منطقي فيمكن فهمه, مثل بعض أبيات المتنبي أو أبو العلاء المعري, حين تركز أكثر ستفهمها. 

أحد شعراء الحداثة يقول أنه يكتب فقط لمئة شخص في العالم العربي وهم فقط من يفهمونه, ولا أظن أن واحدا من هؤلاء المئة يستطيعون أن يفهموا بالضبط ما قصده هذا الشاعر, لكنهم يرحبون به لأسباب أخرى غير الفهم. ومثله اللوحات السيريالية, لا يوجد فهم لها لكن هناك رغبة وإرادة أو خيال يصبغه المتلقي على هذه اللوحة لكن الفهم ليس من اللوحة نفسها, حتى يقال أنه بمعرض لرسومات سيريالية كان ناقد يشرح لوحة ويتكلم عنها بحماس والمشاهدون يستمعون, حتى جاء الرسام وقال: لحظة, اللوحة مقلوبة! هذا الفن الحديث يشبه النظريات العلمية الحديثة, لا يمكن فهمها لافتقارها للمنطق وليس لعمقها أو تعقيدها كما يصورون, أي مثل طلاسم السحرة . ويا ترى, هل نقول أنه ولى عصر الفهم وجاء عصر السحر الطلسم؟ وهل نكذب وندعي أننا فهمنا حتى لا يقال أننا أغبياء بالرغم أننا لم نفهم؟! ما الدافع إلى عدم الوضوح؟ ومتى يضطر الإنسان إليه؟ هنا المشكلة, غالبا الكذاب وذو المقاصد الخفية هو من يقدم غير الواضح لكي يخدع الناس. حين تقرأ للأدب الكلاسيكي أو الرومانسي تستطيع أن تفهم, لكن أدب الماديين أكثره لا يمكن أن يُفهم.

وأنا لا أنفي الذكاء لكن ليس سببه العقل نفسه بل الدافعية, أما العقول فهي واحدة, وبالتالي من يعرض دماغ أينشتاين للناس هو يعرض دماغا مثل دماغ أي إنسان آخر بلا اختلاف, فالمخ عبارة عن موصلات فقط.. بعبارة اخرى من يعرض دماغ أينشتاين على أنه عقل فريد من نوعه هو يقوم بعمل غبي جدا.

كثيرا ما يهمل الناس أهمية الدوافع (الشعور) ويركزون على النتائج. إن كشف الدافعية هو ما يكشف لك حقيقة الناس, هل هم طيبين أم أشرار, هل مرضى أو أصحاء, هل هم يحبون العلم أم ما وراء العلم من مصالح خاصة.

الجمعة، 10 فبراير 2017

فلسفة الخوف والفرح



الشعور الإنساني بطبيعته خائف, لأنه لولا الخوف لمتنا. وجسمنا مصمم للخوف أكثر, فلدى الجسم العديد من الإجراءات للتعامل مع الخوف كأن تتسارع نبضات القلب وتبرد الأطراف وتفرغ الأمعاء والمعدة محتوياتها ويتعرق الجلد ويتلعثم الصوت ويحصل اضطراب بدرجة الحرارة وفي ضغط الدم وقد يشعر الشخص بالدوار أو الإغماء ...إلخ, كل هذه وغيرها مظاهر للخوف, لكن حين الفرح ليس هناك إجراءات كثيرة يقوم بها الجسم.

والخوف أمر طبيعي وليس عيبا كما يتصور أكثر الناس, بل هو من العقل السليم, لكن يكون الخوف مشكلة حين يتركز في نقطة معينة فيكون على شكل فوبيا وخيالات غير واقعية, كالخوف من الأماكن العالية أو الخوف من الاجتماعات (الرهاب الاجتماعي), لكن من خَوفه موزع بشكل شمولي هذا هو الإنسان العاقل. ويكون عاقلا جدا إذا صار من أخطارٍ ليست قريبة لكنها منطقية, لكن هناك من يخاف مما يمس ما حوله والقريب منه أما الأحداث البعيدة مهما كانت خطيرة لا يخاف منها مع أنها في الأخير لها علاقة به, كالخوف من عذاب الآخرة .

هناك من لا يخاف من أشياء مخيفة, وهناك من يخاف من كل شيء على مبدأ "من خاف سلم", وهناك من يخاف من أشياء وهمية, والعاقل من يوظف خوفه في موضعه السليم. 

والله وصف المؤمنين بأنهم يخشون ويخافون-ويصبرون-, لكن مخاوفهم متعددة وواسعة حتى ما بعد الموت, و يخاف حتى على غيره وليس فقط على نفسه وأولاده والبقية للطوفان, {إنا كنا في أهلنا مشفقين}. إذن لماذا الخوف يُنظر له كأنه مرض أو عيب؟ هو من العقل, لكن اجعله موزعا وليس محصورا ومركَّزا فيستغله الشيطان ويمرضك فيه {ذلكم الشيطان يخوف أولياءه}, لأن الأمراض النفسية كلها عبارة عن خوف متجمع, فالوسواس القهري خوف متركز بأشياء تافهة, و الاضطهادية عبارة عن خوف وهمي, إذا تمادى الإنسان مع هذه الأوهام والظن بأن كل الناس يتآمرون عليه ويضمرون له الشر حتى من يحبونه سيدفعه الشيطان أيضا إلى أن يتخذ إجراءات فيبدأ يعتدي على أناس يحبونه, أي أدى به إلى الجنون.

رحلة الإنسان في حياته هي أن يحقق ما في شعوره ويحافظ عليه. هناك من يكمل المشوار ويحقق ما يريد الشعور حتى الدوائر العليا, وهناك من يقف عند الدوائر الدنيا كالملاحدة. 

وقد يقول أحد أن توزيع الخوف بشكل شمولي يجعل حياة الإنسان متعبة ومليئة بالمخاوف, لكن ليس شرطا أن كل خوف يسبب تعبا, فلاعب الجمباز مثلا كل حركاته هي بدافع خوف لكنه مستمتع بالتخلص من مخاوفه, ما يتعب هو الشك أنك ستنجح أو تفشل. وتعب الخوف أيضا يأتي من التركيز على خوف معين وإهمال الباقي, أي من التطرف في الخوف, لهذا فالشمولية حاجة شعورية. الشعور الإنساني يحب التنوع والتوسع, والعامي هو من ينصب اهتمامه على ما يتعلق بحياته اليومية, والملحد يؤطر هذا فكريا, فالملحد عبارة عن عامي لكنه يفلسف العامية ويراها منهج حياة.

هذا الموضوع من أساسات بناء عقل الإنسان. من عنده فوبيا فهو بهذه الناحية مهمل للعقل, والشيطان يترقب الإنسان متى يخرج عن العقل حتى يستغله, وأي نقطة عندك فيها صناعي -أي عدم منطقية- سيستثمرها الشيطان, لهذا الله أشاد بأهل العقول. فالعقل والأخلاق والإيمان تمشي معا, إذا انفصلن تحصل المشاكل, والله سمى المؤمنين أولي الألباب, ولو كسروا المنطق سيخرجون إلى الصناعي, فهناك ترابط عجيب بين الأخلاق والعقل.

والفرح في أساسه تخلص من خوف ورجوع للأصل, لهذا نفرح. ولهذا الله لم يصف المؤمنين بالفرحين بل بالمطمئنين, بل ذم الفرحين في مواضع عديدة في القرآن, وهذا موضع تأمل وتدبر أن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي يذم الفرح والفرحين –الفرحين بما أوتوا وليس الفرحين بانتصار الحق على الباطل-, لأن المبالغ بالفرح يتخيل أن الدنيا تغيرت وأصبح قادرا عليها وهذا يدعو للطغيان والغرور, بينما هو فقط رجع للوضع الطبيعي في هذه الجزئية, فمن كان خائفا أن يكون فيه مرض خطير وتبين أنه ليس فيه سيفرح, لكن فرحه بسبب أنه عاد للأصل السليم وليس بسبب أنه كسب شيئا جديدا, وحتى لو كسب فالكسب نفسه وهم لأننا نملك أِشياء وهي إما ذاهبة أو نحن ذاهبون عنها, فكل شيء يتفرق عن الإنسان إلا عمله وكسبه من خير أو شر فهو يلازمه حتى بعد موته. لهذا الله في القرآن ذم الفرحين لأنهم يفرحون بأشياء زائلة, {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}, {وفرحوا بالحياة الدنيا و ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع}.

والرسول صلى الله عليه وسلم لم يُقم حفلات وولائم حين فتح مكة بل دخل مطئطئا رأسه مستغفرا ومسبحا وراحما حيث أطلق سراح جميع الأسرى الذي أساؤوا له ولأصحابه, لأنه يريد أن يغفر الله له, وأصحابه أيضا يريدون أن يغفر الله لهم بمغفرتهم لأعدائهم فلم يعترض أحد منهم رغم أنهم متضررون من قريش أشد الضرر. فكيف تريد الله أن يعفو عنك وأنت لا تعفو؟ قال تعالى: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم} وهذا من مفاتيح المغفرة, هذا هو الإسلام الصافي : ارحم تُرحم واغفر يُغفر لك, لا ترحم لا تُرحم ولا تغفر لأحد لن يغفر الله لك, فلا يتناسب أن إنسانا لا يتسامح مع أحد ويريد من الله أن يتسامح معه, فالله يربط عفوه بعفونا للناس بموجب الآية.

إذن لماذا لا يكون الإسلام هو دين التسامح وليس المسيحية؟! قال تعالى: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون} فهؤلاء أناس لا يرجون الله ولا تهمهم الأخلاق ولا القيم ومع ذلك يقول الله اغفر لهم ولا تطاوع كرهك لهم, مع أن إساءتهم من نوع من لا يرجو أيام الله بأن يجدّف ويفعل ما يشاء شيطانه, لكن الله هو من سيحاسبهم وليس نحن. إذن الإسلام هو دين التسامح الحقيقي لأنه مبني على أساس متين وهو أن مغفرة الله لنا مبنية على مغفرتنا لغيرنا. 

المفتاح الثاني للمغفرة هو أن يراك الله وأنت في قمة الفوز والنصر ومع ذلك لم تنسه ولم تنس نفسك وتستغفر الله معترفا بنقصك وضعفك وصغرك أمام الله, هذا أحسن من الاستغفار وأنت في حالة ضُر وضعف. مثل هذه المواقف هي أوقات للاستجابة وليست الاستجابة مرتبطة بأزمنة معينة. و قديما قالوا اعرف الله في الرخاء يعرفك في الشدة, والله ذم الكفار بأنهم إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين وإذا نجاهم يشركون, ولم ينفع إيمان فرعون حين رأى الموت. وهذه ميزة الإيمان الحقيقي أن يجعل المؤمن يذكر الله في الرخاء أما في الشدة فحتى الكافرين يذكرون الله. و في أمر الله لنبيه محمد بالاستغفار حين فتح مكة هو أمر بفعل يختلف عن ردة الفعل العادية عند الناس حين النصر وهي الشكر والفرح, بل أمره بالاستغفار -مع الشكر طبعا-. والأنبياء حريصون في مواقف الخير ألا يلهيهم الخير عن حقيقة الدنيا وأنها اختبارات فما يميز الأنبياء أنهم يعرفون الله في الرخاء كما يعرفونه في الشدة. فالله لا يحب الفرحين بما أوتوا, لأنهم يتصورون انهم سيطروا على الدنيا و أنهم قادرون عليها, {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة}.

لكن الطمأنينة غير الفرح, فالطمأنينة هي أن تستقبل الأشياء المفرحة كما تستقبل الأشياء المحزنة, {لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم}, فلا ينهار الإنسان ويضيّع حياته بسبب مصيبة وأيضا لا يغتر بخير أتاه و يعميه . والله لم يعد المؤمنين بحياة فرح وابتهاج واحتفالات بل وعدهم بطمأنينة وحياة طيبة, والمبالغة بالاحتفالات تأتي بسبب نقص الطمأنينة أصلا ومحاولة التلهي عن الآلام العميقة في النفس.