الشعور فيه دوائر : دوائر عليا ودوائر
دنيا. الدوائر الدنيا هي التي تتعلق بالجسم أو بالناحية المادية من الإنسان،
والدوائر العليا تتعلق بالنواحي المعنوية. وسبب وصفها بالدوائر لأن الطلب الشعوري
يدور فيها، ويأتي على شكل نوبات، وكل طلبات الشعور الدنيا والعليا تأتي على شكل
نوبات، فالنوم مثلاً - وهو من الدوائر الدنيا - يأتي على شكل نوبة، وعندما تنشغل
عنه تنفكّ هذه النوبة حتى يأتي في نوبة ثانية، وكذلك الجوع والإخراج والجنس أيضا،
لذلك يمكن تسمية الشعور بأبي النوبات.
كذلك الدوائر العليا تأتي على شكل
نوبات، فالكآبة تأتي على شكل نوبات، ثم تنفكّ من نفسها وهكذا، وحتى تأنيب الضمير يأتي
على شكل نوبات.
النوبات الشعورية بشكل عام إما أن تأخذ
طريقها للإختفاء تدريجيا أو للحضور أكثر تدريجيا، فمثلاً الحاجة للتبول تجد نوبته الأولى
أسهل من الثانية، وكذلك نوبات النوم ونوبات الجوع، وهي نوبات تصاعدية، يؤيد ذلك ما
قاله الشنفرى في مواجهته لنوبة الجوع إذ قال :
أديم مِطال الجوع حتى أُميتُه
وأضرِب عنه الذّكر صفحاً فأذهلُ
والنوبة التصاعدية - على مستوى
الدوائر العليا - توجد في الكثير من حالات الكآبة، فكل نوبة تأتي أصعب من التي
قبلها، وهذه النوبات هي المسؤولة عن أكثر حالات الانتحار إن لم تكن كلها، وقد تتزايد
هذه النوبات من الكآبة بسبب حالات الإهمال للدوائر العليا ورفض الإستماع لتأنيب
الضمير استجابةً لدوائر الشعور الدنيا، كأن من يفعل ذلك ضحّى بالدوائر العليا للشعور
من أجل الدوائر الدنيا، أي كأنه ضحّى بروحه من أجل جسده، معتقداً أنه قد تخلص بهذه
الطريقة من هواجس الوجود والفضيلة والأخلاق والضمير، لكنها في الحقيقة تبتعد فقط ولكن
لا تنتهي، إذ إنها تعود متكثّفة إلى سمائه كغيمة سوداء قاتمة، لهذا لا يستطيع أن
يعرف ما سبب هذه الكآبة، التي هي نتيجة لأسباب كثيرة وحلول خاطئة في التعامل مع النوبة
السابقة، فيزيد في الإثم رغبةً في الهروب للأمام، فتزداد سحابته تكثفا، ولا يستطيع
أن يعرف السبب، وذلك لأنها أسبابٌ كثيرة متداخلة مع بعضها، وهذه السحابة السوداء
المظلمة تنتظر أن تتجمع أشياء منغصة على الشخص لتهجُم بثقلها على قلبه. قال امرؤ
القيس :
ولَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى
سُدُوْلَــهُ
عَلَيَّ بِأَنْـوَاعِ الهُـمُوْمِ لِيَبْتَلِــي
عَلَيَّ بِأَنْـوَاعِ الهُـمُوْمِ لِيَبْتَلِــي
فَقُلْـتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّـى
بِصُلْبِــهِ
وأَرْدَفَ أَعْجَـازاً وَنَاءَ بِكَلْكَــلِ
وأَرْدَفَ أَعْجَـازاً وَنَاءَ بِكَلْكَــلِ
ألاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيْلُ
ألاَ انْجَلِــي
بِصُبْحٍ وَمَا الإصْبَاحُ منِكَ بِأَمْثَــلِ
بِصُبْحٍ وَمَا الإصْبَاحُ منِكَ بِأَمْثَــلِ
إن الدوائر الدنيا مرتبطة بالشخص، والدوائر
العليا مرتبطة بغير الشخص (الخالق والمخلوقين والمخلوقات)، أما الحيوان فليست لديه
دوائر عليا، لذلك الحيوان لا يعرف الأخلاق، بل يعرف المصلحة التابعة للغريزة فقط.
إن أيديولوجيا الإلحاد تريدنا أن
نتجرد من الدوائر العليا ونرتبط بالمصلحة فقط، أي نصبح كالحيوان، أو أن نُخضِع الدوائر
العليا للدوائر الدنيا، فمثلا إذا اقتضت مصالحنا أن ندمر ونقسو، فلنفعل، وإذا تمت
المهمة ننفّس عن بعض الدوائر العليا ببعض الكلمات او التصرفات أو المساعدات اللبقة،
مثلما نشاهده في بعض الأفلام، بعد أن يقضي الممثل على خصمه وينفخ طرف المسدس، يقول
: لقد كان رجلا محترما. إن ايديولوجيا الالحاد تقرّ أن أصل الإنسان حيوان، وتشرّع
لحياة الإنسان ما تشرّعه حياة الحيوان. مجرد دوائر دنيا فقط.
كما أن هناك نوبات تنازلية في الدوائر الشعورية، مثل نوبات العقد النفسية التي بدأت بالإنحلال، ومثل نوبات الضمير عند من يريد أن يُمِيت ضميره، ومثل نوبات اشمئزاز الشعور من منظر الدماء، كحالة الأطباء الذين اعتادوا على رؤيتها.
إن احترام الدوائر العليا مهم، لأن
عدم الاستجابة لها أمرٌ في غاية الخطورة، على الرغم من أنها غير مُلزمة وتبدو للشخص
أنه يستطيع أن يعيش بدونها، إنها قوانين صارمة لكنها غير ملزمة، مع أنها مؤثرة.
فتجد بعض المغتربين مثلا يبكون ويتمنون العودة لأهلهم وأحبابهم، مع أنهم اغتربوا من
أجل المصلحة. وهنا علينا ألا نفكر بمعزل عن حُبّنا.
للأسف أننا إذا جاعت الدوائر الدنيا
لدينا فإننا نكرمها، أما الدوائر العليا فلا نكرمها إلا قليلاً، مع أن إكرام
الدوائر الدنيا والزيادة في تلبيتها يؤدي لمشاكل حتى على الصحة، والمشكلة الحقيقية
هي أن الدوائر العليا فتاكة عند عدم تلبيتها ولكن ببطء وبأشكال غير متوقعة، سواء
على النفس أو على الجسم، فهذه الدوائر تبكي وتحتاج منّا الإهتمام لكننا نتجاهلها ونمنعها،
فالملحد مثلا يضغط على شعوره بتجويع الدوائر العليا لديه ويتمنى أن لا يحس بألمها.
إن الدوائر العليا تريد الارتباط
بالله أولا، وتريد من الشخص أن يكون رحيما ويعيش بجو من الألفة والمحبة مع من يكون
معهم، وتريد أن تكون الإنسانية مقدمة على المصالح، وكون الشخص يسعى لتحقيق ما تريده
الدوائر العليا فإنها ترتاح حتى لو لم يتحقق ما تريده هذه الدوائر، فالأهم لديها هو
أن يسعى. إن الدوائر العليا تريد أن يعيش الشخص بأمان وأن يعمل ويستغل وقته ويصبر
ويتحمل وأن يكون أخلاقيا وسيّد نفسه وواثق من نفسه ويتعلم، أي تريده أن يكون إنسانا
وأخلاقيا ويحب الآجل أكثر من العاجل، بعكس الدوائر الدنيا. لذلك الجنة فيها
ما تشتهي الأنفس من أجل وضع أملٍ آجل للدوائر الدنيا والعليا، فما لم يتحقق هنا في
الدنيا بسبب منع الدوائر العليا سيتحقق هناك في الجنة إن شاء الله، وهنا تبقى كل
الدوائر الشعورية على أمل لا ينقطع، لأن انقطاع الأمل يسبب اليأس، وما لم يحصل
عليه الشخص في الدنيا سيحصل عليه إن شاء الله في الآخرة. قال تعالى عن أهل الجنة :
(ولهم فيها ما يدعون).
ما تريده الدوائر العليا باختصار هو
(الإيمان بالله + الأخلاق)
كما قال تعالى : (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما).
إن الدوائر العليا هي النبي الداخلي
فينا، وعلى أساسها آمن المؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام بسبب تطابق ما يقوله
مع إحساسهم - أي مع دوائرهم العليا - ، وذلك لأنهم كانوا يحترموها، فكأن قول
الرسول وضع النقاط على الحروف، ولهذا آمنوا، وإلا فما الذي يدفعهم للإيمان وتغيير
الدين ومواجهة المجتمع سيّما وأن أكثرهم ضعفاء؟ أي مصلحة لهم في هذا؟
يعلّل ويعرّف الملاحدة الشيوعيون الدين
بأنه عبارة عن صراع طبقات، أي صراع اقتصادي بين الطبقات الاجتماعية، وأن محمدا وأتباعه
عبارة عن ثوّار ضد البرجوازية القرشية، مع أن الواقع أنه لم يتحسن دخل الفقراء
المؤمنين حتى بعد إسلامهم، بل إن مسلمين أوائل كانوا أغنياء وتحوّلوا إلى فقراء،
مثلما حصل مع عبد الرحمن بن عوف وزيد بن عمير وغيرهم عندما خرجوا من مكة فقراء
وكانوا أغنياء، فزيد بن عمير مثلاً كانت أمه تغسل ثيابه بالعطر لأنها كانت من أغنياء
مكة، وعندما قُتل أكملوا تكفينه بالشجر لأن كفنه لا يغطي جسمه.
لاحظ أن أصحاب المصالح لم يؤمنوا، والمؤمنون تحمّلوا ما أصابهم من أذى، فأين هي المصالح؟ ولماذا تحمّلوا الأذى الذي وصل إلى القتل مثلما قُتلت سمّية أم عمّار رضي الله عنهما؟ هل كانت طامعة بثروات البرجوازيين لكنها قُتلت؟ ما هذه التفسيرات؟ إن الذين قتلوها كانوا يقولون لها : سبّي محمدا وإلهه وإلا سنقتلك، ورفضت ذلك، ولهذا قُتلت.
إن المؤمنين صدّقوا الأنبياء بناء على
ما لديهم في شعورهم، أي نبي داخلي يصدّق نبي خارجي، بينما الملاحدة آثروا الدوائر
الدنيا ليتحولوا إلى حيوانات، لذلك يقول تعالى (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل
سبيلا)، أي آثروا الحيوانية على الإنسانية، و هم يقرّون بذلك، وهذا معنى قوله
تعالى : (قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها)، وقال المتنبي :
لولا المشقة ساد الناس كلهم ،،
الجود يفقر والإقدام قتال. .
لاحظ أن الفقر والقتل مرتبطان
بالدوائر الدنيا، والجود والإقدام دوافعٌ من الدوائر العليا.
العقل هو شعور متكرر ومتجمد يُستعمل عند اللزوم، وبذلك الدوافع تأتي من الشعور بقسميه الأدنى والأعلى، والإنسان الذي يُؤثِر الدوائر العليا سيكون إنسانا متعلما ذا عقل قوي لأنها تدفعه للتعلم، أما المرتبط بالدوائر الدنيا فسيكون مرتبطا بالمصلحة، ولن يُعمِل عقله إلا عندما تكون هناك مشكلة، مثل المُساهم المالي عندما يكسب فإنه لا يَسأل من أين يأتي المال، وعندما يخسر يسأل أين ذهب مالي.. هكذا هو الفرق بين عقل المؤمن وعقل المصلحي.
المادي لا يُعمل عقله إلا إذا واجه
مشكلة، أما المؤمن فإيمانه يدفعه للمعرفة والعلم حتى لو لم يعاني هو من المشكلة.
لهذا قامت الحضارات حول الأديان ودور العبادة وليس حول الأسواق، لكن الأديان
يعتريها التخريب والتسوس كأي شيء مفيد وجميل معرَّض.