الخميس، 6 أغسطس 2020

التعامل مع الله، وغفران الله وعقاب الله

التعامل مع الله يجب أن يكون أخلاقيا، وفي أعلى مستوى من الأخلاق، أعلى من مستوى الأخلاق الذي نسمعه في قصص العرب وروايات شكسبير مثلا، وهذا يتجسد في تعامل الأنبياء مع ربهم، انظر إلى إسماعيل وإبراهيم كيف صدّقا الرؤيا، وتلّ إبراهيم ابنه للجبين ليذبحه برضاه وتسليمه، حينها أحبهم الله وقال لإبراهيم : لقد صدقت الرؤيا ، وقال : وفديناه بذبح عظيم، لأنهما حققا المستوى العالي من الأخلاق الذي يتناسب مع التعامل مع الله الكامل، كل صفات الله كمال وكل ما يصدر منه كمال، الله غفور رحيم والله شديد العقاب، كل ما يأتي منه وما يفعله كامل، والتعامل معه يجب أن يكون كاملا، على الأقل على مستوى النية، لأن الإنسان ضعيف، لذلك الله لا يقبل الشرك ولا التناقض ولا النفاق. قال تعالى : (إلا من أتى الله بقلب سليم).

 

 لو كان الله سبحانه بشرا لما احتجت ان تتعامل معه بهذا المستوى الأخلاقي الراقي، فشخص تحبه أو رجل عظيم مثلا أشار عليك أن تذبح ابنك، فلن تطيعه، فما بالك أن يطيع إبنك أيضا! كذلك النبي سليمان عندما قال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب، اذ تعرض عليه بالعشي الصافنات الجياد، والعشي وقت صلاة، فلكي يكفّر هذه الجريمة الأخلاقية مع الله كما يتصورها هو، قال : رُدّوها علي، فطفق يضرب أفاضل وأحاسن وأجمل الخيل بالسيف، يعقرها ويذبحها بالسيف، لكي لا تنخدش العبودية لله، وحتى لا ينجرح الخيط الأخلاقي بينه وبين الله. لذلك قال تعالى لنبيه : (فبهداهم اقتده).

 

الله لا يقبل الشرك معه في أي شيء، لان الشرك يعني حبُّ شيء وإثارته على الله، وهنا يتخلى الله عنك. المهم أن نفهم أن التعامل مع الله هو في أعلى مستوى أخلاقي نستطيع أن نطيقه، ولن نطيقه بالكامل، ونسأل الله المغفرة. البشر لا نتعامل معهم بهذا المستوى الأخلاقي الحاد جدا، مثل البدوي الذي أراد أن يذبح ابنه للضيوف، هنا تكون رذيلة، لكن أن يذبح إبراهيم ابنه لله فهنا فضيلة، لأنك في الحالة الأولى أعطيت شيئا ثمينا لمن لا يستحقه، فالله هو أهل التقوى بكل صورها ودقتها، وأهل المغفرة لنقصنا في التقوى، لأن هذا المستوى العالي لا احد يستطيع أن يطيقه، لذلك نسأل الله المغفرة، لهذا دعاء المؤمنين : (ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به).

 

لاحظ الابتلاءات التي جاءت الأنبياء، لا يتحملها البشر العادي، إلا من محّص الله قلبه للتقوى وعرف الله حق معرفته، لذلك اصطفى الله الأنبياء، فهم يحبون ما يحب الله. من يصبر كصبر نوح الذي دعا قومه سرا وجهارا لمدة تسعمائة وخمسين سنة، ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا؟ تأتي أجيال وتسخر به، وتأتي بعدها أجيال بنفس الوضع.

 

هذا الكلام يرد على من يقول أن تفعل ما تريد وتقول أن الله غفور رحيم، هذا توجّه إرجائي، نعم الله غفور رحيم لمن تاب وآمن وندم وأحسن عملا. من يتعامل مع الله بأعلى مستوى أخلاقي يستطيعه فليبشر بالخير، لان الله غفور رحيم لمثل هؤلاء، وليس لمثل أولئك المذكورين.

 

الله هو قمة الأخلاق، وعلى هذا الأساس تتعامل معه، فإن كان فيك تكبّر فلن يحبك، وإن لم يحبك فلن يغفر لك، لأن مغفرته تابعة لحبه، والله لا يحب الخائنين إلا إن تابوا وآمنوا وأصلحوا ما أفسدوه. الله لا يحب الظالمين ولا يحب المفسدين ولا يحب كل مختال فخور، ولا يحب المتكبرين ولا يحب الظالمين ولا يحب الفرحين، إلا إذا تابوا وأصلحوا.

 

هناك علاقة بين المغفرة والحب، قال تعالى: (أرضيتم بالحياة الدنيا عن الآخرة)، أي أن الله لا يحب من يتعلق بالحياة الدنيا ويرضى بها، لأنه لا يرجو الله ويحب الدنيا، فكيف يغفر ويعفو عمن لم يحبه ويحب الدنيا أكثر منه؟ هنا هو يؤثِر الباطل على الحق، فكيف يحبه ويغفر له؟

 

لو أن شخصا خانه صاحبه الذي يثق فيه مع أنه أحسن إليه، ثم غفر له ولا كأن شيئا قد حدث، الآن أصبح لدينا مخطئين وليس مخطئ واحد، لأنه لم يتب ولم يعترف بخطئه، إذن مغفرة الله لمن لا يستحق تعتبر صفة نقص وضعف، والله حاشاه أن يكون كذلك. وفي المقابل شخص أخطأ في حقك ولكنه ندم واعترف وحاول أصلاح أخطائه وأحسن سيرته، إذا لم تغفر له وتعفو عنه ستكون أنت المخطئ والأقل أخلاقا، والله لا يُغلب في الأخلاق، لا يعذّب أحدا تاب وندم، وإلا ستكون صفة نقص، والله حاشاه عن النقص الأخلاقي، وعلى هذا نفهم عفو الله ونفهم عقابه الشديد أيضا. يقول تعالى (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون).

 

إرادة الله مربوطة بأخلاق الله، والله ليس بظلام للعبيد، وهو شديد العقاب، وغفار لمن تاب وآمن وأصلح واهتدى.

 

الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إذن لا بد أن تحافظ على الأخلاق بأدق تفاصيلها مع الله، لأنه يعلم ما في قلبك ونظراتك، قال تعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا). حتى ما يدور في قلبك انت مسؤول عنه. قال تعالى: (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء). هكذا الدين الحقيقي يعلّم الأخلاق، لأن الإنسان هكذا سيصبح معتادا على التعامل الأخلاقي في أعلى مستوى، إذن التعامل الأخلاقي مع الناس يعتبر أسهل، لأنهم لا يحتاجون المستوى الأعلى من الأخلاق، وذلك لأنك لست عبدا لهم. وهكذا نفهم أن الدين أخلاق مع الخالق والمخلوقين والمخلوقات.

 

إن الله ربط الرحمة بالإحسان، والله يحب المحسنين، ويغفر لهم، قال تعالى (إن رحمة الله قريب من المحسنين). لاحظ حذف التاء المربوطة في "قريب"، دلالة على شدة القرب.

 

تصوّر الإنسان عن الله يحدد معالم دينه وأخلاقه ونظرته للحياة، لأن الله هو الأول والآخر، هناك ديانات تنظر إلى الله نظرة خاصة، كأنه يحابي فئة دون الفئات الأخرى، وبالتالي يغفر لهم، وهناك فئة تنظر فقط أن الله غفور رحيم، وكأنهم يقولون بطرف خفي: افعل ما تشاء فالله غفور رحيم، وهناك من يتصور ان الله شديد العقاب فقط، فتتحول حياته إلى الشدة والصلافة على نفسه ومن حوله، لكن كيف الجمع بين كون الله شديد العقاب وأنه غفور رحيم؟ لا يمكن فهمها إلا في وضعها في بحر الاخلاق. حينها تستطيع ان تعرف ان الله غفور رحيم وان الله شديد العقاب، شديد الرحمة وشديد العقاب. إذا فهمت هذين النقيضين وأنهما ليسا نقيضين، تكون قد بدأت في معرفة الله، كل ما يفعله الله هو في القمة، فهو يبسط الرزق لمن يشاء بغير حساب، قال تعالى (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها). والجنة قمة النعيم الذي لا نعيم بعده، والنار شدة العذاب الذي لا عذاب بعده. وكلاهما بصفة الخلود، إمعانا في الكمال.

 

لا يوجد نعيم أخف في الجنة ولا عذاب أخف في النار. فالله قوله الفصل، وأحكامه كاملة. من يعرف الله بهذه الصفة، لا بد أن يكون مراقبا لأقواله وافعاله بل حتى نياته، وهي الأهم، لأن الله يعلم السر وأخفى. وهذا هو طريق الإصلاح الحقيقي للنفس، من خلال معرفة الله حق المعرفة كما وصف نفسه في كتابه المحفوظ، ومعرفة الاخلاق البشرية من خلال معرفة الأنبياء كما وصفهم هو، لأنهم بشر، لكنهم أعرف بقدر الله وهذا ما ميزهم عن بقية البشر. إذا قلت الله غفور ورحيم واكتفيت بها، فلم تعرف قدر الله بعد، وإذا قلت أن الله شديد العقاب واكتفيت بها لم تعرف قدر الله.

 

الله هو الكمال المطلق، قال تعالى :(الله نور السموات والأرض)، ليس فقط العبادة كلها له، بل الحياة والممات، ومع ذلك ما قدروا الله حق قدره. قال تعالى (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين). إذا عَرَفَت النفس الله كما هو، اهتدت إلى طريق الصواب والنور. وهذا ليس كمالا متصوفا، بل هو الصراط المستقيم الذي نردده في كل صلواتنا، هذا هو الغاية من الدين. زكاة النفس وطهارة القلب والمشي على هدى وبصيرة من نور الله.