الخميس، 6 أغسطس 2020

التعامل مع الله، وغفران الله وعقاب الله

التعامل مع الله يجب أن يكون أخلاقيا، وفي أعلى مستوى من الأخلاق، أعلى من مستوى الأخلاق الذي نسمعه في قصص العرب وروايات شكسبير مثلا، وهذا يتجسد في تعامل الأنبياء مع ربهم، انظر إلى إسماعيل وإبراهيم كيف صدّقا الرؤيا، وتلّ إبراهيم ابنه للجبين ليذبحه برضاه وتسليمه، حينها أحبهم الله وقال لإبراهيم : لقد صدقت الرؤيا ، وقال : وفديناه بذبح عظيم، لأنهما حققا المستوى العالي من الأخلاق الذي يتناسب مع التعامل مع الله الكامل، كل صفات الله كمال وكل ما يصدر منه كمال، الله غفور رحيم والله شديد العقاب، كل ما يأتي منه وما يفعله كامل، والتعامل معه يجب أن يكون كاملا، على الأقل على مستوى النية، لأن الإنسان ضعيف، لذلك الله لا يقبل الشرك ولا التناقض ولا النفاق. قال تعالى : (إلا من أتى الله بقلب سليم).

 

 لو كان الله سبحانه بشرا لما احتجت ان تتعامل معه بهذا المستوى الأخلاقي الراقي، فشخص تحبه أو رجل عظيم مثلا أشار عليك أن تذبح ابنك، فلن تطيعه، فما بالك أن يطيع إبنك أيضا! كذلك النبي سليمان عندما قال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب، اذ تعرض عليه بالعشي الصافنات الجياد، والعشي وقت صلاة، فلكي يكفّر هذه الجريمة الأخلاقية مع الله كما يتصورها هو، قال : رُدّوها علي، فطفق يضرب أفاضل وأحاسن وأجمل الخيل بالسيف، يعقرها ويذبحها بالسيف، لكي لا تنخدش العبودية لله، وحتى لا ينجرح الخيط الأخلاقي بينه وبين الله. لذلك قال تعالى لنبيه : (فبهداهم اقتده).

 

الله لا يقبل الشرك معه في أي شيء، لان الشرك يعني حبُّ شيء وإثارته على الله، وهنا يتخلى الله عنك. المهم أن نفهم أن التعامل مع الله هو في أعلى مستوى أخلاقي نستطيع أن نطيقه، ولن نطيقه بالكامل، ونسأل الله المغفرة. البشر لا نتعامل معهم بهذا المستوى الأخلاقي الحاد جدا، مثل البدوي الذي أراد أن يذبح ابنه للضيوف، هنا تكون رذيلة، لكن أن يذبح إبراهيم ابنه لله فهنا فضيلة، لأنك في الحالة الأولى أعطيت شيئا ثمينا لمن لا يستحقه، فالله هو أهل التقوى بكل صورها ودقتها، وأهل المغفرة لنقصنا في التقوى، لأن هذا المستوى العالي لا احد يستطيع أن يطيقه، لذلك نسأل الله المغفرة، لهذا دعاء المؤمنين : (ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به).

 

لاحظ الابتلاءات التي جاءت الأنبياء، لا يتحملها البشر العادي، إلا من محّص الله قلبه للتقوى وعرف الله حق معرفته، لذلك اصطفى الله الأنبياء، فهم يحبون ما يحب الله. من يصبر كصبر نوح الذي دعا قومه سرا وجهارا لمدة تسعمائة وخمسين سنة، ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا؟ تأتي أجيال وتسخر به، وتأتي بعدها أجيال بنفس الوضع.

 

هذا الكلام يرد على من يقول أن تفعل ما تريد وتقول أن الله غفور رحيم، هذا توجّه إرجائي، نعم الله غفور رحيم لمن تاب وآمن وندم وأحسن عملا. من يتعامل مع الله بأعلى مستوى أخلاقي يستطيعه فليبشر بالخير، لان الله غفور رحيم لمثل هؤلاء، وليس لمثل أولئك المذكورين.

 

الله هو قمة الأخلاق، وعلى هذا الأساس تتعامل معه، فإن كان فيك تكبّر فلن يحبك، وإن لم يحبك فلن يغفر لك، لأن مغفرته تابعة لحبه، والله لا يحب الخائنين إلا إن تابوا وآمنوا وأصلحوا ما أفسدوه. الله لا يحب الظالمين ولا يحب المفسدين ولا يحب كل مختال فخور، ولا يحب المتكبرين ولا يحب الظالمين ولا يحب الفرحين، إلا إذا تابوا وأصلحوا.

 

هناك علاقة بين المغفرة والحب، قال تعالى: (أرضيتم بالحياة الدنيا عن الآخرة)، أي أن الله لا يحب من يتعلق بالحياة الدنيا ويرضى بها، لأنه لا يرجو الله ويحب الدنيا، فكيف يغفر ويعفو عمن لم يحبه ويحب الدنيا أكثر منه؟ هنا هو يؤثِر الباطل على الحق، فكيف يحبه ويغفر له؟

 

لو أن شخصا خانه صاحبه الذي يثق فيه مع أنه أحسن إليه، ثم غفر له ولا كأن شيئا قد حدث، الآن أصبح لدينا مخطئين وليس مخطئ واحد، لأنه لم يتب ولم يعترف بخطئه، إذن مغفرة الله لمن لا يستحق تعتبر صفة نقص وضعف، والله حاشاه أن يكون كذلك. وفي المقابل شخص أخطأ في حقك ولكنه ندم واعترف وحاول أصلاح أخطائه وأحسن سيرته، إذا لم تغفر له وتعفو عنه ستكون أنت المخطئ والأقل أخلاقا، والله لا يُغلب في الأخلاق، لا يعذّب أحدا تاب وندم، وإلا ستكون صفة نقص، والله حاشاه عن النقص الأخلاقي، وعلى هذا نفهم عفو الله ونفهم عقابه الشديد أيضا. يقول تعالى (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون).

 

إرادة الله مربوطة بأخلاق الله، والله ليس بظلام للعبيد، وهو شديد العقاب، وغفار لمن تاب وآمن وأصلح واهتدى.

 

الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إذن لا بد أن تحافظ على الأخلاق بأدق تفاصيلها مع الله، لأنه يعلم ما في قلبك ونظراتك، قال تعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا). حتى ما يدور في قلبك انت مسؤول عنه. قال تعالى: (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء). هكذا الدين الحقيقي يعلّم الأخلاق، لأن الإنسان هكذا سيصبح معتادا على التعامل الأخلاقي في أعلى مستوى، إذن التعامل الأخلاقي مع الناس يعتبر أسهل، لأنهم لا يحتاجون المستوى الأعلى من الأخلاق، وذلك لأنك لست عبدا لهم. وهكذا نفهم أن الدين أخلاق مع الخالق والمخلوقين والمخلوقات.

 

إن الله ربط الرحمة بالإحسان، والله يحب المحسنين، ويغفر لهم، قال تعالى (إن رحمة الله قريب من المحسنين). لاحظ حذف التاء المربوطة في "قريب"، دلالة على شدة القرب.

 

تصوّر الإنسان عن الله يحدد معالم دينه وأخلاقه ونظرته للحياة، لأن الله هو الأول والآخر، هناك ديانات تنظر إلى الله نظرة خاصة، كأنه يحابي فئة دون الفئات الأخرى، وبالتالي يغفر لهم، وهناك فئة تنظر فقط أن الله غفور رحيم، وكأنهم يقولون بطرف خفي: افعل ما تشاء فالله غفور رحيم، وهناك من يتصور ان الله شديد العقاب فقط، فتتحول حياته إلى الشدة والصلافة على نفسه ومن حوله، لكن كيف الجمع بين كون الله شديد العقاب وأنه غفور رحيم؟ لا يمكن فهمها إلا في وضعها في بحر الاخلاق. حينها تستطيع ان تعرف ان الله غفور رحيم وان الله شديد العقاب، شديد الرحمة وشديد العقاب. إذا فهمت هذين النقيضين وأنهما ليسا نقيضين، تكون قد بدأت في معرفة الله، كل ما يفعله الله هو في القمة، فهو يبسط الرزق لمن يشاء بغير حساب، قال تعالى (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها). والجنة قمة النعيم الذي لا نعيم بعده، والنار شدة العذاب الذي لا عذاب بعده. وكلاهما بصفة الخلود، إمعانا في الكمال.

 

لا يوجد نعيم أخف في الجنة ولا عذاب أخف في النار. فالله قوله الفصل، وأحكامه كاملة. من يعرف الله بهذه الصفة، لا بد أن يكون مراقبا لأقواله وافعاله بل حتى نياته، وهي الأهم، لأن الله يعلم السر وأخفى. وهذا هو طريق الإصلاح الحقيقي للنفس، من خلال معرفة الله حق المعرفة كما وصف نفسه في كتابه المحفوظ، ومعرفة الاخلاق البشرية من خلال معرفة الأنبياء كما وصفهم هو، لأنهم بشر، لكنهم أعرف بقدر الله وهذا ما ميزهم عن بقية البشر. إذا قلت الله غفور ورحيم واكتفيت بها، فلم تعرف قدر الله بعد، وإذا قلت أن الله شديد العقاب واكتفيت بها لم تعرف قدر الله.

 

الله هو الكمال المطلق، قال تعالى :(الله نور السموات والأرض)، ليس فقط العبادة كلها له، بل الحياة والممات، ومع ذلك ما قدروا الله حق قدره. قال تعالى (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين). إذا عَرَفَت النفس الله كما هو، اهتدت إلى طريق الصواب والنور. وهذا ليس كمالا متصوفا، بل هو الصراط المستقيم الذي نردده في كل صلواتنا، هذا هو الغاية من الدين. زكاة النفس وطهارة القلب والمشي على هدى وبصيرة من نور الله.                 

هناك 13 تعليقًا :

  1. ماذا يريد الله منا ؟ الجواب لايريد فهو غني خلقنا ليسعدنا الوجود نعمه بحد ذاتها لو تسأل اعتى الفقراء والمصابين هل تريد العدم ام الحياه بشرها وخيرها سيختار الحياه رغم شرورها لانها نعمه عظيمه اغلب الملاحده يااستاذ وراق يملأهم الحقد فقط ولاشيء غيره يعتقدون انهم اذا الحدوا انتقموا من الله لانه قدر عليهم الفقر والمصائب مساكين وكم هم ضعفاءوسطحيين يريدون فقط النعم ولايريدون الابتلاءات يريدون المال والاولاود والازواج والافراح والسرور لكن اذا اصابتهم مصيبه انقلبوا وخسروا انفسهم

    ردحذف
    الردود
    1. نعم صدقت ، لم تَعدُ الحقيقةَ في أكثرهم.

      حذف
  2. استاذي الوراق لدي سؤال لاادري هل هو غباء ام فضول او تطفل غير مجدي هل الله ضخم ؟عندما انظر لحجم الكون ارى انه واسع وشاسع الارض. المريخ والكواكب والنجوم والسماء الكبيره والارض الكبيره والشمس والقمر اشياء كبيره جدا واقرأ ايه ان الله يطوي كل ماذكر بيده مثل طي الكتاب بالنسبه لنا نحن البشر لاادري هل يجوز اسأل عن حجم الله هل هو كبير جدا مثل ماذا مثلا ؟والله رأسي يصدع من التفكير بهذه الاشياء هل عنده اصابع وشعر ولحيه وقدمين هل يتنفس ؟هل له عظام ياكل يشرب كيف يرى نمله تعيش في حشائش الامازون البعيده ويرى نمله اخرى تتجول في ساحة منزلي بنفس الوقت اريد ان اعرف كيف ؟ من اين جاء اسف على هذه الاسأله وركاكة الاسلوب

    ردحذف
    الردود
    1. الجواب كما يظهر لي: أن الله ليس كمثله شيء، كل ما تطرحه من تساؤلات ويطرحه غيرك، كلها في نطاق عقول البشر، التي خلقها الله، والمنطق الذي نقيّم على أساسه ونتحاكم إليه هو ايضا خلقه الله، إذا تصورت هذا ستزول عنك كل هذه الأسئلة عن ماهية الله. وسؤال آخر : هل انت تعرف ماهيتك أنت حتى تعرف ماهية الخالق؟ كل ما في الأمر أنك اعتدت على نفسك، لكن لا يوجد انسان يعرف ماهيته هو، ومن هنا تزول كل قضايا تشبيه الله بالمخلوقين. نعم الله ذكر عن نفسه أنه ملك وله جند وله عرش والسماوات مطويات بيمينه، هذه الأشياء ليست لأجل اثبات الصفة، بل هي للتخاطب معنا بما نعرفه. وإلا كيف يكون الله ليس كمثله شيء وبنفس الوقت له عين ويد وعرش وكرسي ؟ هنا سيشبه المخلوق على الاقل في هذه الصفات. إذن نحن لا نثبت ولا ننفي، لأن هذا عالم غيب لا يخضع لمنطقنا.

      اذا استطعت ان تتصور هذا الوضع الجليل بل والمخيف، لأنه تصور يجمع ما بين الخوف والعظمة، ما يسمى الجلال، تخيل الها عظيما لا تعرف عنه اي شيء الا انه رحيم وكريم وعليم وعظيم، وخالق كل شيء ومدبر كل شيء ويعلم دبيب النملة السوداء وما تسقط من ورقة الا يعلمها، ولا تعرف عنه اي شيء مادي، أليس هذا يقدم جلالا افضل من ان تقول ان له يد ولكنها لا تشبه يد المخلوقين؟ وأن له ساقا لم يثبت لنا إلا واحدة، ولكنها تليق بعظمته وجلاله؟ بل ان بعضهم اثبت له انفا تبعا لحديث (لخلوف فم الصائم..) هنا لم نخرج من فلك التشبيه ما دام قلنا يد، يد مادية، وهذا ما يجعل خيالك وغيرك يحلق في هذه الامور الغيبية، فكيف سؤالك يقول ان السموات مطويات بيمينه، اذن هو اضخم من السموات؟! وكيف لما تجلى ربه للجبل جعله دكا؟ هذه امور لم يطلب الله ان نناقشها، لأنه ليس كمثله شيء، وعندما كانت ميدانا للنقاش والصراع بين المتكلمين وغيرهم، لم تستفد الامة من هذا البحث شيئا، لأنهم تدخلوا فيما لا يعرفون فيه شيئا ولم يطلب الله ان يدخلوا فيه. وكان الأولى ان يقولوا ان هذه الصفات المادية التي ذكرها الله عن نفسه أنها لأجل التقريب، لأن الله ليس كمثله شيء، ولأنه خالق كل شيء، وليس شرطا أن يشابه المخلوق الخالق.

      باختصار: اي صفات مادية لا يمكن معرفتها عن الله، لأن الله غيب، (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)، لكن صفاته المعنوية نعرفها كلها، وهي الاجدر بأن يقال انها تليق بعظمته وجلاله، لأنها تشارك بعض صفات المخلوقين ولكنها كمال، حتى نعرف الله ونحب الله ونطمئن الى الله ونعرف ان الله يحس بنا ويعرف ما يجول في أنفسنا، لذلك قال الله (ولله الأسماء الحسنى)، فكل اسم حسن فهو يليق بالله، فلك ان تقول ان الله عادل وأنه عارف وأنه داري، أي يدري بكل شيء، مع انها لم تذكر نصا، وأن الله شامل. مثل ما ان اذكر لك شخصا لم تقابله ابدا، ولم تر صورته، ولكن اقول لك انه انسان طيب وطاهر القلب وكريم ويرحب بالضيوف، سوف تحس انك عرفته، وتطمئن بالذهاب اليه. لكن لو قلت لك انه كريم ولكنه ليس عادل، وانه عالم ولكنه ليس عارف! وله ساق واحدة وعين واحدة! سوف تمتلئ رعبا.

      لا يمكن ان نعرف الله ماديا لكن نعرفه معنويا، ونستطيع معرفته تمام المعرفة لاننا نعرف اوصاف الله، زد على هذا ان فكرة اتباع الصفات المذكورة فقط هذا يوقع في إشكال، لأن الله يقول (ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها). وفعلا هي التي تليق بجلاله، فالله لم يصف نفسه بأنه عادل، فهل لا يصح وصفه بالعادل وهو الذي قال (ولا يظلم ربك احدا)؟ فقط لانها لم تذكر نصا؟

      الله رحيم ويوجد في الناس من يوصف بأنه رحيم، والله كريم ويوجد من يوصف من الناس بأنه كريم وهكذا، لا أن يقال ان له رجلا تليق بجلاله وعظمته! أو أنفا يليق بعظمته وجلاله، لأن هذا تجسيد. تقول هل الله له تجسيد مادي او لا؟ أقول لك : لا أعلم، ولم يُرِد الله ان يطلعنا على خلق السموات والارض ولا خلق انفسنا - وهذا مما ينفي نظرية التطور - ، فكيف يطلعنا على ماهيته؟ انما ما ذُكِر في القرآن لأجل عقولنا ان تفهم، لاحظ ان الله يتكلم عن نفسه بصيغة المذكر (قل هو الله احد) ، فهل هو ذكر؟ الذكر يستلزم وجود انثى! والله لم يلد ولم يولد، تعالى الله، الله هو خالق الزوجين الذكر والانثى، ولكن لأجل التقريب ولان اللغة تسير بهذا الشكل في الاسماء إما مذكر او مؤنث، وهذه حجة على من قال أنه بما انه ورد اذن يجب ان يثبت، اذن عليه ان يثبت بأن الله ذكر، فهل يقول أن الله ذكر بذكورية تليق بجلاله وعظمته؟ وذكر الذكورية يستلزم وجود الانثوية، فهل لله زوجة؟ ام انه ذكر اعزب؟ وهكذا ندخل في الرجم بالغيب، اذا لم نفهم الخطاب القرآني.

      يتبع

      حذف
    2. المسيحية ورثت الديانة اليهودية، واليهودية ديانة تجسيمية، لأنه في التوراة أن الله خلق آدم على صورته، وأن عزير ابن الله، وهذا ما سوّغ ادخال فكرة البنوّة في المسيحية، لأن عيسى على صورة بشر وفي اعتقادهم ان صورة البشر هي صورة الله، قال تعالى (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون..) والذين كفروا من قبل أي الديانات الوثنية متعددة الآلهة التي تقول أن هناك كبير آلهة ومتزوج من آلهة وأنجب آلهة.

      الله شبّه نفسه بالملوك وعنده الملائكة المعاونون (وجاء ربك والملك صفا صفا)، هذا للتقريب، وإلا فالله ليس محتاجا للملائكة وخدماتهم، فهو يقول للشيء كن فيكون، وهو خالقهم اصلا.

      فأيهما افضل ان تقول لله يد او ساق تليق بعظمته وجلاله، أو ان تقول ان الله ليس كمثله شيء ولا تبحث في الامر؟ وأنه هو الذي خلق حواسنا وعقولنا ومنطقنا ايضا؟ لأن منطقنا هو ابن الطبيعة وقوانينها. إذا اثبتنا اليد سيتبادر إلى الذهن جارحة تستطيع الإمساك ولها اصابع، هنا نحن لم نبتعد عن التشبيه. حتى لو قلنا انها تليق بجلاله وعظمته، فهي تظل يد، واليد يستعان بها.

      الله يخاطبنا بموجب لغتنا ولساننا العربي، وإلا فالله يتكلم من الغيب المطلق حتى عن منطقنا وقوانين المادة، لأنها كلها مخلوقة، لاحظ وصف الله للجنة بأنها عرض السموات والارض، فاين مكان النار؟ ولاحظ وصفه للنار بأن فيها شجرة تنبت في اصل الجحيم! هل هناك نبات ينبت في النار؟ اذن هناك في عالم الغيب تختلف القوانين. لذلك الله قال انه نفخ في آدم من روحه حتى يعرفه آدم وأبناء آدم معرفة معنوية. لذلك القرآن يكرر صفات الله حتى يعرفها الإنسان ويطمئن إليها كالعزيز والرحيم والكريم والعليم. الحيوانات لم ينفخ الله فيها من روحه، وبالتالي هي لا تعرف صفات الله، وبالتالي لا اخلاق لديها ولا تقدر من يعاملها بأخلاق، إن أصل الأخلاق والفضيلة من روح الله التي اودعها في الشعور الانساني، وقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها، وليست المصلحة من انتجت الأخلاق كما يزعم الماديون المصلحيون، لأن الاخلاق ضد المصلحة في اكثر الاحوال (الجود يفقر والإقدام قتّال)، وبالتالي امومة الحيوانات لصغارها من التسخير وليس اخلاقا لديها، بدليل انها اذا كبرت لا تنظر اليها وترعاها، بل تطردها.

      روح الله تكريم للإنسان، لذلك قال تعالى للملائكة اسجدوا لآدم، ولم يقل لهم اسجدوا لمخلوقات اخرى، كالحيوان والنبات مثلا، لأن شعور الانسان فيه دوائر عليا، وهي منطقة سامية جدا، لا توجد الا في الانسان، وهي التي من روح الله، مثل التضحية والايثار والجمال والاطمئنان لعبودية الله، أما دوائرها السفلى فهي تتعلق بحاجات الجسم، فالصائم مثلا يشعر بالجوع تبعا للدوائر الدنيا ويمتنع عن الطعام تبعا للدوائر العليا السامية.

      بكلمة موجزة: اي احد يناقش ماهية الله وصفاته المادية يكون داخلا في قوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم). لماذا طلب اليهود أن يروا الله جهرة؟ بل حتى النبي موسى قال (رب ارني انظر اليك)؟ لماذا لم يريهم الله نفسه ما دام له صفات مادية؟ لأن الله غيب، ولا يتناسب أن يُرى الغيب. فإذا أثبتنا أن لله يد ووجه وعين وأنه خلق آدم على صورته، ما عاد الأمر غيبا. لماذا لما صعق موسى لما اندك الجبل قال (سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين)؟ لأن الله غيب، وأول المؤمنين أي المؤمنين بالغيب، لأن الغيب يحتاج إيمان. وكانت الصاعقة لليهود الذين قالوا لموسى أرنا الله جهرة - اي حتى نؤمن - من باب العذاب، وصعق موسى من باب التأنيب، بدليل أنه تاب.

      اذا كان الانسان رحيما، أصبح كريما، وأصبح مضحّيا ومؤثرا على نفسه، وإذا كان شجاعا يستطيع أن ينفذ هذه التضحية وهذا الايثار، الصفات كمثل (الشجاعة التضحية الايثار) هي صفات اجتماعية واساسها الرحمة، اي من روح الله. ولا يسمى الله بالشجاع لأنه ليس له كفوا احد، ولا بالمُؤثِر، لاحظ ان الله اثبت وجود من يعادونه ومن يحاربونه، وهذا لا يعني أنهم انداد لله، فحقيقة الامر انه لا يوجد عدو كفؤ لله، فالله ليس له كفوا احد. ولكن هذا لاجل التقريب لعقولنا، وايضا قال تعالى (وما ظلمونا ولكن كانوا انفسهم يظلمون) اي انهم لم يحاربوا الله ولكنهم يحاربون انفسهم، لان الله ليس له كفوا احد.

      يتبع

      حذف
    3. نجد المعتزلة عطلوا بعض صفات الله بحجة انه قد يشترك مع الله احد من خلقه فيها، مثل الكرم ومثل الكلام، ومن هنا قالوا ان القرآن مخلوق. مع أن الله يقول (وكلم الله موسى تكليما) والله سمى القرآن كلام الله، (حتى يسمع كلام الله). الله سبحانه خلق ادم ونفخ فيه من روحه واشترك في بعض صفاته لكي يعرفه، فالله كريم والانسان يحب الكرم حتى لو لم يفعله، والله عليم والانسان يحب العلم حتى لو لم يحط به. وهذه الفكرة عند المعتزلة جاءتهم من تأثرهم بالفلسفة اليونانية وتقسيم الامور الى جوهر وعرض، ومنها نتجت قضية الشكل والمضمون في الادب، مع انهما مترابطان دائما. واليونان جاءتهم من فكرة عالم المثل التي يوضحها افلاطون، أن كل شيء موجود له وجود مثالي في عالم المثل، من الخطأ الثقافي ان تقحم افمار من ثقافة مختلفة إلى ثقافة أخرى، لأن لكل ثقافة اساس ديني، فأنت ترفض ذلك الدين ولكنك تقبل نتائجه الثقافية، وهنا تقع الاشكالية، المفترض ان ثقافة الدين من الدين نفسه.

      في مسألة خلق أفعال العباد، تقول المعتزلة أن الله لم يخلق افعال العباد، وفي هذا استنقاص لله ومخالفة لقوله أنه خالق كل شيء، اي كل الحضارة البشرية من افعال العباد ولم يخلقها الله، وهذا لا يصح، الله هو الذي علم بالقلم وهو الذي امدنا بالقوة والجوارح والعقول والسمع والبصر، وهي الوسائل التي بنت الحضارة. بينما الرأي الآخر لأهل السنة وربما غيرهم أن الله خالق لأفعال العباد، وهذا يؤدي إلى الجبرية ونسبة الفعل السيء إلى الله، لانه خالق الأفعال، إلا إذا ضُبط وقُيّد بحرية الإختيار. فتكون افعال العباد السيئة المسؤول عنها هم العباد، لأنهم أعطوا حرية الاختيار، مع أنها في الأخير من خلق الله وتمكينه، فالله اعطاك البصر وغيره وتستطيع ان تعمله في الخير او الشر، لانه لا حول ولا قوة الا بالله. واستعمالك بالشر المسؤول عنه هو أنت وليس الخالق، لأنك أعطيت إرادة حرة. ولذلك الله يحاسب البشر على حرياتهم، ويدخلهم إما الجنة أو النار. فإذا كانوا مجبورين يكون الله ظالما، وإذا كان الله لم يخلق افعال العباد، اذن من خلقها؟ أإله مع الله؟ هكذا نخرج من هذا الإشكال.

      الراي الوسط هو أن الله خالق كل شيء ولكنه أعطى حرية الاختيار بين الخير والشر، اي أن الله خالق ولكنه ليس مسؤولا عن الفعل، بل المسؤول صاحب الاختيار الذي تحمّل الأمانة، قال تعالى (إنا عرضنا الأمانة على السموات والارض والجبال ..) أما نسبة أفعال العباد للطبيعة كما قال الجاحظ، فالطبيعة من طبعها؟ الله، وهكذا دخل في الرأي الذي يقول أنها مخلوقة.

      وأيضا مسألة فك الأسباب عن مسبباتها، وأن الأسباب ليس لها تأثير بذاتها، بل هي من تقدير الله، ويستشهدون بآية (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) وأن النار لو تحرق بذاتها لأحرقت إبراهيم عندما رمي فيها. هذا من روافد الجبرية، الرافد الاول ان افعال العباد مخلوقة، والثاني أن النتائج غير مرتبطة بالاسباب، إلا إذا أذن الله لها، وهذا يفضي إلى نسبة السوء إلى الله، ومحاولة التملص من المسؤولية بنسبة السوء إلى الله والعياذ بالله. القوانين الطبيعية ثابتة، وهي من سنن الله، أما عدم إحراق النار لإبراهيم فهذا معجزة حصلت في موقف واحد، تم فيها كسر القانون المطّرد من خالق القانون، وإلا فالنار تحرق في كل الأحوال بذاتها، لأن الله اراد هذا الشيء. فهي من الأقدار الثابتة، لأن القدر على نوعين : ثابت ومتحرك. القدر الثابت هو في قوانين الطبيعة، والقدر المتحرك هو في الهداية والضلالة. لذلك المؤمن لا يدعو الله ان يزيل الصيف ويستبدله بشتاء، لكنه يدعو الله أن يرقق القلوب له وأن يفتح على قلب فلان ويهديه. الدعاء يكون في الاقدار المتحركة وليس في الاقدار الثابتة، مثلما قال ابراهيم (واجعل افئدة من الناس تهوي إليهم) ولم يقل اجعل هذا الوادي غير ذي زرع أخضرا مورقا، لأن هذا قدر ثابت، فهي أرض واقعة في نطاق صحراوي. وإبراهيم كذلك يتعرض للشيخوخة والمرض والموت، اي بقية القوانين سارية عليه.

      الثقافة اليونانية أثرت تأثيرا سيئا على الثقافة الاسلامية، لا من علوم الطب التي ظلت اسيرة لفكرة العناصر الاربعة، ولا فكرة العرض والجوهر التي انتجت قضية الشكل والمضمون، لأنها نابعة من اساس ديني يوناني وثني خاطئ، فكأنك تنقل دين يوناني وليس مجرد فكرة او ثقافة يونانية.

      حذف
  3. شكرا واهنيك على ثقافتك الرائعه حبذا لو تتكلم عن اللغط الذي حصل بين مايسمى الوثنيه اليونانيه وتأثر الثقافه الاسلاميه بها بشكل ادق وبصفحه اخرى

    ردحذف
    الردود
    1. التأثير السلبي للثقافة اليونانية على الثقافة العربية الإسلامية

      تأثر الثقافة الإسلامية بالثقافة اليونانية كان على عدة محاور، منها محور العقيدة والدين، الذي نتج عنه الصوفية، التي من لفظها تستطيع فهمها، فكلمة (فلسفة) أصلها اليوناني (فيلو سوفي) أي محب الحكمة، فكلمة صوفي تعني الحكمة. ونجد من مشاهير فلاسفة اليونان من سلوكه سلوك صوفي، مثل ديوجين الكلبي، الذي يروى عنه ان الاسكندر وقف أمام بيته، وهو عبارة عن برميل يختبئ فيه، فقال له: اطلب ما تريد، فقال ديوجين : اريد ان تبتعد عن الشمس لأن وقوفك يمنعها من دخول بيتي. هذا التصرف يدل على رغبة في الزهد الذي تتبناه الصوفية، وكأن طلب الحكمة يتعارض مع طلب الحياة وزينتها في نظرهم. إننا لا نجد فكرة الزهد في القرآن، إذ أن حُبّ الفقر وتحمله ليس صفة محمودة في القرآن. في حين نجد القرآن يأمر بالإنفاق، والله يختبر عباده بالخير والشر، أي بالنعمة وبالفقر.

      إذن القرآن لم يحدد نمط حياة للمسلم، بل إنه يمتدح عباده الصالحين ولم يمتدح الزاهدين، اذ أن فكرة الزهد دخيلة على الإسلام، ونجدها كثيرا في الديانات الشرقية كالهندوسية والبوذية، فنحن نرى القرآن يمتدح ملوكا مثل النبي سليمان وأبيه داود وذا القرنين، ولديهم من كل شيء، والقرآن يقول (كلوا من طيبات ما رزقناكم) وقال (من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق). وها هو القرآن يمدح ملوكا مع أن لديهم كل نعيم الدنيا، لكنهم كانوا خاشعين لله وشاكرين لأنعمه، ولم تنقص حكمتهم بسببها.

      وكذلك نتج من التأثير المذكور أعلاه: نظرية الفيوض، وعلم الكلام (الذي هو فلسفة معرفة الله وصفاته) الذي نتج عنه تفرّق الامة إلى مذاهب بسبب مسائل وقضايا لم تكن تعاني منها الأجيال السابقة، وإن كانت الثقافة اليونانية ليست المسؤولة وحدها، إذ أن ظهور مذهب القدرية الذي مهدّ لظهور المعتزلة هو السبب الأول،(القدرية هي تسمية مناوئيهم وخصومهم لهم، إذ يتهمونهم بنفي القدر)، والذي لا علاقة له بالثقافة اليونانية، بل جاء كردة فعل لمذهب الجبرية الذي تبنته السلطة السياسية متمثلة في بني أمية في ذلك الحين.

      إن انطلاق الحضارة العربية ومهد العقل العربي كان من العراق، على عدة مستويات، منها مستوى العقيدة، بظهور مذهب القدرية مقابل مذهب الارجائية والجبرية، وبداية دراسة اللغة العربية والنحو العربي، فمن هذين الاصلين انطلق العقل العربي الإسلامي إلى عالم الابداع، بحلوه ومُرِّه، بلا تأثر من الثقافة اليونانية. فمن مذهب القدرية والدراسات اللغوية نشأت الحضارة العربية الإسلامية معتمدة على القرآن الذي هو أساس النهضة العربية وليس التأثر باليونان، ثم على التراث العربي والعقل. إن كان للثقافة اليونانية من تأثير فهو المزيد من احترام العقل، ولاحظ أن بداية تكون العقل العربي سابقة للترجمة اليونانية، فهو الذي احتاج اليها، والحاجة للترجمة لا تكون إلا في وجود عقل يطلب المزيد من المعرفة، وهنا يكمن اثبات أن العقل العربي نشأ في أرضه عربيا مسلما، ثم استعان بالترجمات اليونانية والفارسية، بخلاف الشائع مع الأسف من أن العقل العربي بنته الترجمات من اليونانية وغيرها في الاساس، وقبل ذلك لم يكن هناك عقل عربي، وهذا غير صحيح؛ فعلوم اللغة من النحو والصرف والمعاجم اللغوية والعروض والبلاغة والنقد وفقه اللغة كانت بداياتها من قبل الترجمات. بل إن الغرب لما احتك بالعرب قد أخذ نتائج معارضات العرب وانتقاداتهم للثقافة اليونانية، خصوصا في الطب.

      يتبع

      حذف
    2. إن العقل العربي اخذ يتطور ويتكون من دون الاستعانة بثقافات أخرى مستوردة، فقط بالقرآن وبالتراث العربي وبالعقل، حتى ولا الفارسية إلا فيما بعد، بغض النظر عن الأصول العرقية للدارسين والباحثين، نعم نجد أكثرهم كانوا من غير العرب لكنهم مسلمون ومستعربون؛ فمثل علم النحو تأسس على منهج وصفي علمي كامل دون استعانة بثقافة أخرى، إلا في مراحل متقدمة بدأت تدخل تأثيرات المنطق اليوناني في النحو، لكن البدايات كانت عربية خالصة.

      فقد روي أن أبا الأسود الدؤلي قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فوجدت في يده رقعة، فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء - يعني الأعاجم - فأردت أن أصنع شيئاً يرجعون إليه ويعتمدون عليه، ثم ألقى إلي الرقعة وفيها مكتوب: الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم، ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ به، والحرف ما أفاد معنى. وقال لي: انح هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك واعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهر ولا مضمر، وأراد بذلك الاسم المبهم. قال: ثم وضحت بابي العطف والنعت ثم بابي التعجب والاستفهام إلى أن وصلت إلى باب إن وأخواتها ما خلا لكن، فلما عرضتها على عليّ أمرني بضم لكن إليها، وكنت كلما وضعت باباً من أبواب النحو، عرضته عليه إلى أن حصلت ما فيه الكفاية، قال: ما أحسن هذا النحو الذي قد نحوت، فلذلك سمي نحواً.

      ومن هنا جاء النحو وسمي بالنحو. وكان منهجهم علميا وصفيا اذ يأخذون الكلام من العرب الأقحاح الذين لم يختلطوا بغير العرب، من خلال المجاورة او التجارة او ما شابه، ومن الدراسات اللغوية بدأت تتوسع الأبحاث وتكثر الرحلات إلى القبائل العربية، مصحوبين بالدفاتر والاقلام، فبدأوا يدرسون البلاغة وبلاغة القرآن بشكل خاص، ومن البلاغة دخلوا على المنطق، وكذلك التفسير وكتبوا الشعر واللغة، وتم جمع المعلقات واشعار العرب اثناء الرحلات، إذ ان بعض اللغويين كانوا يرحلون ويسكنون بالبادية، مثل المفضل الضبي والاصمعي، يسافرون ليجمعوا الشعر الجاهلي، وكذلك ابدعوا علم العروض الذي ابتكره الخليل بن احمد الفراهيدي.

      ومن محاور تأثير الثقافة اليونانية على الثقافة الإسلامية: محور الطب، من خلال نظرية الاخلاط والامزجة والعناصر الأربعة، وهي الهواء والماء والتراب والنار، وبعض التفسيرات التشريحية الخاطئة، مثل أن الدم ينتج من الكبد، ومثل أن القلب يضخ الدم من البطين الأيمن الى البطين الايسر، ومثل ترك الجروح تتقيح تبعا لنظرية العناصر الأربعة. ومثل ربط الطب بالتنجيم وأنه لا يصح تعلم مهنة الطب دون الأخذ بعلم التنجيم، وننقل هنا كلام الطبيب أبو يعقوب الكندي في هذا الموضوع: "إن منفعة الطب لا تتم إلا إذا كانت صناعة النجوم مقرونة بدلائلها". وعلاقة اليونان بالنجوم علاقة دين وعقيدة، لأن النجوم عندهم ترمز للآلهة المتعددة، وهذا من تأثرهم بالكلدانيين بالعراق، فقد جاءتهم عبادة النجوم منهم.

      يتبع

      حذف
    3. إن المشكلة كانت بالنظرة التعظيمية للثقافة اليونانية التي تُضيِّق على من يريد انتقادها وكأنه يمارس خطأ. ومع ذلك وُجد من ينتقدها، مثل ابن الهيثم وابن سينا والرازي وابن النفيس، فابن النفيس خطَّأ أطباء اليونان بإثباته أنه يوجد حاجز قوي بين البطينين في القلب، ومن هنا اكتشف الدورة الدموية الصغرى من هذه التخطئة أو الجرأة على شبه المقدس – أبقراط وجالينوس -. بل ربما ان فكرة استخدام الادوية الغريبة والمقززة أحيانا نتيجة جمع اخلاط، إنما جاءت من اتصالهم بالثقافة اليونانية، كما يذكر الدميري في كتابه حياة الحيوان الكبرى، وينقل امثلة يرويها عن ابقراط وجالينوس، بعضها عجيبة وغريبة وبعضها مقززة. تبعا لفكرة الاخلاط، لذلك صارت الصيدلة العربية منقسمة الى قسمين: ادوية مفردة وهي الأكثر والاشهر، وادوية مركبة أي مخلطة، كخلط يابس مع رطب مع بارد، تبعا للطب اليوناني، فكل طعام له صفة، إما يسمى رطبا او يابسا او حارا او باردا، فيخلطون بينها حتى يصبح توازن بين العناصر الأربعة في الجسم، التي تسمى الصفراء والدم والسوداوية والبلغمية، الخ. وهذه كلها في الاخير أوهام أكلت أكثر من ألف عام من تاريخ الطب العربي والعالمي، وما كانت لتكون لولا الثقافة اليونانية التي أخّرت تقدم الطب حقيقة، ولولا جرأة الأطباء العرب على مخالفتها في كثير الأحوال ولا نقول كل الأحوال.

      كذلك فعل ابن الهيثم في تفسير ابصار العين، حيث كان اليونانيون يعتقدون ان الابصار شعاع يخرج من العين، تبعا لفكرة الجوهر والعرض، وهي فكرة خاطئة أخرى، فأثبت بالتجربة أن العين تبصر من خلال انعكاس الضوء من الخارج عليها. وواصل دراساته البصرية إلى أن وصل الى فكرة الغرفة المظلمة والثقب (القمرة) التي أسست لاختراع الكاميرا فيما بعد، لاحظ التشابه في اللفظ بين الكاميرا والقمرة.

      وكذلك في محور الفلك، من خلال دراسة المجسطي، وهو كتاب في الهندسة ولكن يستعان به في الفلك، وكذلك عمل الاسطرلاب، وهذا ما أدخل التنجيم إلى الثقافة العربية، اذ كان الخلفاء والامراء يستعينون بمنجمين. وجاء في رسائل إخوان الصفا المتأثرون بشدة بالفلسفة اليونانية (أن فعل النجوم هو الأصل والعمدة في جميع الشؤون الأرضية والحياتية)، مع ان التنجيم كعلم هو خرافة وضلال، مبني على ان الكواكب والاجرام السماوية تؤثر في حياة الناس ومزاجهم، وهذا التأثير مبني على تأليه اليونان لهذه الكواكب والابراج والنجوم وربطوا الطب بالنجوم كما سبق ذكره، انظر الى الاغلال التي قيدت الثقافة اليونانية بها الطب، وأبعدته عن دراسة الظاهرة كظاهرة، وما زالت الحضارة العربية وكذلك الغربية تحت وطأة التنجيم، على المستوى الشعبي على الأقل، وله من يصدقه ويعتقد به إلى يومنا هذا.

      يتبع

      حذف
    4. وكذلك المحور العقلي الذي نتج عنه قضية العرض والجوهر، والتي نتج منها أيضا قضية الشكل والمضمون، والتي ارهقت الدراسات الادبية العربية، كمحور من محاور النقد والبلاغة. وهي فكرة خاطئة أساسها من الفكر الديني اليوناني الوثني، اذ لا يمكن الفصل بين الشكل والمضمون، فكل شيء أخذ شكله من مضمونه، ومضمونه مرتبط بشكله. تنظر الى شجرة، تجد ان شكلها مرتبط بمضمونها، ومضمونها مرتبط بشكلها، مع ان كل شكل له مضمون، وكل مضمون له شكل. مثل الانسان، له شكل وله مضمون لا يمكن الفصل بينهما. من مضمون الانسان الحركة، والقدمان من شكل الانسان، وهكذا. شكل الحيوان المفترس له مخالب وأنياب، ومضمونه انه مفترس، فالشكل له علاقة بالمضمون.

      وكذلك تقسيم الفلسفة الى مثالية وطبيعية، أيضا منبثق من فكرة الجوهر والعرض، مثلها مثل فكرة الشكل والمضمون. فالجوهر مضمون والعرض شكل. وكأن الفلاسفة المثاليين اهتموا بالجوهر، والفلاسفة الطبيعيين اهتموا بالعرض، لذلك يسمي المثاليون فلسفة الطبيعيين بالسفسطة. وربما تكون الغنوصية من تأثيرات اليونان، تبعا لفكرة الشكل والمضمون، والتي تسربت إلى بعض الدراسات العربية والإسلامية في القرآن، والمذاهب الباطنية.

      وكذلك محور الاحياء الذي نتج منه نظرية اتصال العوالم التي قال بها اخوان الصفا، اذ ان العوالم كلها متصلة ببعضها، فآخر مراتب المعادن هي أول مراتب النبات، وآخر مراتب النبات هي أول مراتب الحيوان، وآخر مراتب الحيوان هو مرتبة الإنسان. ومن هنا نتج التفكير بتطور الانسان من قرد التي تتبناها الداروينية. وثبت علميا وواقعيا ان هذه الأفكار كلها خطأ، وما بني على خطأ فهو خطأ، لذلك تأثيرها السلبي أكبر من تأثيرها الإيجابي، سواء على الحضارة العربية او حتى الحضارة الغربية التي تلقفت الثقافة اليونانية من الحضارة العربية، واستفادت من معاكسة الحضارة العربية للثقافة اليونانية، مثل ما استفادوا من ابن الهيثم وابن النفيس. من هنا تتضح خطورة نقل الأفكار من ثقافات غريبة عن الدين الى أبناء الدين، لأن الأفكار مرتبطة بالدين أصلا.

      هذه المحاور أثرت في العقل العربي بل والعقل الغربي. مثل تبني آراء فلاسفة ما قبل سقراط، ما يسمون بالفلاسفة الطبيعيين مثل ديموقريطس الذي أكد وجود ذرات هي أساس الكون وهي غير قابلة للانقسام. وكذلك تأثروا بالفلسفة المثالية، وانقسمت فلسفتهم الى نوعين، فلسفة مثالية عقلية ومن اشهرهم كانط وهيغل، وفلسفة طبيعية او علمية، مثل فلسفة راسل وأصحاب فكرة موت الفلسفة، وهذا كله تابع لفكرة الشكل والمضمون، ذات الأصول اليونانية المبنية على وجود عالم المُثُل وعالم الواقع، عالم المثل يمثل الجوهر والمضمون، وعالم الواقع يمثل العرض والشكل.

      يتبع

      حذف
    5. الفلسفة اليونانية في مجملها ترجمة لأفكار دينية وثنية. صحيح ان الغرب استفادوا من الثقافة اليونانية في فكرة الديموقراطية والمسرح وشعر الملاحم والشعر المسرحي، بل حتى الألعاب الاولمبية. لكن من الخطأ تبني أفكار مبنية على أساس دين آخر بشري. المفترض أن يتم فحص الأفكار قبل تبنيها، لكنه الاعجاب والموضة الثقافية وطلب التميز، هذا ما يجعل شبابنا في هذا الوقت يتبنون أفكارا غريبة عن ثقافتهم ودينهم، من باب التميز، ولا يعرفون من اين جاءت ولا إلى اين تذهب بهم. كل فكرة تحمل معتنقها إلى أصلها، بل وربما إلى مكانها.

      وهذا لا يعني ان كل أفكار تراثنا العربي صحيحة، لكن للإنسان عقل عليه ان يفحص كل ما يمر به، ولا يفرط في الثقة. إن مشكلة الثقافة اليونانية هي في الفصل بين العرض والجوهر، فالفكرة مقدسة لديهم حتى لو كانت ضد الواقع، لأن الواقع عرض والفكرة جوهر. والفكرة من عالم المثل، وهذه إشكالية كبيرة، وحتى لو نفاها الواقع فهي لا تنتفي، لأن الواقع يظل عرضا.

      كان من يتبنون الفلسفة اليونانية من العرب يمكن تصنيفهم بأنهم فلاسفة مثاليين، لدرجة انهم يحاولون ان يثبتوا ان الانسان بعقله وحده يستطيع ان يعرف الدين ويعرف الله ويعبده، وهذا ما تحاول اثباته قصة حي بن يقظان لابن طفيل الاندلسي. فالبطل استطاع ان يعرف الله والخير والشر وهو لم ير انسانا، بل عاش في جزيرة منقطعة عن البشر. بل تطرف بعضهم الى ان قال انه لا يلزمه أداء العبادات والشرائع، لأنه وصل إلى الحكمة أو المثالية. لأن الشرائع هذه إنما لتأديب العوام وليست للفلاسفة. وهذا التقسيم للمجتمع إلى عوام وخواص قد يكون من تأثير فكرة العرض والجوهر، فالخواص جوهر والعوام عرض، مثلما ان النفس جوهر والجسد عرض. حتى كأن الفلسفة صارت صنوا للنبوة عند بعضهم، حتى قيل ان الفلاسفة فتحوا متجرا أمام الأنبياء. وكأن النصيب الأسوأ من الثقافة اليونانية يقع في قسم الثقافة العربية. والنصيب الأفضل اخذته الثقافة الغربية. وكلاهما يحمل ضررا من نوع ما، ونفعا من نوع ما، لكن الضرر اكبر من النفع.

      حذف
  4. جزاك الله خير
    الحمد لله اني شفت مدونتك وان شاء الله اشوف الكثير من المواضيع اللي كاتبها واتعلم منها الكثير جزاك الله خير

    ردحذف