سياسة النفس
السليمة والتفكير السليم هو التفكير للمستقبل كأولوية ، وعلى قدر ما يكون المستقبل
أبعد على قدر ما تكون أكثر عقلا وأخلاقا وصبرا على واقعك أيضا وتستطيع التكيف معه
بسهولة، وأبعد مستقبل هو الحياة الآخرة ، فتأخذ الأبعد وتجعله الأقرب، وبذلك تنجح
حتى بالقريب كذلك.
لكن من يحبون
العاجلة يكون التحمل عندهم ضعيف، والمستقبل مُهمَل، وعلى قدر ما يبعد المستقبل على
قدر ما يكون مُهمَلا بالكامل، لكن بالنظر إلى حالة المؤمن الحقيقي تجد العكس ، فتجد
المستقبل الأبعد هو أهم شيء في حياته، ثم الذي يليه والذي يليه ، إذاً الإنسان
الناجح هو من يعيش للمستقبل. والدول الناجحة هي التي تخطط للمستقبل وهذا شيء
مشاهد. والعاقل هو من يعيش للمستقبل أكثر ، وهو مقياس العقل، فتجد من يحب اللذائذ
العاجلة هو الأضعف والأقل عقلا ، وهذا يدلك على خطأ فكرة "عش يومك".
من ينظر للمستقبل
هو ينظر بنظرة كمال، منذ أن تهتم لمستقبلك البعيد فمعنى ذلك أنك اخترت الأفضل
والأكمل، وهذا سيجعل تخطيطك وأعمالك تنحو نحو الأفضل، أما الذي يحب العاجلة تلاحظ
أنه يتحمل ويقبل السيء ليس لأن هدفه الأفضل بقدر ما هو الأعجل، قال تعالى (خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) (وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولا) يقصد الإنسان بوضعه العلماني قبل الإيمان . وقال
عن الذين لا يهتمون لمستقبلهم ( كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَة وَتَذَرُونَ الآخِرَة ) .
هناك من يتفاءل بأن
المستقبل سيكون أفضل بتلقائية و بدون عمل، هذه الفئة هو من يعدهم الشيطان ويمنّيهم،
هم من يقولون ( مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي
لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا)
هل مثل هؤلاء يوجد لديهم ضمان على الاستمرارية ؟
نحن نتكلم عن بناء
خطط الحياة على أي أساس تكون : هل على أساس الحاضر؟ أم على المستقبل القريب؟ أم
المستقبل البعيد؟
البناء السليم هو
أنك تبني خططك على أساس (أبعد مستقبل) (وأهم مستقبل) توقن أنك ستصل إليه ، وهو
الآخرة، ثم تبدأها بالترتيب من المستقبل للحاضر، فمثلا إذا لديك مبلغ مالي ، بدلا من
أن تستمتع به في الحاضر حاول أن تجمعه لأجل أن تمتلك منزل مثلا، حتى لو كان لديك
مبلغ قليل وامكانية امتلاك منزل بعيدة عنك ، هنا يأتي دور العقل، فالمال مع المال
يكوّن مبلغا كبيرا ، فأنت هنا تستثمر و تعمل لمستقبل بعيد، لكن هذا المال وهذا
المنزل لهما غاية وهدف، وهو لكي يوصلاك الى الله والآخرة، كما قال تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ
مِنَ الدُّنْيَا) و بذلك ستنجح ان شاء الله، وبالأخير
سيكون لديك بيت بإذن الله ، لكن لو كنت تفرط وتقول هذا مبلغ لا يساوي شيئا ومن
الأفضل ان استمتع به حاليا ، فستجد بالأخير أنك لست على شيء .
من يعمل للمستقبل
لا يدلّع نفسه، لأنه يتوقع ظروفا سيئة –وهذا لا يعني التشاؤم- ويتوقع الصعوبات
ويكون مستعد لها، تجده يحاول أن يعتمد على نفسه أكثر، ويحاول أن يتعلم كثيرا،
يحاول أن يصلح الأشياء، هو يجهز نفسه للمستقبل، هؤلاء يسمّون – أناس المستقبل –
وهناك – أناس الحاضر - ، أهل المستقبل هم سادة الحاضر، لأنه يتعلم ويتمرن ويعمل
ويعرف ويجيد ويملك و يوفر، بالتالي هو أصبح من أهل الحاضر دون أن يدري، لأن الشيء
الذي تجيده أنت لم تجيده بلحظة ولم تشتريه ، فكل شيء جاء بالتدريج لأنك كنت تخطط
للمستقبل ، فالمستقبل عبارة عن شيء ممتد وليس شيئا مقطوعا ومنفصلا لوحده.
من يقول مادام أنني
أعيش للمستقبل فمتى أعيش الحاضر؟ هل أعيش بدوامة المستقبل ولا أعيش واستمتع
بالحاضر اطلاقا؟ الصحيح أن الحاضر يُعاش من خلال المستقبل ، وإلا فكيف يعاش ؟ هل
نعيش عيشة الحيوان؟ هذا هروب من الحياة ومن مواجهة المستقبل، ومن يقول لك أنك
بحاجة الى أن تتسلى وتلعب؟؟! أنت تعيش حياة كاملة ، و في خلال العمل إذا سمعت نكتة
سوف تضحك، أي سوف تستمتع بالاستراحات بين فترات العمل ، والعمل ليس شيئا ماديا
فقط، بل حتى التفكير عمل، ومراجعة النفس وتقييم الأوضاع عمل، والعمل نفسه مجال
للإبداع والمتعة والتفكير والابتكار، وقت المؤمن كله متعة مع أنه لا وقت لديه
لللهو ولا لللعب، إلا لتلعيب طفل أو حيوان أو ممارسة رياضة مفيدة، مع أن العمل
أفضل من الرياضة.
وإن جاء شيء جعلك
تبحث عن أماكن جديدة وتطلّع سوف تطّلع وتستمتع بها، فالعيش للمستقبل لا يمنع من
العيش بالحاضر وليس بينهما انفصال ، بل إن العيش للمستقبل هو الذي يملأ الحاضر
بالإهتمامات الكثيرة، وهو بوابة الشمولية.
هناك من يقول لكي
أعيش للمستقبل سأرهق نفسي في الحاضر لكي أجمع المال للمستقبل، هذه فكرة خاطئة وهي
مثل فلسفة البخيل الذي يريد أن يجمع المال للمستقبل ويحرم نفسه وأولاده، ثم يموت
ويترك هذه الأموال. الصحيح أنه يجب أن تعيش الحياة بكل جوانبها للمستقبل وليس في
جانب واحد . البخيل لم يقم بذلك بل اهتم بجانب واحد وهو المال . يجب ان تعيش كل
حياتك للمستقبل وليس مالك فقط، هذا إنسان مادي ، وهو لم يتعلم ولم يتطور وكل هذا
المستقبل بحاجة اليه ، المستقبل ليس بحاجة مال فقط ، فهذا البخيل مفرط ، والمادي
مفرط في مستقبل أهم وهو مستقبله عند الله بالإدخار والعمل الصالح عند الله وهو
المستقبل الكبير، كذلك فرّط بمستقبل عقله ومهاراته ومستقبل محبته وعلاقاته وعقله
وثقافته، كل هذه فرّط بها لكي يجمع المال فقط.
من يهتم للمستقبل
عليه أن يهتم بكامل جوانب المستقبل، ويتلافى أخطاء الواقع، قال الله تعالى عن
المفرطين بالمستقبل (يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) فهو سيعيش حياة كاملة لكنه اهملها و
ركز على جانب الحاضر فقط. الحياة المستقبلية هي الحياة الخالدة، و في الأمثال يقال
(شيء ترجيه ولا شيء تأكله) . عيشة الحاضر هي مثل عيشة الحيوان.
وكذلك من أسرار
الأبوة والأمومة هو ارتباطه بالمستقبل، فالأبناء يُنظر فيهم كأمل أي كمستقبل، إذن
الإسلام ينقل الإنسان من مستوى الحيوان الى مستوى الإنسان. الذي يعيش ليومه يشبه
الحيوان، بل حتى أصبحوا يرون اليوم طويل فقالوا عش اللحظة بدلا من قولهم : عش
يومك. أي اقل مستوى من الحيوان، فالحيوان يعيش ليومه أيضا . هكذا الشيطان يوحي للإنسان
لكي يفرط في حياته الآخرة وهي الحياة الحقيقية ، ويلهيه بالدنيا ، كما قال تعالى (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ).أي الحياة. بينما هو مفرّط حتى في أمور الدنيا ، ويعمل اعمالا
قد تضره وتنقلب عليه.
حرصك على المستقبل البعيد يوحّد مسارك ولا يجعلك تضيع في دوامات جانبية
على هوامش الطريق، ويفيدك في الحاضر القريب أيضا، و حرصك على طاعة الله هو لأجل
الآخرة والدنيا ، والله لا يأمرك الا بالفضائل ، وسوف يحبك الناس وتتقي شرهم وهذا
يسهل نجاحك في الحاضر لأنهم سوف يساعدونك.
التفكير بالحاضر
والمستقبل هي ما يفرّق بين أصحاب الاختيارات، فأصحاب الاختيار الطيب تجدهم يتحملون
شيئا بالحاضر مقابل المستقبل، وهذه طبيعتهم وإستراتيجيتهم ، وعادةً إذا خيرتهم بين
شيء يأخذه الآن وبين شيء يأخذه لاحقا لكن بشكل أحسن وأكثر لاختار الثاني، وهذا
مقياس للعقل ، أما الذي يحب العاجلة فيحب ما يأخذه الآن ، والذي يؤجِّل يجد خيراً،
و كل شيء تعطيه وقتا سيكون أفضل .
التأجيل يكون
مذموما إذا كان تأجيلا بالعمل والواجب ، وقد قيل (لا تؤجل عمل اليوم الى غد) ، فكونك
تستطيع أن تعمل لكنك تؤجل، ستتراكم عليك الأعمال ويأتي الوقت الذي لا تستطيع فيه
أن تعمل ، فتعجَّل بالعمل لكن لا تعجَّل بطلب الثمرة والاستمتاع.
الله ربط بين
الإيمان والعمل لأبعد مستقبل بالنجاح، ووصف هؤلاء بأنهم هم الفائزون ، أي في
الدنيا والآخرة، الذين يؤمنون بالغيب. كل مستقبلاتك لا بد أن ترتبط بالمستقبل
الأهم والأبعد، حتى يصففها ويرتبها ويبعدها عن النشوز، فتكون مسيرة حياتك تراكمية
وليست خطوات يقع بعضها على بعض، كالتي نقضت غزلها بعد إحكام، وذلك هو الخسران،
فالإنسان ضعيف وخطواته ضعيفة، لا بد أن تكون خطواته تراكمية تصاعدية حتى يصل إلى
الهدف، ولا تتفرق به السبل، هذا يحتاج إلى نقطة أخيرة يرتبط بها، حتى يكون المبنى
مستقيما ، تماما مثل ما يفعل البناء حيث يربط خيطا في اقصى ما سوف يصل اليه
الجدار، حتى يستقيم مبناه. وهذا عكس النظرة العلمانية التي تعمل بلا هدف ، على طريقة
التجربة والخطأ ، بدون أهداف مسبقة ولا قيم مسبقة، سوف يقضي الحياة في اثناء هذا
اللت والعجن والتخبط ويجد الله أمامه فيوفيه حسابه. (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا
عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم) . والاستقامة تكون بالتوصيل ما بين اقصى نقطتين
بخط مستقيم، أن تربط حياتك باقصى نقطة، وهي الله ، فالله هو الصمد ولا تخطيط
بدونه. وحينها سوف تستقيم حياتك ولا يطأ بعضها رقاب بعض. كما قال ابو العتاهية :
وان امرأ قد سار خمسين حجة .. على غايةٍ من وردها لقريبُ ..
أي سار بدون ميلان ،
لأن أي انحراف عن طريق مستقيم يعني الرجوع الى نقطة البداية كالدائرة تماما .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق