الجمعة، 26 يوليو 2024

تعليق على موضوع (الإعتقاد بعدم ، أم عدم الإعتقاد) في يوتيوب والرد عليه ..

التعليق :


@Jana-cg9io

 

ما فهمت شالفرق بين الاعتقاد بعدم وعدم الاعتقاد. لو فرضنا اننا نتكلم عن الاعتقاد بوجود فضائيين، فأنا موقفي منه انني جاهل، واتقبل ذالك، لانني لا اعلم، هناك احتمال لوجودهم وهناك احتمال بعدم وجودهم، لا اعتقد بهذا او بذاك. لانني ببساطه لا احتاج للاعتقاد بهم او عدم الاعتقاد. ولانني غير واثق. فلا ارى ان هذا يبعدني عن انسانيتي ؟ ما العلاقه؟

 

الرد على التعليق :

 

كونك لا تحتاج ان تعتقد، هذا يبعدك عن الإنسانية، لان اول صفات الإنسانية هي العقل، وانت في هذه الحالة قد ركنت عقلك، فتكون حالتك مثل حالة الانسان ذو القدرات العقلية الناقصة (متخلف)، لان المتخلف عقليا - بعيد عنك - ليس عنده اي اهتمام بمثل هكذا أمور .. ومعذور، ولكنك لست معذورا لأنك لست متخلف.. الحيوان ليست لديه مواقف مثل هذه، 


وإني هنا أتساءل: يا ترى ما العلاقة الحميمية هذه بين الحيوان والالحاد؟ الذي يقدسونه صراحة.. فأصل الانسان حيوان كما يقولون، وكأن الحيوان رائد لفكرهم في موضوع الزنى والمثلية وعدم التفكير وعدم الاعتقاد، كأنه ينطبق عليهم قول نزار قباني : إني أمرؤ يطمح أن يكون يوما في مرتبة الحيوان .. لكن هيهات، من المعلوم ان هناك غزل واضح في عالم الحيوان من قبل الإلحاد، لكن الإنسان لن يكون حيوانا يوما .. لان الحيوان مخلوق مهيأ لوظيفته في البيئة، اما الانسان فهو مخلوق مخيّر ومزود بعقل وشعور واسعين


عندما تشاهد تمثيلية او فيلما، تتحمس وتريد ان تعرف، مع انك تعلم انها تمثيل وليس حقيقة، فما بالك بأكبر أمر يترتب عليه كل شيء، وهو وجود اله او عدم وجوده؟ هل تمر من عند الموضوع وكأنه لا يعنيك أبدا، تماما كمرور المعتوه او الحيوان عليه؟ هذا لا يعقل وانت تتحمس مع فيلم تعرف انه غير حقيقي .. يا اخي خاطب العقل بما يُعقل .. 


الله وصف الكافرين عموما ومنهم الكافرون بوجوده (الملاحدة) بأوصاف يحبونها ويبحثون عنها، قال تعالى عنهم (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) .. وقال (فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث) وقال (كمثل الحمار يحمل اسفارا) ولاحظ مدى تعلق الملاحدة بالحيوان كأصل ومرجع، تصديقا للقرآن، ووصف قلوبهم بأنها كالحجارة أو أشد قسوة.. 


وهذا ينطبق على دعواهم بأنهم لا يكترثون بشيء ويؤمنون بالبقاء للاقوى كما قال نيتشه، دليلا على قسوة القلب. بينما في الاسلام يقول الرسول (الضعيف امير الركب) فانظر الى الفارق في الانسانية. بينما شبه القرآن المؤمنين بالنبات، بامكانك ان شئت ان تراجع موضوعي في مدونتي (تعلم من النبات)

 

https://alwarraq0.blogspot.com/2012/02/blog-post_15.html?m=1)..

 

كقوله تعالى يصف المؤمنين (كزرع اخرج شطئه) وقوله (ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة). لان النبات كله خير وعطاء وجمال. من العجيب كيف ان الكفار والملاحدة يتبعون كلام الله عنهم في القرآن، من غير قصد منهم، وهذا دليل على ان القرآن كلام الخالق. (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير). ومعذرة على قسوة الأسلوب.

الخميس، 11 يوليو 2024

حول الذكاء ..

لقد سبق وأن عرّفت الذكاء في موضوع خارطة الانسان الداخلية في المدونة، وذكرت فيه أن الذكاء هو "الانتقال السريع والدقيق بين مستويات الذاكرة، والاستفادة منها". هذه هي آلية الذكاء كيف يعمل في الإنسان.

 

لكن كيف يكون الإنسان ذكيا ذكاء مفيدا؟ عليه أن يستمع لشعوره، لأنه مصدر الإبداع لدى الإنسان، يستمع لشعوره ويحترم ملاحظاته المتجددة، بالمحبة او بالنفور، لأن الشعور لا يعيد نفسه، وهذه هي لغة الشعور: الانقباض والانبساط، لأن الشعور أعجمي لا يُتَرجِمُ كلامه، وتسمع من يصف أحدا بأنه (يلقطها وهي طايرة)، اصنع هذا مع شعورك، مع ربط ما يقوله الإحساس بالذاكرة، فالذاكرة أيضا تحتاج أن تكون مُدخلاتها مُتَأَكَّدٌ منها حين إدخالها.

 

ما يقدمه الشعور يُعرض على المنطق وعلى الواقع، وعلى الإمكانية، فيحصل حينها الذكاء على شكل حكمة. أما الذكاء بحد ذاته فهو السرعة والدقة في المرور على مستويات الذاكرة والربط بينها، قد تجد ذكيا ولكنه غير حكيم، وقد تجد ذكيا ولكن لَبِنَاتُ عقله فيها أخطاء، فيكون كما قال الشاعر :

 

صحّ مني العزم، والسيف نبا ..

 

أي أن مشكلته في أدواته في هذه الحالة.

 

إن الذكي الحكيم يحتاج إلى الأخلاق، لأن الاخلاق هي التي تبني العقل، ومن لا أخلاق له لا عقل له، وإن كان ذكيا. فوصف الإنسان بالعقل يعني أنه أقرب للحكمة والتروّي، بينما الذكي قد يكون متهورا وقد يسبب لنفسه المشاكل، فالذكاء لا قيمة له بلا حكمة وأخلاق وعقل.

 

الذكاء المجرّد يحتاج إلى الثقة، قد تجد إنسانا يخاف من عملية حسابات معقدة، فتجد أنه يمكن أن لديه عقدة أو موقف من هذا الأمر مرّ به، ففقد الثقة، ويعتبر نفسه غبيا، وهو ليس غبي.

 

تجد أحدهم يقدم لغزا ما، وعندما نعجز عن حلّه، ويقدم لنا الحل، نجد أنه جاء من أمور نعرفها، لكن لم نستخدمها في ذكاءنا، لذلك نضرب رؤوسنا، ونقول : كيف فاتت علينا هذه؟ كأننا لم نستحضر المعلومات التي عندنا، أو لم نستخدم التدقيق، لأن بعض الألغاز يكون حلها منطقيا ولكن لم يدقق السامع أو القارئ على مسألة اللغز، كما قيل في الالغاز :

 

أسألك يا قاضي تُها ..

عن امرأة تزوجتها ..

هي أمّي وأنا ولدّتُّها ..

 

وعلى القارئ أو السامع تحديد الضمائر ومرجعها، أي يحتاج الى تدقيق، وقد كان مفتاح الحل موجودا في السطر الأول من اللغز، فـ (تُها) هو اسم القاضي، وتزوج (تها) المرأة، التي هي أمّ السائل، وهو ولدٌ لـ(تُها) القاضي، فمن أبوه يكون؟ انه القاضي (تها) ..

 

هنا تكمن قوة أو ضعف الذكاء في التدقيق، لكن لغزاً آخر قد يعتمد على الإستفادة من الذاكرة. مثل مسألة القطار الكهربائي الذي يسير بسرعة 100 كلم في الساعة متجها الى الشمال، فأين سيتجه دخانه؟ بداهة ستقول إلى الجنوب، لكنك تعرف أن القطار الكهربائي ليس له عوادم، لكن فاتت، اذن فَلَتَ الذكاء هنا، ومثله مسألة إذا اختلف الجاران على بيضة ديك على السور الفاصل بينهما، ايهما ستكون له البيضة؟ قد ينسى الطفل أن الديك لا يبيض أصلا، فهنا فاتت عليه معلومة لم يستحضرها ذكاؤه، مع أنه يعرف أن الديك لا يبيض.

 

ويدخل في الذكاء : متعلقات الشيء وما ينتج عنه، مثل سجين في غرفة وفيها فتحة عالية، ولديه ثلاجة ويحتاج الى فرق عشرة سنتمترات حتى تصل يده الى الفتحة، وعنده ماء. فكيف يصل إليها؟ الحل هو أن يثلّج ماء فيها فيعطيه الفرق حتى يصل إليها. هذا الحل مبني على ذكاء معرفة متعلقات الشيء. وهذا كله داخل في الاستفادة من الذاكرة.

 

إذا رأيت أحدا يضرب رأسه بيده، هذا يعني أنه لم يستفد من الذاكرة، اذ كانت المعلومات عنده ولم يستحضرها، هذه ضربة ندم على شيء موجود لم استفد منه.

 

وما يقوم به أصحاب خفة اليد من ألاعيب هو ذكاء مبني على التصور لدى الآخر، بناء على الذاكرة، لأنه تصوّر تصورات وأدرك لاحقا أنه خُدِع بها، وأنه من الممكن أن يُخدع الإنسان وحواسّه، وهذا ما فعله سجين زندا في الرواية، عندما غطى نفسه بلباس رفيقه الميت في الزنزانة المجاورة، وحمله من خلال النفق الذي حفروه إلى زنزانته، ووضعه في زنزانته وغطاه، فجاء الحراس لنقل من يتصورون أنه الميت حسب رقم الزنزانة، فأخرجوه إلى الخارج وألقوه في البحر ونجى سباحة، بعد أن شق الكيس بسكين قبل أن يصل إلى الماء. إن الحراس لم يلاحظوا إلا أن وزنه كان ثقيلا، وهم يذكرون أنه كان شيخا هزيلا، فردّ الآخر أن الميت تثقل عظامه وتتحول الى رصاص اذا مات، أي رد بخرافة.

 

إن لحظة الذكاء هنا جاءت من الشعور بومضة، فتصور السجين الوضع أنهم قد لا يكتشفون الحيلة، ثم وضع احتمال آخر بحيث لو اكتشفوه سيعيدوه إلى السجن المؤبد، وهنا عمل عقله المنطقي، أي لن يزيد عليه شيء، فهو يعمل على حسابات الخسارة.  

 

وذكاء المحققين أو المحامين أو القضاة هو من هذا النوع في الأغلب، أي من الذكاء المجرد، مثل ذكاء القاضي إياس، وحتى صنّاع النكتة يعتمدون على الذكاء المجرّد.

 

وإذا تكلمنا عن الابداع، فالإبداع مختلف عن الذكاء، إذ يأتي على شكل ومضة يحترمها صاحبها ويفكر فيها بذكائه ويعرضها على عقله وأخلاقه، فيحصل الإبداع. إن الذكاء سرعة ودقة في تناول ما هو موجود، بينما الإبداع ومضة من لا موجود، اذا اشتغل عليها الذكاء واحترمها صاحبها تحولت إلى موجود. الومضة الإبداعية تأتي على شكل ملاحظة. لذلك في الأخير الذكاء والإبداع والإيمان والأخلاق، كلها مصدرها الشعور من دوائره العليا.

 

إن الإنسان لا يستطيع أن يأتي بشيء ليس له علاقة بذاكرته، لكن الذاكرة أوسع مما نتصور، فهناك ذاكرة لمس وذاكرة ذوق وذاكرة لغوية وذاكرة فيزيائية وذاكرة موسيقية وغيرها وغيرها، كلها موجودة في الإنسان.

 

إن ما يغذي الذكاء هو الأخلاق واحترام المنطق وسعة الاطلاع، وكل هذا يحتاج إلى الإيمان، لأن لدينا أمور هامة تحتاج التركيز وشحذ الذكاء، بسبب الإيمان، كأن الأمور الهامة تحتاج إلى صنع وإيجاد، وإلا أصبحنا تافهين، فالإيمان بالله هو أساس العقل السليم واحترام الشعور وإصلاح النفس والأخلاق، والمعرفة والاطلاع أيضا، لأن الإنسان بعد الإيمان أصبحت لديه أمور هامة تحتاج لأن يُعمِل بها عقله وأن يتعلم لأجلها وأن يتذكرها، ويحتاج ان يشغل ذكاءه، أي اصبح لديه دافع. وبدون الدوافع يميل الانسان للكسل والخمول والدعة.

 

إن كل الحضارات قامت حول الإيمان والدين، والآثار الباقية منها تشهد بذلك، فهي آثار دينية كالأهرامات والمعابد وغيرها.

حول تنزيه الله عن بعض صفاته، كالغضب والأسف ..

يقول بعض المسلمين أنه يستحيل على الله أن يُوصَف بالأسف والغضب والحسرة، لأن الله منزّه عن التغيرات العرضية والذاتية، وعلى هذا فيجب تأويل تلك الصفات إلى ما يلزم من هذه الصفات، ويبدو أن هذا هو رأي الأشاعرة والمعتزلة من قبلهم.

 

لكن ما رأيهم بالرضا؟ أليس شعورا؟ وهم يقرّون بوصف الله بالرضا، فهم يترضون على الصحابة، ويقولون رضي الله عنهم. 

 

فإذا أقرّ أحدٌ بالرضا، عليه أن يقرّ بالغضب، لأنه عكس الصفة. وإلا فكيف نعرف الله إذا كنا نقول أنه يستحيل عليه أن يغضب وأن يرضى وأن يأسف وأن يتحسر؟ هل نقول أن الله يرضى فقط ولا يغضب؟ هذا إرجاءٌ من جهة أخرى. وهذا تعطيلٌ لصفات الله يجعل الإنسان لا يعرف ربه ولا يتحسّس غضبه ولا يتحسس رضاه. 

 

كيف ينظر إلى الله من يُبعِد الله عن صفاته المعنوية؟ وهي الصفات المهمة في علاقتنا مع الله؟ كيف يعرفه؟ كأنك تعبد إلهاً لا يغضب ولا يتحسر ولا يرضى ولا يأسف! هذا تعطيلٌ يقع في الصفات المعنوية، وكأنهم يريدون أن يجرّدوا الله من المشاعر، بحجة أنه يعلم وأنه لا يتعرض لتغيرات نفسية كما تعرض للبشر من غضب ورضا، لئلا يشابه المخلوقين، مع أن هذه من لوازم الحياة، وحتى الحيوانات تغضب وترضى. 

 

إن الله أرادنا أن نشابهه في الأمور المعنوية، لأننا نعبده، فكيف نعبدُ من لا نعرف صفاته المعنوية؟ إن العبادة الحقيقية هي العبادة التي تعطيك الفهم والطمأنينة، قال تعالى (ألا بذكر الله تطمئن القلوب). إن هذا تعطيلٌ جاء بدافع التنزيه، ولذلك الله يلوم المشركين على عبادة الأصنام التي لا تحس ولا تضر ولا تنفع، والمجردة من الصفات الحية، بينما الله هو الحي القيوم الذي لا يغفل ولا ينام، فلماذا يقول الله عن نفسه أنه حي؟ إن الإحساس من علامات الحياة.

 

إن حقيقة الله لا نعرفها، وإذا قال أحد أن الله ليس كمثله شيء لا في المادي ولا في المعنوي، فكيف يقول تعالى (ونفخت فيه من روحي)؟ و"من" هنا تبعيضية، وإذا كان الشيء من شيء، فهو مثله في ذلك الشيء. 

 

وهذا هو أساس تكريم بني آدم، ولذلك غار إبليس من آدم، وقال لله : خلقته من طين وخلقتني من نار، لا يُريد أن يذكُر أن الله نفخ في آدم من روحه، لأن هذا ما يؤلمه حقيقةً، أن في آدمَ شيءٌ من روح الله، لذلك إبليس ذكر طينة الإنسان وخلقته المادية من حمأ مسنون، أي آسن متعفن، ولم يذكر أنه نفخ فيه من روحه. 

 

إن هذا السمو الذي نشعر به في دوائر الشعور العليا، هذا ليس من الطين، وليس من الحيوان، ردا على نظرية التطور، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، بل هذا من روح إلهية. لذلك الإنسان إذا أراد أن يسمو بأخلاقه سمى وارتقى، وأصبح كأنه ملاك كريم. 

 

إن الحيوان لا يستطيع أن يسمو عن أصله، وهذا يؤكد أن الإنسان ليس من أصول حيوانية، فاجتمع في الانسان الأصل الدنيء وهو الطين الآسن، مع روح الله الراقي العظيم، لذلك الله يقول (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها). لقد أراد الله أن يكون شعورنا من روح الله، لذلك الشعور نقسمه افتراضا إلى مشاعر عليا ومشاعر دنيا، مشاعر عليا تتعلق بالحب والايمان والجمال والاخلاق، ومشاعر دنيا تهتم بالجسم والغرائز، وهذا يشير إلى الأصلين الذين تكون منهما الإنسان: الطين، وروح الله. 

 

ولذلك قال تعالى أنه اصطفى آدم، أي من المخلوقات، وليس من الناس أو البشر، لأنهم لم يُخلقوا بعد. لذلك الله قال (إني جاعل في الأرض خليفة)، أي يحمل نفس الشعور الإلهي، يخلف حكم الله في الأرض، فكيف يكون خليفة لله إذا لم يكن من روحه؟ يخلُفُ الله من يكون من روحه. 

 

إن اعتراض الملائكة كان على الموبقات التي سيفعلها الناس، لذلك الله قال (إني اعلم ما لا تعلمون)، فليس كل الناس يفعلون الموبقات، لأن فيهم أرواحا طاهرة، ومن هؤلاء أرواح الأنبياء وأتباعهم المخلصين، ألم يمدح الله خلق الرسول محمد إذ قال (وإنك لعلى خلق عظيم)؟ انظر الى اخلاق النبي يوسف، اذ قالت النسوة (ما هذا بشرا ان هذا الا ملك كريم)، وهو الذي يقول لأخوته الذين تآمروا عليه بعد أن صار عزيز مصر (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم)، بعد أن قالوا له (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل)؟ هذا سمو أخلاقي عظيم، يترفع عن الفاحشة والرذيلة، من علّم الإنسان هذه الاخلاق؟ ومن أين جاءت؟

 

الله يمدح انبيائه وأتباعهم ويريهم الملائكة، وهم يصبرون ويتحملون لأجل نصرة الله والحق. إذن هؤلاء هم من زكّوا أرواحهم ونظّفوها، وإلا فروح الله موجودة فيهم أصلا. من أين يأتون بالفضيلة وهم لا يملكون أساسا لها؟ لكن هناك من دساها وهناك من زكاها. 

 

ومن باب تنزيه الله عن البشر، وقعوا في تشبيه الله بالبشر، لأن البشر إذا علم السبب زال عنه العجب، فلا يرضى ولا يغضب إذا كان عارفا بالنتيجة مسبقا، وصاروا يقيسون الله على الإنسان، بأنه طالما أن الله يعلم كل شيء، فبالتالي لن يغضب ولن يأسف، مثلهم! هنا وقعوا في التشبيه، تشبيه الله بالمخلوقين.    

 

ولماذا يخبرنا الله أنه نفخ فيه من روحه؟ لكي نعرف من أين جاءت الفضيلة وحب السمو فينا، حتى ولو كنا لا نفعله، لكننا نحب الإنسان الفاضل والكريم والعزيز المترفع عن الذلة، والرحيم، والتي هي صفات الله المشاعرية، ونحب الودود واللطيف. بينما صفة علم الغيب والقدرة على كل شيء نجلّها، لكن لا نمدح أحدا بها، لأنها غير موجودة في البشر. لذلك قال تعالى أنه نفخ فينا (من) روحه، ولم يقل نفخ فينا روحه، لأنه لو نفخ فينا روحه، لعلِمْنا الغيب وقدرنا على كل شيء. 

 

أي أن لدينا شيئا من روح الله، وليس كل روح الله، لذلك هذه الصفات المنفوخة أصبحت هي الصفات التي يمدح البشر بها بعضهم بعضا، فهذا كريم وذاك ودود وهذا عادل وذاك صادق، وهذا لطيف، وذاك يحب المحسنين، ويكره الرذيلة والفسق، ويكره الجاحدين الكافرين بالنعمة. هذه صفات من روح الله، وهي الفضائل البشرية. فكيف نجرّد الله منها ونتأوّلها بينما نثبتها للبشر؟ 

 

نحن نقرّ أن الله خلقنا وهو يعلم ماذا سنفعل، إن الله يعاملنا هكذا، لا يصلح أن يعاملنا الله بغير هذا. أما لماذا خلقنا وهو يعلم، وكيف يأسف وهو يعلم، وكيف يغضب وهو يعلم، اذن كيف يرضى وهو يعلم؟ إن الله قدّم لنا نفسه هكذا لكي نعرفه، فهو عرّف نفسه بأنه حميد، وماذا تعني حميد؟ أي أنه سريع الرضا والشكر، وقدّم نفسه بأنه الشكور، وأنه شديد العقاب، هذه تتناسب مع الغضب، والشكور والغفور والحميد تتناسب مع الرضا، إذن الله يغضب ويرضى، بموجب أسمائه وصفاته. إن الله عزيز ذو انتقام، ألا تتناسب هذه العبارة مع الغضب؟ كيف نقرّ بهذه ولا نقرّ بتلك؟ مع أن الله ذكر أنه يغضب؟ قال تعالى (غضب الله عليهم ولعنهم). 

 

هكذا قدم الله نفسه لنا في كتابه، وأمرنا باتباع كتابه، بدون تأويل، لأن تأويل كلام الله مشكلة، تؤدي إلى انحرافات عما أراده الله. إن أي تأويل في كتاب الله باطل، لأنه كتاب مبين، والله أرادنا أن نتبع كتابه، فكيف نتبع من يحتاج إلى تأويل من البشر؟ 

 

إن الله أراد أن نعرف أنه يغضب، بدليل أنه يقول (إنا من المجرمين منتقمون)، وأن الله شديد العقاب، وقوله (غضب الله عليهم ولعنهم)، فكيف نعطّل ما قدّمه الله لنا تعريفا بنفسه؟ وأيهما أنفع للإنسان: أن يعلم أن الله يغضب إذا انتهكت محارمه وأنه يرضى، وأنه يحب ويكره، ويأسف ويتحسّر، أم أن الله مجرّد من هذه كلها؟ كيف نقرّ بلوازم الصفة ولا نقر بالصفة؟ مع أنها مذكورة؟

 

إن الله حيّ، وإذا قلنا بهذه التعطيلات انتقصنا من حياة الله وكأنه لا يحسّ. إن الإنسان يتفاهم مع الله، لأن الله يعرف أحاسيسه، ويخاف من غضب الله وسخطه. 

 

إن البشر يشبهون الله في هذه المشاعر، لأنها من روحه، ولم يقل تعالى أنه نفخ في الحيوانات من روحه، فهذه هي وسيلة التواصل مع الله ومعرفته. أنا اعرف ان الله غفور رحيم وأنه عزيز ذو انتقام، فلا أفقد الامل برحمته واخاف من عذابه وغضبه. 

 

وإذا كان الله يرضى عن من يشاء ويغضب على من يشاء، فهذا يجعلني أتلمّس رضى الله، وأخاف من غضبه. قال تعالى (يدعوننا رغبا ورهبا)، وإلا فكيف تخاف من الله إذا لم يكن يغضب؟ 

 

إن حقيقة الله لا نعرفها، وإلا كيف نعرف لماذا خلق الكفار وهو يعلم أنهم سيكفرون؟ هنا منطقة يجب أن يقف العقل فيها، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، والإيمان يقول إن الله لا يظلم أحدا، هكذا نعرف الله، ونطمئن. (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، لذلك الله يكثّف ويكرر صفاته في ذيل كل آية في القرآن تقريبا، لماذا؟ لكي يطمئن عباده، ويعرفوه. 

 

لولا معرفة صفات الله لما حصلت الطمأنينة وما حصل الخوف من الله. إن المحسن وهو ينفق ماله ومجهوده، لو لم يكن يعلم أن الله يحب المحسنين، لآثر نفسه بماله. والحب شعور، إذن شعورنا من روح الله، هذا الشعور الذي يحب الفضيلة حتى لو لم يفعلها، ويكره الرذيلة حتى لو لم يفعلها. إن هذا شعور طاهر من روح الله الطاهرة. وهي وسيلة التعامل بين العبد وربه.

 

الحمد لله أنه أكثر من ذكر صفاته المعنوية في القرآن، لتطمئن القلوب بهذا الحبيب العظيم الكريم اللطيف الحليم الحكيم. 

 

من الخطأ الكبير أن تجرّد الله من بعض صفاته، مثل الخطأ الآخر أن تنقُل بعض صفاته إلى غيره، فما لله يجب أن يبقى لله، بصفاته وعلمه، أما الصفات المادية فهي وسيلة للتقريب، وإلا فالله ليس كمثله شيء، مثل قوله (على العرش استوى)، ومثل ذكر اليد والعين والمجيء، لكن صفاته المعنوية هي صفات حقيقية، فالله رحيم على الحقيقة بدون تأويل، لأن هذه هي الصفات التي نحتاجها وقد كشفها الله لنا، وهي التي تعطينا الأمان والاطمئنان، (إن الله يغفر الذنوب جميعا) ألا تشعرك هذه الآية بالأمان؟ 

 

إن الله يحب المحسنين ويكره الفاسقين والفجور والعصيان، ألا تعطيك هذه تحذيرا؟ أليست مشاعر متغيرة؟ فمرة يكره ومرة يحب؟ مثلما أنه مرة يغضب ومرة يرضى، لأنه حي. إنها كلها مبنية على شعور من الحب او الكره يقدّمه الله عن نفسه في الحقيقة. 

 

لكن أن تقول لله يد او قدم، هنا لا تستفيد أنت من هذا، ماذا يفيدك أن تكون لله يد أو لا تكون؟ هذا من عالم الغيب، لذلك لم ير الله أحدٌ من الأنبياء ولا غيرهم. لأن الرؤية مادية.

 

إن تعطيل صفات الله أو بعضها صورة مصغّرة من اللادينية، التي تعطّل الله بالكامل، مع أنها تقر بوجوده، فكأنه خلق الكون وأدار له ظهره.

 

طبعا هذا التنزيه جاء بحسن نية، لكنه أنتج ما أنتج من خطأ، ومخالفة لصريح القرآن، بحجة التنزيه.

 

الاعتقاد بعدم، أم عدم الاعتقاد؟

الإنسان له موقفان من كل القضايا، إذا كانت قضايا حسية وقابلة للتثبت، يتحول موقفه إلى علم أو جهل، وإذا كانت قضايا لا يمكن إثباتها ولا نفيها، فهو يعتقد بوجود أو بعدم وجود، وهذا ينطبق على القضايا الدينية او التاريخية او المستقبلية، فيعتقد بوجود او حدوث، او يعتقد بعدم وجود او عدم حدوث، سواء في الماضي او المستقبل او الغيب في الحاضر الذي لا يمكن أن يطلع عليه، وهذا ما يفعله كل إنسان مؤمن او ملحد. فهناك من يعتقد بوجود الجن ومن يعتقد بعدم وجودهم، ومن يعتقد بوجود السحر ومن يعتقد بعدم وجوده، ومن يعتقد بضرر العين، ومن يعتقد بعدم ضرر العين، وهناك من يعتقد أن الحوت كان عجلا وقع في بحيرة في مصر فتطور وصار إلى ما صار، وهناك من يعتقد أن الحوت لم يكن كذلك، بل أنه مخلوق كما هو لوظيفة تخدم البيئة ولا يقوم بها الا هو، وخُلِقَ جسمه مناسبا لوظيفته، ولا شأن له بعالم العجول ووظائفها، وهناك من يعتقد أن الإنسان متحور من قرد، وهناك من يعتقد أن الله خلق الإنسان بيده، وهكذا.

 

كل قضايا تمر على العقل الإنساني، يحدد موقفه منها، من خلال الاعتقاد، لأنه لا يملك وسائل حسية للإثبات او النفي. هذا هو المنطق. بل إن العقل البشري يحدد موقفا حتى من الأمور التي يمكن التثبت منها، فهو يسبق التثبّت، أي أن اعتقاد الإنسان أسرع من تثبّته، بسرعة كبيرة، وما أكثر ما تمر بنا من مواقف نتراجع عنها بعدما تبينت لنا، مما يعني أن الإنسان مخلوق مُعتَقِد حتى قبل أن يتثبت.

 

لو قيل أن هناك مخلوقات فضائية تزور الأرض، هل يوجد أحد لا يعتقد بهذا الموضوع أصلا؟ إلا من لم يطلع عليه ولم يُطرح عليه، لكن إذا طُرح عليه لا بد أن يكون له موقف ظنّيّ من بعد ذلك: هل يعتقد بحدوثها أم يعتقد بعدم حدوثها.

 

لا توجد حالة لا يعتقد الإنسان فيها في أمور غيبية، إلا إن تحوّلَ عقله في تلك اللحظة إلى كتلة خرسانية ثقيلة لا تحس ولا تفهم، حينئذ يسعه أن يقول أنه لا يعتقد ولا يحس وليس له موقف. لا يسع الإنسان إلا أن يعتقد بوجود أو يعتقد بعدم بوجود، إما يعتقد بحدوث أو يعتقد بعدم حدوث، ما دام حيا، وإذا مات توقف عن الاعتقاد، ولو قال "بعدم الاعتقاد"، فهذا يحوّل الإنسان إلى صخرة لا تعتقد شيئا، أي أنه لم يعد إنسانا.

 

وما هي الأمثلة على أن الإنسان لا يعتقد بعد أن اطّلع؟ لا توجد إلا في حالة واحدة يدّعيها الملاحدة فقط في تعريفهم للإلحاد، لكي لا يُشَبَّهُوا بالمؤمنين بأنهم يعتقدون.

 

وتعريف الملاحدة الذي يعجبهم بأن الإلحاد هو "عدم الاعتقاد" بوجود الله، وإصرارهم على هذا التعريف السخيف - عقليا وواقعيا - وخصوصا القول بـ (عدم الاعتقاد)، يخرجهم عن الإنسانية، ويحوّلهم إلى صخور أو خشب مسندة.

 

مثل هذا التعريف للإلحاد، يدل على عدم معرفة دقيقة بالنفس الإنسانية والعقل البشري كيف يعملان، بل لا يمكن أن يقفل الإنسان عقله حتى لا يفكر، هذا مستحيل. الإنسان ليس جهازا يُتَحَكَّم به، والأفكار المزعجة والوساوس لا يمكن التخلص منها بإدارة قفل، وهذا ما يتمناه الملاحدة، يتمنون ان يوقفوا التفكير في الأمور التي لا يريدونها، وهي ما يدور حول الله، لكن هيهات، لأن الشعور البشري الخائف الذي يبحث عن نجاته يدفع العقل للتفكير والانشغال، لأنه لا يعلم أن الله غير موجود، وهذا ما يسبب الشعور بالضيق والكآبة عند الملاحدة على درجات، وقد قال الله (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكى).

 

الإنسان مُعتقدٌ لا محالة في الأمور التي تُعرض عليه ولا يمكن أن يتثبت من وجودها حسّيا، فهو سيعتقد لا محالة، إما بوجود أو بعدم وجود، إما بحدوث أو بعدم حدوث، ويبحث عن مؤيدات لاعتقاده، وهذا ما يفعله كل ملحد، بدليل أن الملاحدة يقدّمون مبررات وأسئلة داعمة لإلحادهم، إذن هم يعتقدون ويبحثون عن قرائن لإلحادهم، مثلما المؤمن يعتقد بوجود إله ويبحث عن الدلائل والقرائن التي تثبت قضيتهم، فإذا كان الملحد بموجب هذا التعريف السخيف، عليه ألا يبحث عن اثباتات وقرائن ولا يبحث عن مطاعن في الدين والعقيدة ووجود الله، لأنه رضي أن يكون صخرة، والصخرة لا تستطيع ان تقدم براهين ولا اثباتات، ولا تنتقد طرحا مخالفا لها، لأنها لا تعتقد.

 

اذن على الملاحدة الا يكرروا هذا التعريف السخيف، لأنه يُفقدهم إنسانيتهم إن احتاجوها، فهم يرحبون بدخولهم في عالم الحيوان، ولا يرون في هذا بأساً، فبعض المواقع الالحادية المشهورة تسأل الراغب في الاشتراك عن تصنيف نفسه هل هو إنسان أم حيوان. مرة يهربون إلى عالم الحيوان، ومرة يهربون إلى عالم الجمادات، فأين المفر؟ إلى ربك يومئذ المستقر.

 

كأن الملاحدة بهذا التعريف يريدون ان يُخرجوا أنفسهم من هذا الاختبار الإلهي، الذي دخل الكل فيه رغما عنه، وعلى الكل فردا فردا ان يحدّد موقفه : (هل خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون).

 

وقد صدق الله عندما قال (نسوا الله فأنساهم أنفسهم)، فقد نسوا طبيعتهم البشرية وصاروا يقدّمون تعريفا يشبه مواقف الصخور والطرقات من قضية غيبية.

 

قال تعالى (الظانين بالله ظن السوء) وقال (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم)، إذن مسألة الإيمان والإلحاد ظنٌّ لا بد منه ولا محالة، والله شديد المحال.