الخميس، 11 يوليو 2024

الاعتقاد بعدم، أم عدم الاعتقاد؟

الإنسان له موقفان من كل القضايا، إذا كانت قضايا حسية وقابلة للتثبت، يتحول موقفه إلى علم أو جهل، وإذا كانت قضايا لا يمكن إثباتها ولا نفيها، فهو يعتقد بوجود أو بعدم وجود، وهذا ينطبق على القضايا الدينية او التاريخية او المستقبلية، فيعتقد بوجود او حدوث، او يعتقد بعدم وجود او عدم حدوث، سواء في الماضي او المستقبل او الغيب في الحاضر الذي لا يمكن أن يطلع عليه، وهذا ما يفعله كل إنسان مؤمن او ملحد. فهناك من يعتقد بوجود الجن ومن يعتقد بعدم وجودهم، ومن يعتقد بوجود السحر ومن يعتقد بعدم وجوده، ومن يعتقد بضرر العين، ومن يعتقد بعدم ضرر العين، وهناك من يعتقد أن الحوت كان عجلا وقع في بحيرة في مصر فتطور وصار إلى ما صار، وهناك من يعتقد أن الحوت لم يكن كذلك، بل أنه مخلوق كما هو لوظيفة تخدم البيئة ولا يقوم بها الا هو، وخُلِقَ جسمه مناسبا لوظيفته، ولا شأن له بعالم العجول ووظائفها، وهناك من يعتقد أن الإنسان متحور من قرد، وهناك من يعتقد أن الله خلق الإنسان بيده، وهكذا.

 

كل قضايا تمر على العقل الإنساني، يحدد موقفه منها، من خلال الاعتقاد، لأنه لا يملك وسائل حسية للإثبات او النفي. هذا هو المنطق. بل إن العقل البشري يحدد موقفا حتى من الأمور التي يمكن التثبت منها، فهو يسبق التثبّت، أي أن اعتقاد الإنسان أسرع من تثبّته، بسرعة كبيرة، وما أكثر ما تمر بنا من مواقف نتراجع عنها بعدما تبينت لنا، مما يعني أن الإنسان مخلوق مُعتَقِد حتى قبل أن يتثبت.

 

لو قيل أن هناك مخلوقات فضائية تزور الأرض، هل يوجد أحد لا يعتقد بهذا الموضوع أصلا؟ إلا من لم يطلع عليه ولم يُطرح عليه، لكن إذا طُرح عليه لا بد أن يكون له موقف ظنّيّ من بعد ذلك: هل يعتقد بحدوثها أم يعتقد بعدم حدوثها.

 

لا توجد حالة لا يعتقد الإنسان فيها في أمور غيبية، إلا إن تحوّلَ عقله في تلك اللحظة إلى كتلة خرسانية ثقيلة لا تحس ولا تفهم، حينئذ يسعه أن يقول أنه لا يعتقد ولا يحس وليس له موقف. لا يسع الإنسان إلا أن يعتقد بوجود أو يعتقد بعدم بوجود، إما يعتقد بحدوث أو يعتقد بعدم حدوث، ما دام حيا، وإذا مات توقف عن الاعتقاد، ولو قال "بعدم الاعتقاد"، فهذا يحوّل الإنسان إلى صخرة لا تعتقد شيئا، أي أنه لم يعد إنسانا.

 

وما هي الأمثلة على أن الإنسان لا يعتقد بعد أن اطّلع؟ لا توجد إلا في حالة واحدة يدّعيها الملاحدة فقط في تعريفهم للإلحاد، لكي لا يُشَبَّهُوا بالمؤمنين بأنهم يعتقدون.

 

وتعريف الملاحدة الذي يعجبهم بأن الإلحاد هو "عدم الاعتقاد" بوجود الله، وإصرارهم على هذا التعريف السخيف - عقليا وواقعيا - وخصوصا القول بـ (عدم الاعتقاد)، يخرجهم عن الإنسانية، ويحوّلهم إلى صخور أو خشب مسندة.

 

مثل هذا التعريف للإلحاد، يدل على عدم معرفة دقيقة بالنفس الإنسانية والعقل البشري كيف يعملان، بل لا يمكن أن يقفل الإنسان عقله حتى لا يفكر، هذا مستحيل. الإنسان ليس جهازا يُتَحَكَّم به، والأفكار المزعجة والوساوس لا يمكن التخلص منها بإدارة قفل، وهذا ما يتمناه الملاحدة، يتمنون ان يوقفوا التفكير في الأمور التي لا يريدونها، وهي ما يدور حول الله، لكن هيهات، لأن الشعور البشري الخائف الذي يبحث عن نجاته يدفع العقل للتفكير والانشغال، لأنه لا يعلم أن الله غير موجود، وهذا ما يسبب الشعور بالضيق والكآبة عند الملاحدة على درجات، وقد قال الله (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكى).

 

الإنسان مُعتقدٌ لا محالة في الأمور التي تُعرض عليه ولا يمكن أن يتثبت من وجودها حسّيا، فهو سيعتقد لا محالة، إما بوجود أو بعدم وجود، إما بحدوث أو بعدم حدوث، ويبحث عن مؤيدات لاعتقاده، وهذا ما يفعله كل ملحد، بدليل أن الملاحدة يقدّمون مبررات وأسئلة داعمة لإلحادهم، إذن هم يعتقدون ويبحثون عن قرائن لإلحادهم، مثلما المؤمن يعتقد بوجود إله ويبحث عن الدلائل والقرائن التي تثبت قضيتهم، فإذا كان الملحد بموجب هذا التعريف السخيف، عليه ألا يبحث عن اثباتات وقرائن ولا يبحث عن مطاعن في الدين والعقيدة ووجود الله، لأنه رضي أن يكون صخرة، والصخرة لا تستطيع ان تقدم براهين ولا اثباتات، ولا تنتقد طرحا مخالفا لها، لأنها لا تعتقد.

 

اذن على الملاحدة الا يكرروا هذا التعريف السخيف، لأنه يُفقدهم إنسانيتهم إن احتاجوها، فهم يرحبون بدخولهم في عالم الحيوان، ولا يرون في هذا بأساً، فبعض المواقع الالحادية المشهورة تسأل الراغب في الاشتراك عن تصنيف نفسه هل هو إنسان أم حيوان. مرة يهربون إلى عالم الحيوان، ومرة يهربون إلى عالم الجمادات، فأين المفر؟ إلى ربك يومئذ المستقر.

 

كأن الملاحدة بهذا التعريف يريدون ان يُخرجوا أنفسهم من هذا الاختبار الإلهي، الذي دخل الكل فيه رغما عنه، وعلى الكل فردا فردا ان يحدّد موقفه : (هل خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون).

 

وقد صدق الله عندما قال (نسوا الله فأنساهم أنفسهم)، فقد نسوا طبيعتهم البشرية وصاروا يقدّمون تعريفا يشبه مواقف الصخور والطرقات من قضية غيبية.

 

قال تعالى (الظانين بالله ظن السوء) وقال (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم)، إذن مسألة الإيمان والإلحاد ظنٌّ لا بد منه ولا محالة، والله شديد المحال.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق