الخميس، 11 يوليو 2024

حول الذكاء ..

لقد سبق وأن عرّفت الذكاء في موضوع خارطة الانسان الداخلية في المدونة، وذكرت فيه أن الذكاء هو "الانتقال السريع والدقيق بين مستويات الذاكرة، والاستفادة منها". هذه هي آلية الذكاء كيف يعمل في الإنسان.

 

لكن كيف يكون الإنسان ذكيا ذكاء مفيدا؟ عليه أن يستمع لشعوره، لأنه مصدر الإبداع لدى الإنسان، يستمع لشعوره ويحترم ملاحظاته المتجددة، بالمحبة او بالنفور، لأن الشعور لا يعيد نفسه، وهذه هي لغة الشعور: الانقباض والانبساط، لأن الشعور أعجمي لا يُتَرجِمُ كلامه، وتسمع من يصف أحدا بأنه (يلقطها وهي طايرة)، اصنع هذا مع شعورك، مع ربط ما يقوله الإحساس بالذاكرة، فالذاكرة أيضا تحتاج أن تكون مُدخلاتها مُتَأَكَّدٌ منها حين إدخالها.

 

ما يقدمه الشعور يُعرض على المنطق وعلى الواقع، وعلى الإمكانية، فيحصل حينها الذكاء على شكل حكمة. أما الذكاء بحد ذاته فهو السرعة والدقة في المرور على مستويات الذاكرة والربط بينها، قد تجد ذكيا ولكنه غير حكيم، وقد تجد ذكيا ولكن لَبِنَاتُ عقله فيها أخطاء، فيكون كما قال الشاعر :

 

صحّ مني العزم، والسيف نبا ..

 

أي أن مشكلته في أدواته في هذه الحالة.

 

إن الذكي الحكيم يحتاج إلى الأخلاق، لأن الاخلاق هي التي تبني العقل، ومن لا أخلاق له لا عقل له، وإن كان ذكيا. فوصف الإنسان بالعقل يعني أنه أقرب للحكمة والتروّي، بينما الذكي قد يكون متهورا وقد يسبب لنفسه المشاكل، فالذكاء لا قيمة له بلا حكمة وأخلاق وعقل.

 

الذكاء المجرّد يحتاج إلى الثقة، قد تجد إنسانا يخاف من عملية حسابات معقدة، فتجد أنه يمكن أن لديه عقدة أو موقف من هذا الأمر مرّ به، ففقد الثقة، ويعتبر نفسه غبيا، وهو ليس غبي.

 

تجد أحدهم يقدم لغزا ما، وعندما نعجز عن حلّه، ويقدم لنا الحل، نجد أنه جاء من أمور نعرفها، لكن لم نستخدمها في ذكاءنا، لذلك نضرب رؤوسنا، ونقول : كيف فاتت علينا هذه؟ كأننا لم نستحضر المعلومات التي عندنا، أو لم نستخدم التدقيق، لأن بعض الألغاز يكون حلها منطقيا ولكن لم يدقق السامع أو القارئ على مسألة اللغز، كما قيل في الالغاز :

 

أسألك يا قاضي تُها ..

عن امرأة تزوجتها ..

هي أمّي وأنا ولدّتُّها ..

 

وعلى القارئ أو السامع تحديد الضمائر ومرجعها، أي يحتاج الى تدقيق، وقد كان مفتاح الحل موجودا في السطر الأول من اللغز، فـ (تُها) هو اسم القاضي، وتزوج (تها) المرأة، التي هي أمّ السائل، وهو ولدٌ لـ(تُها) القاضي، فمن أبوه يكون؟ انه القاضي (تها) ..

 

هنا تكمن قوة أو ضعف الذكاء في التدقيق، لكن لغزاً آخر قد يعتمد على الإستفادة من الذاكرة. مثل مسألة القطار الكهربائي الذي يسير بسرعة 100 كلم في الساعة متجها الى الشمال، فأين سيتجه دخانه؟ بداهة ستقول إلى الجنوب، لكنك تعرف أن القطار الكهربائي ليس له عوادم، لكن فاتت، اذن فَلَتَ الذكاء هنا، ومثله مسألة إذا اختلف الجاران على بيضة ديك على السور الفاصل بينهما، ايهما ستكون له البيضة؟ قد ينسى الطفل أن الديك لا يبيض أصلا، فهنا فاتت عليه معلومة لم يستحضرها ذكاؤه، مع أنه يعرف أن الديك لا يبيض.

 

ويدخل في الذكاء : متعلقات الشيء وما ينتج عنه، مثل سجين في غرفة وفيها فتحة عالية، ولديه ثلاجة ويحتاج الى فرق عشرة سنتمترات حتى تصل يده الى الفتحة، وعنده ماء. فكيف يصل إليها؟ الحل هو أن يثلّج ماء فيها فيعطيه الفرق حتى يصل إليها. هذا الحل مبني على ذكاء معرفة متعلقات الشيء. وهذا كله داخل في الاستفادة من الذاكرة.

 

إذا رأيت أحدا يضرب رأسه بيده، هذا يعني أنه لم يستفد من الذاكرة، اذ كانت المعلومات عنده ولم يستحضرها، هذه ضربة ندم على شيء موجود لم استفد منه.

 

وما يقوم به أصحاب خفة اليد من ألاعيب هو ذكاء مبني على التصور لدى الآخر، بناء على الذاكرة، لأنه تصوّر تصورات وأدرك لاحقا أنه خُدِع بها، وأنه من الممكن أن يُخدع الإنسان وحواسّه، وهذا ما فعله سجين زندا في الرواية، عندما غطى نفسه بلباس رفيقه الميت في الزنزانة المجاورة، وحمله من خلال النفق الذي حفروه إلى زنزانته، ووضعه في زنزانته وغطاه، فجاء الحراس لنقل من يتصورون أنه الميت حسب رقم الزنزانة، فأخرجوه إلى الخارج وألقوه في البحر ونجى سباحة، بعد أن شق الكيس بسكين قبل أن يصل إلى الماء. إن الحراس لم يلاحظوا إلا أن وزنه كان ثقيلا، وهم يذكرون أنه كان شيخا هزيلا، فردّ الآخر أن الميت تثقل عظامه وتتحول الى رصاص اذا مات، أي رد بخرافة.

 

إن لحظة الذكاء هنا جاءت من الشعور بومضة، فتصور السجين الوضع أنهم قد لا يكتشفون الحيلة، ثم وضع احتمال آخر بحيث لو اكتشفوه سيعيدوه إلى السجن المؤبد، وهنا عمل عقله المنطقي، أي لن يزيد عليه شيء، فهو يعمل على حسابات الخسارة.  

 

وذكاء المحققين أو المحامين أو القضاة هو من هذا النوع في الأغلب، أي من الذكاء المجرد، مثل ذكاء القاضي إياس، وحتى صنّاع النكتة يعتمدون على الذكاء المجرّد.

 

وإذا تكلمنا عن الابداع، فالإبداع مختلف عن الذكاء، إذ يأتي على شكل ومضة يحترمها صاحبها ويفكر فيها بذكائه ويعرضها على عقله وأخلاقه، فيحصل الإبداع. إن الذكاء سرعة ودقة في تناول ما هو موجود، بينما الإبداع ومضة من لا موجود، اذا اشتغل عليها الذكاء واحترمها صاحبها تحولت إلى موجود. الومضة الإبداعية تأتي على شكل ملاحظة. لذلك في الأخير الذكاء والإبداع والإيمان والأخلاق، كلها مصدرها الشعور من دوائره العليا.

 

إن الإنسان لا يستطيع أن يأتي بشيء ليس له علاقة بذاكرته، لكن الذاكرة أوسع مما نتصور، فهناك ذاكرة لمس وذاكرة ذوق وذاكرة لغوية وذاكرة فيزيائية وذاكرة موسيقية وغيرها وغيرها، كلها موجودة في الإنسان.

 

إن ما يغذي الذكاء هو الأخلاق واحترام المنطق وسعة الاطلاع، وكل هذا يحتاج إلى الإيمان، لأن لدينا أمور هامة تحتاج التركيز وشحذ الذكاء، بسبب الإيمان، كأن الأمور الهامة تحتاج إلى صنع وإيجاد، وإلا أصبحنا تافهين، فالإيمان بالله هو أساس العقل السليم واحترام الشعور وإصلاح النفس والأخلاق، والمعرفة والاطلاع أيضا، لأن الإنسان بعد الإيمان أصبحت لديه أمور هامة تحتاج لأن يُعمِل بها عقله وأن يتعلم لأجلها وأن يتذكرها، ويحتاج ان يشغل ذكاءه، أي اصبح لديه دافع. وبدون الدوافع يميل الانسان للكسل والخمول والدعة.

 

إن كل الحضارات قامت حول الإيمان والدين، والآثار الباقية منها تشهد بذلك، فهي آثار دينية كالأهرامات والمعابد وغيرها.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق