يقول بعض المسلمين أنه يستحيل على
الله أن يُوصَف بالأسف والغضب والحسرة، لأن الله منزّه عن التغيرات العرضية والذاتية،
وعلى هذا فيجب تأويل تلك الصفات إلى ما يلزم من هذه الصفات، ويبدو أن هذا هو رأي
الأشاعرة والمعتزلة من قبلهم.
لكن ما رأيهم بالرضا؟ أليس شعورا؟
وهم يقرّون بوصف الله بالرضا، فهم يترضون على الصحابة، ويقولون رضي الله
عنهم.
فإذا أقرّ أحدٌ بالرضا، عليه أن يقرّ
بالغضب، لأنه عكس الصفة. وإلا فكيف نعرف الله إذا كنا نقول أنه يستحيل عليه أن
يغضب وأن يرضى وأن يأسف وأن يتحسر؟ هل نقول أن الله يرضى فقط ولا يغضب؟ هذا إرجاءٌ
من جهة أخرى. وهذا تعطيلٌ لصفات الله يجعل الإنسان لا يعرف ربه ولا يتحسّس غضبه
ولا يتحسس رضاه.
كيف ينظر إلى الله من يُبعِد الله عن
صفاته المعنوية؟ وهي الصفات المهمة في علاقتنا مع الله؟ كيف يعرفه؟ كأنك تعبد
إلهاً لا يغضب ولا يتحسر ولا يرضى ولا يأسف! هذا تعطيلٌ يقع في الصفات المعنوية،
وكأنهم يريدون أن يجرّدوا الله من المشاعر، بحجة أنه يعلم وأنه لا يتعرض لتغيرات
نفسية كما تعرض للبشر من غضب ورضا، لئلا يشابه المخلوقين، مع أن هذه من لوازم
الحياة، وحتى الحيوانات تغضب وترضى.
إن الله أرادنا أن نشابهه في الأمور
المعنوية، لأننا نعبده، فكيف نعبدُ من لا نعرف صفاته المعنوية؟ إن العبادة
الحقيقية هي العبادة التي تعطيك الفهم والطمأنينة، قال تعالى (ألا بذكر الله تطمئن
القلوب). إن هذا تعطيلٌ جاء بدافع التنزيه، ولذلك الله يلوم المشركين على عبادة
الأصنام التي لا تحس ولا تضر ولا تنفع، والمجردة من الصفات الحية، بينما الله هو
الحي القيوم الذي لا يغفل ولا ينام، فلماذا يقول الله عن نفسه أنه حي؟ إن الإحساس
من علامات الحياة.
إن حقيقة الله لا نعرفها، وإذا قال
أحد أن الله ليس كمثله شيء لا في المادي ولا في المعنوي، فكيف يقول تعالى (ونفخت
فيه من روحي)؟ و"من" هنا تبعيضية، وإذا كان الشيء من شيء، فهو مثله في
ذلك الشيء.
وهذا هو أساس تكريم بني آدم، ولذلك
غار إبليس من آدم، وقال لله : خلقته من طين وخلقتني من نار، لا يُريد أن يذكُر أن
الله نفخ في آدم من روحه، لأن هذا ما يؤلمه حقيقةً، أن في آدمَ شيءٌ من روح الله،
لذلك إبليس ذكر طينة الإنسان وخلقته المادية من حمأ مسنون، أي آسن متعفن، ولم يذكر
أنه نفخ فيه من روحه.
إن هذا السمو الذي نشعر به في دوائر
الشعور العليا، هذا ليس من الطين، وليس من الحيوان، ردا على نظرية التطور، لأن
فاقد الشيء لا يعطيه، بل هذا من روح إلهية. لذلك الإنسان إذا أراد أن يسمو بأخلاقه
سمى وارتقى، وأصبح كأنه ملاك كريم.
إن الحيوان لا يستطيع أن يسمو عن
أصله، وهذا يؤكد أن الإنسان ليس من أصول حيوانية، فاجتمع في الانسان الأصل الدنيء
وهو الطين الآسن، مع روح الله الراقي العظيم، لذلك الله يقول (قد أفلح من زكاها
وقد خاب من دساها). لقد أراد الله أن يكون شعورنا من روح الله، لذلك الشعور نقسمه
افتراضا إلى مشاعر عليا ومشاعر دنيا، مشاعر عليا تتعلق بالحب والايمان والجمال
والاخلاق، ومشاعر دنيا تهتم بالجسم والغرائز، وهذا يشير إلى الأصلين الذين تكون
منهما الإنسان: الطين، وروح الله.
ولذلك قال تعالى أنه اصطفى آدم، أي
من المخلوقات، وليس من الناس أو البشر، لأنهم لم يُخلقوا بعد. لذلك الله قال (إني
جاعل في الأرض خليفة)، أي يحمل نفس الشعور الإلهي، يخلف حكم الله في الأرض، فكيف
يكون خليفة لله إذا لم يكن من روحه؟ يخلُفُ الله من يكون من روحه.
إن اعتراض الملائكة كان على الموبقات
التي سيفعلها الناس، لذلك الله قال (إني اعلم ما لا تعلمون)، فليس كل الناس يفعلون
الموبقات، لأن فيهم أرواحا طاهرة، ومن هؤلاء أرواح الأنبياء وأتباعهم المخلصين،
ألم يمدح الله خلق الرسول محمد إذ قال (وإنك لعلى خلق عظيم)؟ انظر الى اخلاق النبي
يوسف، اذ قالت النسوة (ما هذا بشرا ان هذا الا ملك كريم)، وهو الذي يقول لأخوته
الذين تآمروا عليه بعد أن صار عزيز مصر (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم)، بعد
أن قالوا له (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل)؟ هذا سمو أخلاقي عظيم، يترفع عن
الفاحشة والرذيلة، من علّم الإنسان هذه الاخلاق؟ ومن أين جاءت؟
الله يمدح انبيائه وأتباعهم ويريهم
الملائكة، وهم يصبرون ويتحملون لأجل نصرة الله والحق. إذن هؤلاء هم من زكّوا
أرواحهم ونظّفوها، وإلا فروح الله موجودة فيهم أصلا. من أين يأتون بالفضيلة وهم لا
يملكون أساسا لها؟ لكن هناك من دساها وهناك من زكاها.
ومن باب تنزيه الله عن البشر، وقعوا
في تشبيه الله بالبشر، لأن البشر إذا علم السبب زال عنه العجب، فلا يرضى ولا يغضب
إذا كان عارفا بالنتيجة مسبقا، وصاروا يقيسون الله على الإنسان، بأنه طالما أن
الله يعلم كل شيء، فبالتالي لن يغضب ولن يأسف، مثلهم! هنا وقعوا في التشبيه، تشبيه
الله بالمخلوقين.
ولماذا يخبرنا الله أنه نفخ فيه من
روحه؟ لكي نعرف من أين جاءت الفضيلة وحب السمو فينا، حتى ولو كنا لا نفعله، لكننا
نحب الإنسان الفاضل والكريم والعزيز المترفع عن الذلة، والرحيم، والتي هي صفات
الله المشاعرية، ونحب الودود واللطيف. بينما صفة علم الغيب والقدرة على كل شيء
نجلّها، لكن لا نمدح أحدا بها، لأنها غير موجودة في البشر. لذلك قال تعالى أنه نفخ
فينا (من) روحه، ولم يقل نفخ فينا روحه، لأنه لو نفخ فينا روحه، لعلِمْنا الغيب
وقدرنا على كل شيء.
أي أن لدينا شيئا من روح الله، وليس
كل روح الله، لذلك هذه الصفات المنفوخة أصبحت هي الصفات التي يمدح البشر بها بعضهم
بعضا، فهذا كريم وذاك ودود وهذا عادل وذاك صادق، وهذا لطيف، وذاك يحب المحسنين،
ويكره الرذيلة والفسق، ويكره الجاحدين الكافرين بالنعمة. هذه صفات من روح الله،
وهي الفضائل البشرية. فكيف نجرّد الله منها ونتأوّلها بينما نثبتها للبشر؟
نحن نقرّ أن الله خلقنا وهو يعلم
ماذا سنفعل، إن الله يعاملنا هكذا، لا يصلح أن يعاملنا الله بغير هذا. أما لماذا
خلقنا وهو يعلم، وكيف يأسف وهو يعلم، وكيف يغضب وهو يعلم، اذن كيف يرضى وهو يعلم؟
إن الله قدّم لنا نفسه هكذا لكي نعرفه، فهو عرّف نفسه بأنه حميد، وماذا تعني حميد؟
أي أنه سريع الرضا والشكر، وقدّم نفسه بأنه الشكور، وأنه شديد العقاب، هذه تتناسب
مع الغضب، والشكور والغفور والحميد تتناسب مع الرضا، إذن الله يغضب ويرضى، بموجب
أسمائه وصفاته. إن الله عزيز ذو انتقام، ألا تتناسب هذه العبارة مع الغضب؟ كيف
نقرّ بهذه ولا نقرّ بتلك؟ مع أن الله ذكر أنه يغضب؟ قال تعالى (غضب الله عليهم
ولعنهم).
هكذا قدم الله نفسه لنا في كتابه،
وأمرنا باتباع كتابه، بدون تأويل، لأن تأويل كلام الله مشكلة، تؤدي إلى انحرافات
عما أراده الله. إن أي تأويل في كتاب الله باطل، لأنه كتاب مبين، والله أرادنا أن
نتبع كتابه، فكيف نتبع من يحتاج إلى تأويل من البشر؟
إن الله أراد أن نعرف أنه يغضب،
بدليل أنه يقول (إنا من المجرمين منتقمون)، وأن الله شديد العقاب، وقوله (غضب الله
عليهم ولعنهم)، فكيف نعطّل ما قدّمه الله لنا تعريفا بنفسه؟ وأيهما أنفع للإنسان:
أن يعلم أن الله يغضب إذا انتهكت محارمه وأنه يرضى، وأنه يحب ويكره، ويأسف
ويتحسّر، أم أن الله مجرّد من هذه كلها؟ كيف نقرّ بلوازم الصفة ولا نقر بالصفة؟ مع
أنها مذكورة؟
إن الله حيّ، وإذا قلنا بهذه
التعطيلات انتقصنا من حياة الله وكأنه لا يحسّ. إن الإنسان يتفاهم مع الله، لأن
الله يعرف أحاسيسه، ويخاف من غضب الله وسخطه.
إن البشر يشبهون الله في هذه
المشاعر، لأنها من روحه، ولم يقل تعالى أنه نفخ في الحيوانات من روحه، فهذه هي
وسيلة التواصل مع الله ومعرفته. أنا اعرف ان الله غفور رحيم وأنه عزيز ذو انتقام،
فلا أفقد الامل برحمته واخاف من عذابه وغضبه.
وإذا كان الله يرضى عن من يشاء ويغضب
على من يشاء، فهذا يجعلني أتلمّس رضى الله، وأخاف من غضبه. قال تعالى (يدعوننا
رغبا ورهبا)، وإلا فكيف تخاف من الله إذا لم يكن يغضب؟
إن حقيقة الله لا نعرفها، وإلا كيف
نعرف لماذا خلق الكفار وهو يعلم أنهم سيكفرون؟ هنا منطقة يجب أن يقف العقل فيها،
لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، والإيمان يقول إن الله لا يظلم أحدا، هكذا نعرف الله،
ونطمئن. (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، لذلك الله يكثّف ويكرر صفاته في ذيل كل آية
في القرآن تقريبا، لماذا؟ لكي يطمئن عباده، ويعرفوه.
لولا معرفة صفات الله لما حصلت
الطمأنينة وما حصل الخوف من الله. إن المحسن وهو ينفق ماله ومجهوده، لو لم يكن
يعلم أن الله يحب المحسنين، لآثر نفسه بماله. والحب شعور، إذن شعورنا من روح الله،
هذا الشعور الذي يحب الفضيلة حتى لو لم يفعلها، ويكره الرذيلة حتى لو لم يفعلها.
إن هذا شعور طاهر من روح الله الطاهرة. وهي وسيلة التعامل بين العبد وربه.
الحمد لله أنه أكثر من ذكر صفاته
المعنوية في القرآن، لتطمئن القلوب بهذا الحبيب العظيم الكريم اللطيف الحليم
الحكيم.
من الخطأ الكبير أن تجرّد الله من
بعض صفاته، مثل الخطأ الآخر أن تنقُل بعض صفاته إلى غيره، فما لله يجب أن يبقى
لله، بصفاته وعلمه، أما الصفات المادية فهي وسيلة للتقريب، وإلا فالله ليس كمثله
شيء، مثل قوله (على العرش استوى)، ومثل ذكر اليد والعين والمجيء، لكن صفاته
المعنوية هي صفات حقيقية، فالله رحيم على الحقيقة بدون تأويل، لأن هذه هي الصفات
التي نحتاجها وقد كشفها الله لنا، وهي التي تعطينا الأمان والاطمئنان، (إن الله
يغفر الذنوب جميعا) ألا تشعرك هذه الآية بالأمان؟
إن الله يحب المحسنين ويكره الفاسقين
والفجور والعصيان، ألا تعطيك هذه تحذيرا؟ أليست مشاعر متغيرة؟ فمرة يكره ومرة يحب؟
مثلما أنه مرة يغضب ومرة يرضى، لأنه حي. إنها كلها مبنية على شعور من الحب او
الكره يقدّمه الله عن نفسه في الحقيقة.
لكن أن تقول لله يد او قدم، هنا لا
تستفيد أنت من هذا، ماذا يفيدك أن تكون لله يد أو لا تكون؟ هذا من عالم الغيب،
لذلك لم ير الله أحدٌ من الأنبياء ولا غيرهم. لأن الرؤية مادية.
إن تعطيل صفات الله أو بعضها صورة
مصغّرة من اللادينية، التي تعطّل الله بالكامل، مع أنها تقر بوجوده، فكأنه خلق
الكون وأدار له ظهره.
طبعا هذا التنزيه جاء بحسن نية، لكنه
أنتج ما أنتج من خطأ، ومخالفة لصريح القرآن، بحجة التنزيه.