ليس هناك
أفضل من الشيء الذي يكون على قدر الحاجة ويأتي في وقته , فالناس يتساءلون كثيرا
بعد تغيّر أسلوب الحياة ودخول التكنولوجيا في حياتهم , لماذا الأكل قديما كان ألذ
؟ ورائحة الشواء أشهى ورائحة القهوة تشمها من بيوت الجيران والآن لم تعد تشمها ؟
ثم يفسرونه
بتفسيرات أخرى كدخول الأسمدة الكيماوية أوالهندسة الوراثية في الزراعة أو نوع
العلف التي تأكله حيوانات اللحوم .. الخ , ناسين أنهم أيضا تعجبهم بيوت القدماء
رغم بساطتها وضيقها وبيوتهم وأدواتهم لم يدخلها أسمدة كيماوية ولا هندسة وراثية ,
لهذا يحبون التحف القديمة وزيارة المتاحف بل وترتفع أسعار القطع الجيدة من الماضي أعلى من ثمنها في وقتها بكثير , لاحظ
أن أدوات الماضين تحمل روح الكفاف فالسيارات القديمة غير مكيفة وغير مريحة مثل
السيارات الحديثة لكنها تكفي للحاجة , والسر هو أن الشعور يستلذ من الماديات بما
يكفي الحاجة فقط وفي الوقت المناسب , وكلما زاد عن الحاجة أو الوقت المناسب كلما
زاد الشعور بالنفور , وهذا يدلك على أن الإنسان مثل المسافر تضايقه كثرة الأحمال ,
وأن الإنسان لم يخلق من أجل أن يجمع المادة ويحوي الذهب وتحتويه القصور ولأن هناك
من يحتاجها أكثر منك كحاجة أساسية بينما حاجتك كمالية من أجل المفاخرة , إذاً
الشعور الفطري الأعلى هو الميزان الذي قلما أن يسمع وهو الفطرة التي فطر الله
الإنسان عليه .
وهذا يفسر
الذكريات السعيدة حول الأوقات العصيبة والتي يقل فيها توفر الحاجيات من مأكل ومسكن
ومركب .. الخ , دائما ننظر إليها ببهجة وتذكر ما كان فيها من ابتكارات وتسديد
وتعويض شيء بدل شيء لكن لا نريد أن نعيشها في الحاضر , وهذا يفسر لماذا نحب
الأشياء التي عملناها بأيدينا ولماذا هي ألذ وأمتع من التي عملها غيرنا والتي
نشتريها من السوق , وهذا يدل على أن الإنسان مخلوق ليعمل مثلما الحيوانات والحشرات
كلها تعمل وليس فيها من يجلس بلا عمل ويعيش على كد غيره فهذا لا يوجد إلا في عالم
الإنسان .
كلما زادت
الحاجات المادية أكثر من اللازم أو جاءت في غير وقتها سببت لنا ألما شعوريا , وكما
قال الشاعر البدوي عن حبة القمح :
كأن الشق
الذي في وسطها .. قائل نصفي الآخر لأخيك .
فحياة
الكفاف دائما هي الأمتع , وبعض الناس فهموا أن الزهد ورفض الدنيا هو الذي يخلص
النفس , بينما الكفاف هو الذي يخلص النفس دون أن يحرمها حاجاتها الأساسية كما سأل
الرسول صلى الله عليه وسلم ربه حياة الكفاف . فلا زهد ورفض للحياة ولا إسراف وبطر
وبذخ , ألذ ما يكون كأس الماء عندما تكون عطشانا , لكن إذا زادت الكمية عن الحاجة
تصاب بالبشامة والتخمة الكريهة , فما زاد أو نقص عن الحاجة يسبب ألما شعوريا ,
وألم النقص يحسه الجميع لكن ألم الزيادة يحسه ويفهمه من يتحسس شعوره الراقي
ويحترمه .
الكفاف هو
طلب سد الحاجة الضرورية , وهذا لا يعني رفض الزيادة إذا تيسرت , لكن لا تكون
الزيادة هدفك الذي تعيش لأجله وكأنك مثل من ليس عنده حاجات أساسية , وأحسِن كما
أحسَن الله إليك (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)
فالكفاف بين الزهد والإسراف , حتى لو أتتك زيادة في شيء تبقى ملتزما بالكفاف لأنك
تبتغي بما آتاك الله الدار الآخرة (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب
العالمين) , وإذا كان هناك استثمار في الدنيا فإنه هناك استثمار في الآخرة وهو
استثمار المؤمن العاقل .
عالم
الحيوان الطبيعي أو الفطري يعطيك مقياس لحياة الكفاف , فالحيوان لا يبحث عن الظل
إلا عندما تحرقه الشمس , ولا يبحث عن الماء إلا عندما يذوق العطش ولا يبحث عن
الطعام إلا بدافع من قرصات الجوع ولا يمتلك ولا يخزّن , ومن يخزن كالحشرات يكون
التخزين على قدر حاجة الجميع وليس عندهم أحد يجلس ليأكل إنتاجهم , وبهذا يبدو أن
حياة الحيوان والحشرات أسعد من حياة الإنسان لأنها تسير على الفطرة والإنسان كثيرا
ما يخالف الفطرة , والفطرة تبينها قوانين الشعور التي من بينها رفض الزائد عن الحاجة
ورفض الشيء بغير وقته (قانون) , وما حب التملك والسيطرة والبطر إلا نواتج من تفكير
عقلي منفصل عن الشعور الفطري ومرتبط بالمادة أكثر من الإنسان , فالعقل عقلان عقل
مرتبط بالمادة وعقل مرتبط بالإنسان فإذا اكتفيت بالعقل المادي تتحول إلى مادي من
عالم المادة , فالإنسان ضل عندما استقل عقله عن شعوره .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق