الاتكال على تصوراتنا يسبب الغباء, فالشخصية المحافظة
لديها تصورات مثبَّتة ومعروفة عن كل شيء و عن كل الأوضاع الصحيحة كما عرفها, فأي
تصور مسبق عن شيء قد يجعلك لا ترى الأشياء التي تشابه هذا الشيء أو تماثله, فعندما
تذهب للغرفة للبحث عن كتاب مثلا كنت قد تصورت أنه موجود فوق الرف الموجود في يسار
الغرفة, فإنك قد لا ترى الكتاب عندما يكون في رف آخر غير الرف الذي تصورته أو على
الأرض, ولكن لو ذهب شخص آخر للبحث عنه بدون تصورات ستكون احتمالية أن يجد الكتاب
أكبر , فكل ما يتسع النمط لديك كلما كان ذلك أفضل.
الإنسان الطبيعي أقل من الإنسان الصناعي في هذا الجانب
لذلك هو حر لا تسيطر عليه التصورات.
الإنسان الطبيعي لا يتفاجأ عندما يحصل الشيء على غير ما
يريد, بعكس الشخص الصناعي الذي يعتبر أسيرا لما يريد ويرفض البديل أو أي اقتراح
غير الذي يريده, لأن العقلية المادية هي عقلية محافظة, لأنها تثبت الأشياء من ثبات
المادة, فالمادي عندما يقرأ لشخص مغمور لا يستطيع أن يرى كلامه و أفكاره مثل
الكاتب أو المفكر المشهور.
كل أحد يفكر تفكير مادي فهو يذهب إلى الجمود, وهذا
الجمود أو جمود المادة هو من صنع المحافظة والمحافظة هي جمود تصورات, فكل شيء
عندهم له شكل وطريقة وأسلوب, فالشخص المتدين في الغرب أو في الشرق له هيئة وشكل
معين وكذلك الشخص العبقري والشخص الوسيم والمرأة الجميلة و شخصية الأب و شخصية
الأم وشخصية الجد و الجدة وشخصية العالِم والأستاذ والطبيب والمهندس..إلخ, كل هذا
له صورة في ذهن الشخص المادي حتى أنه قد يرفض شيء لأنه لم يوافق تصور في باله و قد
يندم فيما بعد عندما يكتشف أن الشيء الذي اختاره ليس الأفضل, وهذه صورة نمطية تلاحظها
في الأدب عموما وخصوصا في الأدب الغربي و حتى في افلام الكرتون فتجد أن الخادمة
المنزلية لها لباس خاص وكذلك الطبيب له لباس خاص والحوذي له لباس خاص والمفكر
والفيلسوف له لباس خاص...إلخ, وكأن الخادمة لا يمكن أن تكون فيلسوفة مثلا! فكل شيء
عند الماديين نمطي وكأنه تبسيط للحياة أو محاولة فاشلة من المجتمع ليفهم أفراده!
كذلك تجد في المجتمعات العربية بأن هناك أعمال لا يقوم بها إلا طبقة اجتماعية دنيا
و على العكس هناك أعمال لا تصلح إلا للطبقات الراقية. حتى أن بعضهم لا يستطيع أن
يأكل أكل جديد أو يتأقلم مع حياة جديدة في مجتمع جديد. لا يستطيع أن يتصور المادي
بأن من ملابسه متسخة مثلا يمكن أن يكون إنسانا طيبا, فهذه التصورات تقود صاحبها
إلى الغباء (غباء الأنماط- وهو من أنماط الغباء) وهي التي قد تسبب الكثير من
المشاكل وقد تظلم غيرك بسببها وتخسر بسببها, و قد تحتقر من لا يستحق الاحتقار, و القصص
كثيرة في هذا المجال, مثل قصة المثل:"تسمع بالمعيدي خير من أن تراه", و كما
قال الشاعر:
" ترى الرجل النحيل فتزدريه ** وفي أثوابه أسد هصور
"ويعجبك الطرير فتبتليه ** فيخلف ظنك الرجل الطرير"
فغباء الأنماط يحرمك من التذوق بسبب الألفية والألفي
مادي .
لا تعلم الأطفال على التقييم بالأشكال و الأنماط, بل
علمهم كيف يتحسسون الإنسان من داخله ليفهموه لا من خارجه.
الحياة أوسع من هذا التضييق, والإنسان أوسع من الحياة,
فالمفترض ألا يضيق عليه بالتخصصات. أبو العتاهية قيل له: لماذا لا تلتزم بالعروض
النمطية في شعرك؟ فقال: أنا أكبر من العروض!
محاولة كسر النمط من يفعلها عادة هم من يحترمون أنفسهم أكثر
ممن يلتزمون بالنمطية, فمن يلتزم بالنمط الذي يظهره بالشكل الذي يجعل الآخرين
يحترمونه فهذا الشخص هو يأخذ قيمته من هذا النمط كاللباس وطريقة الكلام و ليس من
ذاته, بينما من يكسر النمط هو أكبر من النمط, أي ذاته وكرامته أكبر من النمط ويريد
أن يُحتَرم لذاته. من تهمه كرامة ذاته أكثر يرفض أن يأخذ قيمته واحترامه من
البرستيج و يرفض أن يأخذ مهمةً و دورا ضيقا في الحياة أو تخصصا محددا, كل هذا
يجعله خاضع لهذه القيود.
التصورات هي جزء من الذاكرة وهي مرتبطة بتجاربك,
والإنسان لا يستطيع أن يتخلى عنها فالعقل يحتاجها, فليست المشكلة بالتصورات بل المشكلة
بشدة الارتباط بها لدرجة الاكتفاء بها عن التفكير والتأمل وكأنه ليس بالإمكان أكثر
مما كان, فمشكلة الصناعيين أنهم يقفون عندها و يجدون مشقة في تغييرها, وتجد هذا
واضحا عند المحافظين, و لذا تلاحظ كثرة صدمات الماديين عند أي تغيير.
لا تكن عبدا لتصوراتك فهي لا تمثل كل الحقيقة وإنما هي
تمثل الأشياء التي مررت بها فقط أو وصفها غيرك لك, وأنت لم تمر بكل شيء,
التفكير من خلال الأنماط دائما ما يسبب الأحكام المستعجلة
غير الحكيمة, ويسبب التفاهم بالشكل وهو تفاهم ناقص و معكوس أحيانا, فقد تتصور من
شكل أحد أنه جبان فيصبح شجاعا, أو أنه طيب فيصبح خبيثا, وهكذا, صورة الشرير
النمطية مثلا أنه بشع المنظر و قبيح الوجه بينما أكثر الأشرار هم من حسان الأشكال
و رطبي الألسن! قال تعالى عن المنافقين {إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم و إن يقولوا
تسمع لقولهم} وقال عنهم:{هم العدو فاحذرهم}.
هذا التفكير يسبب تعبا لصاحبه لأنه يقيده, و مدى خضوع
الإنسان لتصوراته هو من مقاييس الغباء عنده, وكلما تُغيِّر تصوراتك كلما تنتصر على
النمطية و تكون حرا ومحترما لشعورك وعقلك. هناك أناس تجدهم تعودوا على نوع من
العطور مثلا وأنه هو الجميل, لو تحضر لهم عطرا جميلا رائحته طبيعية لكنه مختلف عن
النمط الذي تعودوه تجدهم يتحفظون تجاهه, و أناس تجد لهم نمطا معينا في شرب الشاي
والقهوة و وقتا معينا, بل حتى أوانٍ معينة لشربها.
الإنسان بحاجة لمرونة أكبر و ليس بحاجة لتقييد بماديات.
لو تخلط نوعين من الأكل خلطة جديدة ستجد كثير من الناس لن يأكلوا, مع أن نفس
المكونات تختلط في بطونهم! كسر النمط عند العقول المادية يعتبر مشكلة كبيرة, مع أنه
يؤدي إلى حرية أكبر, لكن عندها يعتبر شيئا فظيعا. العجيب أنه لو تخلط طبخة معينة
غريبة تجدهم يستنكرونها كأن تصنع سلطة تحوي جرجير مع رمان مثلا, لكن لو تخبرهم
أنها خلطة يونانية سيقبلونها, لأنها أتت من مجتمع أوروبي يرونه سيدا.
هذا النفور بسبب النمطية الألفية يختلف عن النفور الذي
يأتي من الشعور, فمثال سلطة الرمان والجرجير قد يرفضها العقل الذي لم يعتد عليها
لكن يقبلها الشعور, لكن أن تضع تمرا مع عسل هنا سيرفض الشعور لأنه تركيز شديد
للسكر. و هذا مثال يوضح الفرق بين النفور الألفي والنفور الشعوري.
الماديون يتصورون أن كل شيء من العقل, ومن العقل أي من
الناس, أي أن سبب النفور هو نقص تعود, لكن هذا غير صحيح, فهناك أشِياء يرفضها
الشعور الفطري, فالشعور مثلا يرفض أن يأكل لحم إنسان, وينفر أن يأكل حشرات.
كل الشعوب عندها إبداع و فنون وأشياء رائعة جدا, الإنسان
الحر هو من يستطيع أن يتذوق كل ما هو جميل عند كل الشعوب وليس فقط في مجتمعه أو ما
يأتي من المجتمع الغربي.
أحد مشاكل النمطية أننا نتبع أنماطا لم نفهمها أصلا أو
لا نحبها , مثل نمط الشعر الحداثي مع أنه يسبب الكآبة إلا أن الناس يحاولون تقبله
والإعجاب به من أجل الدخول في النمط, أي أن المجتمع يسوقك للنمطية, وكأن المجتمع
يريد تحديدك حتى يفهمك, أي محاولة فهم من خلال الماديات لأنهم لا يريدون أن يفهموا
من خلال مشاعرهم لأنهم لا يثقون بها, و هنا المشكلة. فيعطي أفراده أسماء وألقاب و أنماط,
فالطبيب له طريقة في الكلام واللباس واهتماماته معروفة وكذلك رجل الدين والمهندس...إلخ.
ومنه نتذكر أغنية فيروز الجميلة " الأسامي كلام شو خص الكلام عينينا هي
أسامينا" فلماذا نتقيد بالأسماء والأنماط و نحن أوسع منها؟
عدم الاتكال على التصورات والأنماط, والمرونة في تغييرها
تبعا للحقيقة, من طرق احترام الشعور, لأن أكثر التصورات وردتنا من خارجنا وليس من
داخل ذواتنا, وغالبا يصنعها المجتمع الذي يتربى فيه أي إنسان.
سجن التصورات يحد من انطلاقة الإبداع, كلما أراد أن يأتي
بجديد جاء بقديم! تبعا لسيطرة تصوراته المسبقة.
التعلق بالأنماط يخفي شخصية الإنسان الحقيقية ويجعله
نكرة حتى لو كان معروفا, يُعرَف ما حوله لكن لا يعرف من هو.
حتى الأخلاق تموت إذا نُمِّطت, وأحيانا تنقلب إلى سوء
أخلاق من نوع آخر, كأن يتحول الكرم إلى إٍسراف وفخر, و الرغبة بالعفاف إلى شكوك
وظنون سيئة.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق