يجب ان يكون مستوى حديثنا عن البشر و علم البشر و واقع البشر و منطق
البشر .. فللبشرية منطق وللالوهية منطق ، و منطق المخلوق لا ينطبق على منطق الخالق
.. و ما يصلح للساعة ليس شرطا انه يصلح لصانع الساعة ..
الملحد يقفز بالمستوى الى الاله ، و هذا قفز على الموضوع .. نحن نتكلم
عن الحياة الدنيا التي فيها البشر ، اما اسرار الاله فعنده .. الملحد يريد ان يكون
الاله شفافا و معروفا بالكامل ، و هذا تناقض ، فحينها لن يكون الها .. سيكون احد
اصدقائه ..
يجب ان نقف عند حجمنا كبشر ، نحن وجدنا و سوف نذهب ونحن لا نعرف شيء ،
و لا ندري من ادخلنا في هذه الحياة و امتحاناتها الجبرية المستمرة و من الذي
يخرجنا ، و لا ندري حتى ما هي ذواتنا ، و من لا يعرف نفسه : كيف يريد ان يعرف
الاله قبل ان يعرف نفسه ؟ هذا قفز الى المستحيل .. وخروج عن النطاق لا يتناسب مع
العقلانية .. فكلمة اله لا تساوي رئيس دولة .. و كل عقلاني يعرف ذلك ..
الملحد يريد ان يسأل الاله عن كل شيء ، و لماذا هو إله ، و لماذا يخلق
كونا بهذه السعة ، و ما فائدة خلقه للحشرات و و إلخ .. اسئلة الهية يقدمها العقل
الملحد و اللاديني .. نحن نريد اسئلة بشرية تتعلق بواقعنا وحياتنا ومصيرنا ..
اننا لا نعرف شيئا تمام المعرفة .. نحن بشر ضعفاء نعيش مدة قصيرة ثم
نخرج من قاعة امتحانات الحياة ليأتي دور غيرنا ، و لسنا بآلهة ، إلا أن يكون الملحد
الها و نحن لا ندري ! اذن عليه ان يخبرنا بكل شيء ان كان الها .. و حينها لن يكون
الها ! سيكون من احد الاصدقاء ..
الملحد لا يناقش كينونة الانسان و لا اهداف الحياة و لا ما هو الافضل
عندما يتكلم عن الدين ، و لا يقدم حتى فلسفة بديلة للحياة سوى الاباحية و العبثية
، معتمدا على اسئلته للاله ، و لا يبحث عن حل لمشكلة الوجود و هدف الحياة وغايتها
.. اذن الملحد يسقط نظاما و يحل محله الفوضى ، وهذا لا يسر النفوس الطيبة و إن سرَّ
من له هوىً يعصف بداخله ، معتقدا انه يحمل الجمال .. إن الفوضى ضد النظام ، و ما
الجمال الا نظام متناسق .. والانسان يبحث عن الجمال .. والالحاد لا جمال فيه ،
لاعتماده على الفوضى والعبثية .
الانسان يريد ان يجد هدفا لحياته ، و فلسفة واضحة و متكاملة .. ليس
اسقاط الاله هو الحل عند البشرية ، اما عند الملحدين فهو غاية المنى ونهاية المطاف
..
عند الملحد ، بعد اسقاط الاله ، تنحل كل المشاكل ! هكذا يتصور ، و
هكذا تصور نيتشه ، لكنه تفاجأ فيما بعد بالكارثة : كارثة سقوط الانسان في داخله
.. عندما قال : اردت قتل الاله ، و إذا بي قتلت الإنسان ..
إن البشرية ترى العكس : ان الالحاد بداية المشاكل مع الوجود و الغاية
والخير والشر .. الانسان مخلوق مرتبط وليس منفلت كما يظن الماديون .. يكفي من خطأ
المادية والالحاد انها لا تقدم اي بديل يحلّ محل الدين .. و هذا الطرح لا يتناسب
مع كل البشر .. أكثر البشر يريدون شيئا افضل اذا تحرروا من الشيء الخطأ .. و الفكر
الالحادي يحسب ان كل البشر مثله ، يريدون التحرر والانفلات فقط ، و يسعدون بذلك ..
و هذا ناتج من تهاونهم بقضية الثنائية التي يسخرون منها ..
الملحد يشتغل على الأُحادية دائما ، ويتصور ان كل البشر مثله و مثل ما
يريد تماما .. في الحقيقة : هناك ثنائية في كل شيء ، حتى في الالحاد نفسه : هناك
ملحد مطمئن ، و هناك ملحد غير مطمئن للالحاد .. ترى ما السبب ؟ انها الثنائية ..
نعم جمعهم الالحاد ، و لكن فرّقهم الاختيار .. كل من نظر الى البشر
نظرة واحدة وليست ثنائية سيكون مخطئا ، و لنا في التاريخ عبرة .. انا لا انظر
للبشر نظرة واحدة بل نظرتان ، لكن في الوقت ذاته انظر الى البشر في اساسهم الفطري
نظرة واحدة .. لأن منهم من يحترم شعوره و فطرته ، ومنهم من يتمرد عليها .. و هكذا
علمنا القران ..
ماركس تصور ان الاقتصاد هو همّ البشر فقط ، و لهذا نحّى الدين
والاخلاق لانها ليست همّ البشر ، و وقع في هذه الاحادية ايضا فرويد ، و نيتشه ،
عندما حسب ان البشر يريدون الجنس فقط أو القوة فقط و لا يريدون شيئا غيرها ، و
انهم لا يحبون الرحمة ولا العفاف ، و لكن الاديان فرضتها عليهم .. تصورات أحادية و
خاصة عـُممت على الجميع . و كل هذا وغيره تخبُّط بسبب احادية النظرة الى الانسان
..
تجد الملحد يقفز الى الاله مباشرة : لماذا يخلق الحشرات ؟ لماذا
يختبرنا وهو يعرف كل شيء ؟ لماذا اوجد الجاذبية ؟ لماذا جعل 1+1=2 و لم يجعلها 3 ؟
لماذا الارض صغيرة بالنسبة للاجرام الكبرى ؟ لماذا و لماذا .. كل هذه تسمى اسئلة
الوهية ليست من اختصاص الانسان .. لان المنطق البشري لا يعمل فيها ..
بل ان المنطق البشري لا يعمل في مجال الاحاطة كله .. المنطق البشري لا
يعرف اللانهائي ، و الكون لا نهائي ، اذن هو لا يعرف الكون .. و هل يستطيع ان
يتصور العقل البشري وجود حدود للكون ؟ وهل يستطيع ان يتصور عدم وجود حدود للكون ؟ فإن
قلت ان الكون محدود ، فماذا الذي بعد حدوده ؟ و ان قلت انه غير محدود ، فكيف نفهم
الكون وهو بلا حدود ؟ منطقنا البشري تعلّم على الحدود ومبني عليها ، اذن لا يستطيع
عقلنا ان يتعامل مع المطلق و الشامل ، فكيف اذن يستطيع ان يتعامل مع الاله المطلق
(الخالق) طالما انه لم يستطع التعامل مع الكون المطلق و هو مخلوق ؟؟ اذن
عقلنا لنا و لطبيعتنا و بيئة وجودنا التي بنته و انبنى وتكوّن فيها اصلا .. و نحن
لم نخلق انفسنا و لم نخلق الكون ، اذن هذا العقل والمنطق لا يتناسب لدراسة من خلق
كل شيء ..
المنطق يدلنا على وجود خالق ، لكن لا يستطيع المنطق ان يتعدى هذه
النقطة فيسأل من أوجد الخالق .. لأنها منطقة خارج نطاقه ، لأنه مخلوق .. أتمنى ان
يكون هذا الكلام واضحا ، فيكون سؤالنا من خلقنا سؤال منطقي ، لأنه في نطاق المنطق
البشري ، و سؤالنا من خلق الخالق سؤال غير منطقي ، لأنه سؤال عن من خلق المنطق
اصلا الذي نسأل به ونحتكم اليه ..
المنطق الانساني للانسان و لظروف الانسان ولوجوده الغريب على هذه
الحياة .. منطقنا مرتبط بوجودنا .. الالوهية وجود آخر مختلف .. كيف نناقش بالمنطق
من خلق المنطق ؟ الا يستطيع ان يخلق غيره ؟ علينا ان نحل مشاكلنا كبشر من خلال
المنطق ، لا ان نقفز لتطبيقه على خالقه ..
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق