سؤال حول الإيمان والمحبة

الأخت تسأل : أستاذي الوراق ماذا تقصد بعبارتك التي تقول : الدين لا يريد أن نمارس الفضيلة لأجل الثواب والعقاب فقط , بل لأجلها هي .

الرد :

أساس الإيمان هو اختيار الخير والفضيلة , والعلاقة الأولى بالله هي علاقة محبة , وفي الأخير أيضا بعد دخول الجنة ستكون علاقة محبة , ودخول الجنة والنجاة من النار هذه مكافأة من المحبوب للمحب على الحب والاختيار والعمل الصالح الغير منفصل عن الأخلاق مع الخالق والمخلوقات , لأن الله غني عن أعمالنا , ليس هذا مثل صاحب عمل أو مناقصة إذا عملنا له شيء يكافئنا لأنه مستفيد .

 كل علاقة لم تقم على المنفعة المتبادلة فهي علاقة حب , فليس بيننا وبين الله منفعة متبادلة من طرفنا , لكن كرم من الله ورحمة مقابل اختيارنا الحر لطريق الفضيلة وتفضيل الله على الشيطان مع أننا نستطيع أن نختار الآخر , هذا لا يعني زهدا بما عند الله , تخيلي أن شخص ملحد ثم يؤمن هل سيكون الدافع هو الخوف من النار والرغبة في الجنة وهو ملحد لا يعترف بوجود الإله أصلا ؟ سيكون إيمانه إن آمن بناء على النفور من عالم الشر الذي ينتمي إليه ورغبة في عالم الخير الذي يمثله الله , تدفعه هذه الرغبة في الرغبة إلى عمل الخير , إذا بداية إيمانه هي المحبة وليست الخوف .

 تخيلي لو لم يكن هناك بعث ولا جنة ولا نار هل ستتخلين عن محبة الله الذي رزقنا وأعطانا وأرسل الرسل لمصلحتنا ؟ ألا يستحق أن نشكره ونعبده على ما قدم من نعم لا نحصيها ؟ والشكر عادة ليس بدافع الخوف بل بدافع الحب قال تعالى (إنه كان عبدا شكورا) ( أن اشكر لي ولوالديك) (اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور) أي الأخلاق , فهل أحد يشكر لأجل مصلحة أم لأجل شعور محبة ؟ وهل أنت تشكرين من أحسن إليك لأجل أن تكسبي من ورائه أم لتقدمي واجبا أخلاقيا بدافع الرضا والمحبة والسرور , إذا الله يريد أن نكون عبادا شكورين أي محبين .

إذا كان المسلم يعمل لأجل الجنة فقط وما فيها من ملذات ألا يكون شكله غير لائق مع الله والناس , كما قال ابن الرومي :

أأحب قوما ما أحبوا ربهم .. إلا لفردوس لديه ونار

 فهو هنا يحب المصلحة المادية فإذا دخل الجنة فإن علاقته بالله سوف تنتهي لأنه وصل لما يحب , لكن الله ذكر ما هو أكبر من الجنة ( ورضوان من الله أكبر ) أي أكبر من جائزة الجنة للمؤمنين الذين خافوا من الله مخافة على محبته لهم وعلى الحبل الذي بينهم وبين الله أن ينقطع فيضيع في طرق الشياطين التي تشطنهم عن الحق والنور أي تبعدهم , أليس المؤمن يريد وجه الله والوجه يعني الحب قال تعالى عن المؤمنين الأوائل : (إنما نطعمكم لوجه الله) ولم يقولوا من أجل جنة الله , قال تعالى : (يحبهم ويحبونه) وهذا لا يعني عدم الخوف من الله أو رجاء الله , إن هذه هي المرتبة العليا من الإيمان , هناك أناس يعبدون الله على أساس الخوف والرجاء فقط , وهذا إيمان من الدرجة الثانية , قال تعالى : (وما قدروا الله حق قدره) فالله ليس رئيس دولة أو رئيس شركة نعمل له من أجل أن يعطينا الجزاء فقط وإلا كنا مثل أخلاق الماديين المبنية على المصلحة المادية , لهذا المؤمن مطالب أن تكون كل حياته لله : (قل إن صلاتي ونسكي ..  )

قال تعالى بخصوص فئة من هذا النوع (الإيمان المصلحي): (لا تقولوا أمنا وقولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) والخوف والرجاء هما درجة أولى عند بعض الناس ودرجة ثانية عند البعض الآخر , وأصحاب الدرجة الأولى على أمل أن يصلوا إلى الإيمان قال تعالى: ( ولما يدخل الإيمان ) أي على أمل أن يدخل لأن (لما) تفيد النفي مع الرجاء أما (لم) فتفيد مطلق النفي فإذا كنت في انتظار القطار الذي سيأتي بموجب العادة تقول : لما يحضر القطار . أبلغ من قولك : لم يحضر القطار بعد .

أقصد أن هناك من يعرفون الله من خلال المحبة والأخلاق وهناك من يعرفونه من خلال الترهيب والترغيب , والنوع الأول هو الأفضل لأن الخوف والرجاء تحصيل حاصل فكل إنسان يحتاج إلى الجنة ويخاف من النار لكن هذا لا يكفي أن يكون هو الأفضل , وكل محب يخاف ويرجو مثله مثل بقية البشر لكنه يتميز بالحب والأخلاق لأن الحب أخلاق .

 فكل إيمان هو علاقة عاطفية قبل أن يكون علاقة منطقية أو علاقة مصلحية , فالكريم يحب الكرم قبل أن يفكر في أن الكرم سوف يصنع له سمعة أو يجلب له أصدقاء أو غير ذلك , وهذا الإنسان نسميه كريما أصيلا مثل المؤمن الأصيل , هناك آخرون يفعلون الكرم لأجل أن ينستروا من الناس أو يكسبوا معارف تفيدهم أو سمعة أو مقابل لما قدمه , هؤلاء ينكشفون من خلال ملامح كثيرة من أهمها الانتقائية فيمن يكرمونه , حيث نجدهم يكرمون الناس البارزين والأغنياء ويتصددون عمن لا مصلحة من ورائهم ويستكثرون الكرم بهم , أما محب الكرم فهو كالمطر يكرم كل من يحتاج بدون انتقاء ولا تفريق , قال المتنبي:

وفي النفس أخلاق تدل على الفتى .. أكان سخاء ما أتى أم تساخيا

هذا المثال على الكرم ينطبق على الإيمان بالله , فالمؤمن صار على نوعين , مؤمن مصلحي ومؤمن أخلاقي , ففي نفس المؤمن المصلحي ما يدل على أنه من هذا النوع , لذلك نجده يتحين من الدين والعبادة ما خف حمله وازداد أجره ولو دفعه ذلك إلى أخطاء أخلاقية مع الآخرين حتى يحصل على مبتغاه مثل من يزاحمون ويضاربون لكي يقبِّلوا الحجر الأسود , فعلوا منكر لأجل مندوب , وهذا النوع أيضا يقتنص من الملذات ما لم يرد فيه تحذير كبير أو صريح ويتحايل على بعض المحرمات التي يريدها ويعتد بما عمل لله ويتفاخر به , نجده يقع في عيوب أخلاقية من حيث لا يدري لأن إيمانه لم ينبني على محبة وأخلاق بل على مصلحة وحسابات ويعمل بمبدأ التعويض أي كلما انغمس في أخطائه أكثر من بعض الأشياء التي خف وزنها وغلا ثمنها , نجده يقرا القرآن لأجل أن يجمع رصيدا أكبر من الحسنات من كل حرف وآية فيهذ كلام الله هذاً وعيونه تسابق الحروف والأسطر بلا تمعن ولا تدبر , بينما القران يطلب منا التدبر والتفكر , نجد في حياته نوع من العلمانية أو فراغات ما بين العبادات , يمارس فيها حرية تتنافى مع روح تلك العبادات على اعتبار ما لله لله وما لي لي , فيظهر التناقض قال تعالى: (أصلاتكم تأمركم بهذا) .

 هذا بعكس شخصية المؤمن من خلال المحبة والأخلاق والفهم الواعي على بصيره حيث الانسجام بين ظاهره وباطنه وقلة المظهرية , والتواضع والعطاء بلا مقابل , قال تعالى : (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) وعدم وجود الفراغات في كل حياته , واخلاقه كلها لله وإن لم يتشدد ويتقعر في العبادات كما في قصة ابن عمرو والرجل الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال : يدخل عليكم رجل من أهل الجنة , حيث أقام عنده ابن عمرو ثلاثة أيام ولم يجده متميزا بعبادات ملفتة للنظر فسأله وأخبره بما قال الرسول عنه فقال : لا أعلم إلا أنني أنام وليس في قلبي شيء على أحد . برغم من أساء إليه إنه الإيمان الأخلاقي , كما قال الرسول : ياعائشة ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة . وقال : أقربكم مني يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا . مثلما قال : أنا زعيم لبيت في ربض الجنة لمن حسَّن خلقه . وما أجمل الإنسان الذي يريد أن يحسن أخلاقه , والأخلاق غير الآداب كما يفهم بعض الناس , فالإيتيكيت لا يعني أخلاقا بحد ذاته لأنه يفعله البر والفاجر والكريم واللئيم , فالأخلاق هي المبادئ والمواقف ولو على حساب النفس والمصلحة وهذا مالا يفعله أي أحد بسهولة .

 نجد النوع الثاني من المؤمنين محبوبا أكثر من النوع الآخر ومؤثرا أكثر وننظر إليه باحترام أكبر لأنه إنسان منسجم مع مبادئه وذاته وليس مضنة للشكوك والبحث عن العيوب مثلما يجعل النوع الأول نفسه , هذا النوع يؤمن أن رضا الله هو المطلب وإذا أرضيت الله فهو يعرف كيف يرضيك أكثر مما تطلب أنت وتخطط , هذا النوع يريد أن يتولاه الله وكفي بالله وليا , أما النوع الآخر فهو يحدد ويطلب ماذا يريد من الله كأنه يتعامل مع إنسان لا يعرف كيف ينفعه لذلك يحدد له بدقة , وهذا لا يعني عدم ذكر الحاجة إلى الله في ما يعرض من مشاكل , لكن  الكلام على المبدأ العام هل هو طلب رضا الله ؟ أو هو طلب هذه الأشياء المحددة .