دوركايم في تعريفه للدين ركز على قضية
المقدس وغير المقدس في كل الأشياء واعتبر المقدسات معبودات بذاتها, لكي يدفن فكرة
الإله الواحد المجرد القادر على كل شيء المشتركة بين الأديان كلها وإن دخلها
الشرك, ومنه أتت فكرة الطوطمية حيث يقول المؤرخون الماديون أن الناس كانوا يعبدون
طواطم حيوانية قبل أن تتطور الأديان إلى عبادة الإله المجرد مرورا بتعدد الآلهة
بعد الوثنية..
ولكن التقديس لا يأتي إلا لعلاقة الشيء المقدَّس بالإله المعبود فالشيء المقدس لا يُعبَد لذاته بل بسبب علاقته بالإله المعبود, ففكرة دوركايم خطأ بأن كل مقدس معبود, فلا يمكن أن يأتي أناس ويعبدون عجل أو ثور أو حمار بداهة, فكيف يعبد الإنسان شيئا هو أذكى منه ويستطيع أن يقوده؟ والعاقل لا يعبد أحدا مثله أو أقل منه فمابالك بالحيوانات بل تماثيل حيوانات!
فلا يوجد في الحقيقة ديانات طوطمية فقط ولا وجود حقيقي لديانات وثنية بمعنى أن الوثن هو إله الكون كله, بل هذه الطواطم أو الأوثان لها علاقة بالإله الكبير المهيمن على الكون وخالقه, ومنه تنطلق المقدسات, هذا هو المنطق. ليست ديانات أفريقيا وقبائلها وثنية خالصة كما يصورها الملاحدة, ولا يُعقَل أن توجد الوثنية الخالصة أصلا في أي مكان, بينما يوجد الشرك كثيرا وبدرجات, فلا يمكن أن يُعبَد الوثن لوحده إلا شريكا مع الله, ولا السحرة ولا عبادة الآباء ولا عبادة الجن...إلخ.
ولكن التقديس لا يأتي إلا لعلاقة الشيء المقدَّس بالإله المعبود فالشيء المقدس لا يُعبَد لذاته بل بسبب علاقته بالإله المعبود, ففكرة دوركايم خطأ بأن كل مقدس معبود, فلا يمكن أن يأتي أناس ويعبدون عجل أو ثور أو حمار بداهة, فكيف يعبد الإنسان شيئا هو أذكى منه ويستطيع أن يقوده؟ والعاقل لا يعبد أحدا مثله أو أقل منه فمابالك بالحيوانات بل تماثيل حيوانات!
فلا يوجد في الحقيقة ديانات طوطمية فقط ولا وجود حقيقي لديانات وثنية بمعنى أن الوثن هو إله الكون كله, بل هذه الطواطم أو الأوثان لها علاقة بالإله الكبير المهيمن على الكون وخالقه, ومنه تنطلق المقدسات, هذا هو المنطق. ليست ديانات أفريقيا وقبائلها وثنية خالصة كما يصورها الملاحدة, ولا يُعقَل أن توجد الوثنية الخالصة أصلا في أي مكان, بينما يوجد الشرك كثيرا وبدرجات, فلا يمكن أن يُعبَد الوثن لوحده إلا شريكا مع الله, ولا السحرة ولا عبادة الآباء ولا عبادة الجن...إلخ.
يقول الباحث الإفريقي إمبيتي: "المبشرون
الذين جلبوا الأناجيل إلى إفريقـيا قبـل مائتي سنة فقط؛ لم يكونوا هم الذين أتوا
بالرب إلى قارتنا، ولكن (الربّ) هو من أتى بهم! إنهم يستخدمون اسم: (الربّ) الذي
عرفه إنسان إفريقيا قبلهم, فهو Nagi, Katonda, Mulungu, Mungu
, Jok, Rohanga, Asis ,
Olodumare , Modimo, و Unkulunkulu..
وآلاف الأسماء الأخرى التي تشير إلى الإله الواحد خالق هذا الكون..!"
كما ذكر عاصم محمد حسن في مبحث له بموقع
قراءات أفريقية:
" (الرب) في معتقد وثنيي الغرب الإفريقي :
الفكرة الرئيسة حول هذا المعتقد هي:
الإيقان بإله واحد خالق لهذا الكون؛ يُعرف بأسماء عديدة وهو روح عليا سامية لا
توجد له تجليات صورية مرئية, وهو المصدر الرئيس لكل قوة وطاقة في هذا الكون, وهو
المعني أساساً بعملية الإماتة والإحياء.
ويوضح الجدول الآتي بعض هذه الأسماء
ومعانيها للخالق الأسمى عند بعض المجموعات في غرب إفريقيا، وهناك كثير غيرها:
سيراليون
Menda
Kono
غينيا
Tenda
غانا
Akan
|
Leve
|
الخالق الأعظم،
العليَ
|
Ngewc
|
الربَ، الروح العظيم
|
|
Maada
|
الجدّ
|
|
Mahawa
|
الرئيس الأعظم
|
|
Maha-yilei
|
الرئيس الأوحد
|
|
Maha-Ngewc
|
الرئيس الرب
|
|
Yataa
|
الذي تجده في كل
مكان
|
|
Meketa
|
الأزلي الذي لا يموت
|
|
Hounounga
|
الذي لم يره
أحد
|
|
Onyame
|
الكائن الأسمى، الرب
خالق كل شئ.
|
ويقول القس جاك منديلسون :" إن فكرة
الله الأعلى تكاد تكون موجودة لدى جميع القبائل, كالزولو والأشانتي والآكان
واليوروبا ..."
ويدل على هذا أنه لا يوجد وثن أو صنم أو
طوطم يسند إليه كل شيء, فتجدها آلهة متخصصة, ولها علاقة مباشرة بمجتمعها لكن لا
يُسنَد لها إدارة الكون كله, وهذا يتضح في الآلهة المتعددة حيث التخصصات: فآلهة
للطر وآلهة للحرب وآلهة للصيد وآلهة للمدينة وهكذا, أي من صور الشرك التي تُسنِد
بعض ما هو لله إلى شيء من مخلوقاته بدافع المحلية والتعصب, لأن القبيلة أو المجتمع
يريد الخير لنفسه لكنه لا يريد الخير لغيره وخصوصا لأعدائه بينما الله للجميع
وينزل المطر على الجميع, فاخترعوا شركاء لله خاصة بهم تشبه العَلَم أو الرمز
الوطني الذي يميزهم عن غيرهم وبالغوا في تعظيمها وبنائها لتعكس أبهتها قوتهم
وتفوقهم على غيرهم, وبالتالي سوف يزداد حبهم لهذه الآلهة الشركية أكثر من حبهم
لله, لماذا؟ لأن الله يرزقهم ويرزق أعداءهم أما هذه الآلهة فهي مهتمة بهم فقط
وتريد سحق أعداءهم وتتزلف إلى الله القدير لأجلهم وتداري على عيوبهم وتشرع لهم ما
يرغبونه من خلال كهنتها وسدنتها وتفضلهم على الناس, وبالتالي لا يهمها قضية الحق
من الباطل قدر ما يهمها رغبة هذه المجموعة, لهذا نجد الإله يهوه خاص بشعب إسرائيل,
يحبهم ويتنقل معهم في تابوت العهد المبارك الذي ينتصرون بسببه على أعدائهم, ويلعن
أعداءهم مهما كان فيهم هم من عيوب, ولهذا اتخذ اليهود العجل أيام النبي موسى رغبة
في هذا التخصص بدلا من إله عام للكون كله ولليهود ولغير اليهود وعادل مع الجميع.
إذن الشرك بدايته ظلم وعدم أخلاق, لهذا
قال الله {إن الشرك لظلم عظيم}, وينتج الشرور, مثلما فهم اليهود أن الإله يهوه
منحهم الأرض ما بين النيل والفرات هبة أبدية وطالبهم بقتل أهلها وإحراقهم, مما
أنتج الحركة الصهيونية الظالمة على شعب ضعيف شردته من دياره وما زالت تؤذيهم باسم
هذا الرب يهوه, الذي لا يرى غير اليهود بشرا, بل إنهم مخلوقون منه وبقية البشر
(الجوييم أو الأميين) مخلوقون من نطفة حصان كما يقول التلمود وجُعلوا على صورة
اليهود الذين هم على صورة الله من أجل خدمة اليهود ولأجل ألا يستوحشوا منهم كما في
التلمود المقدس, والذي يعتبرونه أهم من التوراة بسبب أنه أكثر تخصصا بهم, بينما
نجد في القرآن أن الله الذي أمرهم بدخول فلسطين توعدهم بالخروج منها مرتين, وهذا
تابع لحملهم الأمانة من عدمها وليس لأنهم شعبه المختار الذي يندم إذا عاقبهم ويبكي
كما تقول التوراة لا لشيء إلا لأنهم هم! بل إن وجوده لا يكتمل إلا بوجود اليهود
فهو المحتاج لهم أكثر من حاجتهم له كما تقول الكابالا اليهودية. وهذا يدل على
طغيان الروح الدنيوية على الأخروية من خلال الدين, وطغيان المصلحة القومية على
القضية الأخلاقية, والعاجل على الآجل, لهذا يتوارى ذكر الآخرة في التوراة عن
الأنظار وكأن الدنيا هي كل شيء وهذا ما حدث في الديانات السابقة. مثلما كان هبل
إلها خاصا لقريش يهمه نصرهم على أعدائهم بغض النظر من المخطئ ومن المصيب, و في نفس
الوقت هو داخل في ملكوت الإله الكبير ويتقربون إلى إله الكون من خلاله.
أكبر حضور للدار الآخرة موجود في
القرآن من بين كل الديانات, والأخلاق الدينية تزداد أو تقل تبعا لحضور موضوع الدار
الآخرة, لأنها تصبح أهم من الدنيا, ففيها الخلود في نعيم دائم وكامل أو في عذاب
كامل ودائم, والدنيا دائما تثبت نفسها بأنها لا تحتمل أن تكون الهم الأول للإنسان,
فهي قصيرة و لا يمكن أن تخلو من الشرور, ولا تصفو لأحد بأي وضع, والموت محيط بها
ومفاجئ, بينما الإنسان يريد تلافي عيوب الدنيا وهي لا تستطيع ذلك, لكن الآخرة
تستطيع ذلك, وبهذا لا يكون الإيمان بالله منطقيا دون الإيمان بوجود دار آخرة, ففي
الدار الآخرة سيجد المؤمن الجزاء الكامل بالخلود في الجنة {ثم يجزاه الجزاء
الأوفى} لأن الجزاء يجب أن يكون وافي, أما في الدنيا فلا يمكن أن يكون الجزاء
الوافي, وبالتالي لا يكون الإله عادلا إذا لم يكن عنده دار آخرة الخير فيها خالص
للأخيار والشر فيها خالص للأِشرار .
الدين كلما انحرف عن أصله الحقيقي كلما
تضاءلت أهمية الإيمان بالبعث فيه وازدادت قيمة الدنيا, لهذا تلاحظ في التوراة ذكر
الآخرة نادر جدا والمسيحية أيضا ذكر الآخرة فيها قليل وإن كان أكثر من اليهودية,
بينما في الإسلام فأكثر التركيز في القرآن منصب على الآخرة, والكلام عن الجزاء في
الدنيا قليل, و الشركيات كالآلهة الأخرى أو الأصنام أو الأرواح البشرية والعين
والجان والسحر وغيرها تأثيرها منصب على الدنيا وليس على الآخرة, (فكلما تكون
الدنيا أهم كلما يُهتَم بما يتعلق بها من الدين), والخوف العاجل أكثر شيء يهتم به
الإنسان, فتحوَّل الخوف من السحرة والأرواح والجان والشياطين إلى صور من الشرك في
كثير من الديانات بدافع الخوف, مما يعني سببا لوجود الشرك غير السبب الأول وهو
الخصوصية والتعصب, وإذا سمينا الأول بشرك الرغبة فنسمي هذا بشرك الخوف, حيث صُرِف
ما لا يستطيعه إلا الله إلى غير الله الذي لا يستطيعه.
كانت من عادات العرب قديما أنهم إذا
دخلوا واديا قالوا نعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهائه يقصدون الجن, فبدلها الله
بالمعوذتين, أي استعذ بالله وليس بهم, وأخبر أنهم زادوهم رهقا, أي لم تنفع
الاستعاذة بغير الله, فالخوف من الشيطان يجرئ الشيطان والخوف من الله يطرد
الشيطان. الاستعاذة بغير الله شرك , فأنت أخذت شيء من حق الله وصرفته لغيره وأنت
تعلم أنه لا يستطيع أن يعمل شيئا, فالخوف من غير الله أن يفعل مالا يستطيع أن
يفعله إلا الله يكون شرك الخوف, وهذا غير الخوف من العدو الذي يستطيع أن يفعل ما
يضرك بتخويل من الله, هذا مثل أن تتبرك بأحد لأنه يستطيع أن يصنع لك الخير والبركة
وتحبه لذلك فيكون هذا الشرك شرك حب, لأن هذه الأمور التي أسندتها إليه من اختصاص
الله, لكن أن تحب أحدا لأنه ساعدك في أمور حياتك أو لأنه طيب فأنت الآن تحبه في
الله ولست تحبه دون الله وهذا هو المطلوب. كذلك معرفة الغيب, إذا اعتقدت أن أحد
يعرف الغيب فهذا شرك الغيب, لأن الغيب من اختصاص الله, أما من يستقرئ المستقبل
بموجب توقعات بناء على الماضي والتاريخ فهذا لم يدعي معرفة الغيب ولكنه توقع وخمن
بطريقة عقلية.
فكرة الطوطم ساقطة منطقيا أن تُعبَد
مباشرة بدون فكرة شرك مع إله الكون, ومثلها ما ادعاه سبنسر عن بعض الديانات
الأفريقية من عبادتهم للآباء والأسلاف, فهذا غير صحيح لأنهم يعلمون أن آباءهم لم
يخلقوا الكون لا هم ولا الطوطم, فمن ناحية منطقية الناس محتاجين إلى من هو أقدر
منهم لكي يصلح لهم شؤونهم, ومحتاجين أن يحبوا أحدا أفضل منهم وأكبر وليس هم أكبر
منه, وفي جلب المصلحة ودفع المضرة الناس بحاجة لمن هو أقدر منهم وليس إلى حصاة أو
شجرة مفعول بها وليست فاعلة, وعليه ففكرة أن المقدس معبود فكرة خاطئة, فكل مقدَّس
يستمد قيمته من ارتباطه بما هو أعلى منه, مثلما تُعظَّم أدوات الكتابة لكاتب عظيم
بعد موته, هي تستمد قيمتها المعنوية من معنوي أكبر منها, لأن القيمة دائما معنوية بينما
هي أدوات مادية, وهذا المثل ينطبق على كل صور المقدَّسات الدينية وغير الدينية,
مثلما تُقدَّس التحف الفنية في أوروبا مثلا. قال تعالى : {وهو الذي في السماء إله
وفي الأرض إله} أي إله لكل الديانات في الأساس. ومن يقدس هذه الطواطم هو لا يقول
في الحقيقة أنه يعبدها بل يتقرب للإله من خلالها وإن بدا أنه يسجد ويتعبد للشجرة
أو للضريح, لأنه لو صار هذا الجنون وعدم العقلانية في الدين لكان ممكن أن يأتي في
المجالات الأخرى, فربما يجعلون كلبا هو شيخ قبيلتهم أو هو طبيبهم, فلماذا الجنون
لا يظهر إلا في العبادة؟ فعقليا هي غير مقبولة أن يسلموا أهم أمور حياتهم بهذا
الشكل المجنون بينما الأمور الأبسط يتعاملون معها بعقلانية.
إن كل الديانات لو تطلع عليها لرأيتها
تتشابه مع الديانات التوحيدية في كثير من الأشياء كالقرابين وتحريم الزنا والحث
على الأخلاق والبعث إلخ..., وحتى في تعدد الآلهة تجد إله واحد كبير, أي أنها
ديانات توحيدية حُرِّفت.
الأشياء المقدسة للآلهة الشركية مع الله
في العادة لا تكون مفردة, بل توضع حولها نقوش وعبارات وزخارف وطبقات من رجال الدين
والسدنة, ولهذا يشعر من يزورها بمهابة, وهذه المهابة التي يشعر بها داخلها
يفسرونها على أنها شعور تقديس وروحانية, ولكنها في الحقيقة بسبب الفخامة والأبهة
التي حول الشيء المقدس كالضريح أو الصنم, وليست بسبب الصنم نفسه, وهو نفسه شعور
المهابة الذي يشعر به من يدخل قصور السلاطين وأبْهيتهم.
الطوطم هو عبارة عن رمز خصوصي للإله وليس
هو المعبود وحده, وهذا في الحقيقة ليس تكريم للإله, بأن توجه خشوع وتقديس لهذا
الصنم أو الشيء, لأنه سيعطي الألوهية لهذا الشيء مع تعاقب الأجيال, ففي حالة عبادة
الأصنام يُهمل الأصل تدريجيا ويُعبد الذي يقرب إلى الله زلفى, ولاحظ أن الله سماه
شرك وليس عبادة , فهؤلاء يقربون إلى الله الكبير الواحد.
مما يدل على عملية التصنيم والتوثين هو
أنها هي نفسها لم تتغير منذ القدم وحتى الآن, فكل دين يتفلت من التوحيد إلى الشرك,
والنماذج أمامنا وكل يوم يخرج مقدسون ورموز وأماكن مقدسة, إلا من رحم الله.
كيف نقول بتطور الأديان ونحن نرى الدورة
الدينية مستمرة, فتبدأ بتوحيد مجرد ثم تقديس شخصيات ثم تقديس أضرحة ثم تقديس ما
يتعلق بها وما يرمز لها وقد يكون هذا الرمز حيوان أو أي شيء آخر ثم تسمى فيما بعد
ديانة بشرية, وآخر الأديان كالإسلام مثال على الدورة الدينية, لأنه تسربت إلى بعض
أجزائه هذه الصور المكررة من الوثنية, إذن المسيحية كانت مثله وهكذا الفرعونية
والسومرية والبوذية والهندوسية إلى آخره.
هؤلاء المؤرخون الملاحدة يريدون أن
يبعدوا فكرة الإله الواحد ويخصصونها بالديانات الثلاث فقط حتى يثبتوا فكرة التطور
التي يتكئ عليها إلحادهم, وحتى يُبعِدوا الأصل المشترك وهو إله الكون الكبير,
ليجعلوها بدعة في الديانات الإبراهيمية لا تعرفها البشرية من قبلها, في حين أن
الإلحاد هو البدعة التي لم تعرفها البشرية من قبل. كل العلوم الإنسانية كعلم
الاجتماع والنفس والأنثربولجيا وغيرها ظهرت في القرن الثامن عشر, وهو القرن الذي
ظهرت فيه المادية والإلحاد وسيطرت عليه إلى الآن, حيث خرجت أفواج من العلماء
الملاحدة تدرس في كل مجال وتعيد قراءة كل شيء من رؤية مادية إلحادية, باسم الدراسة
العلمية, بما في ذلك الإنسان والأديان والتاريخ والحضارة والبيولوجيا وأصل الحياة
ونشأة الكون.. إلخ, في خط موازي للخط العلمي ويختبئ بظله وليس منه, لأن العلم لا
يحمل فكرة مسبقة كما يفعلون. وهذا يسبب عدم الثقة في هذه العلوم وهي بحاجة إلى
مراجعة, فالمفكر المادي لا يصح أن يقدم فهم عن الإنسان فقد ثبت عجزه في ذلك, لأنه
يحمل خطأ منهجي في داخله وهو تقرير مادية الإنسان مسبقا بدون دليل ليثبت ماديته
بالكامل, بما في ذلك منطقه وأخلاقه وشعوره الديني, إذ لا يمكن إرجاعها إلى المادة
إلا بالتعسف.
يقول دوركايم أن الناس قديما كانوا
يعبدون إلها خاصا بالعشيرة أو القبيلة, لكن وجود إله واحد لجميع البشر وهو الخالق
هي حتمية منطقية ولا يمكن لأحد أن يعبد بدونها سواء قديما أو حديثا وإلا كان
جنونا, فإذا قلت أن هذا إله خاص بالقبيلة المنطق سيقول من هو إله بقية العالم؟
وإذا قلت كلٌّ له إله سيقول المنطق هؤلاء الآلهة أليس لهم مرجع هو الذي حدد
صلاحياتهم وأوجدهم؟ ولماذا الكون منظم ومتشابه مع وجود آلهة مختلفة ومتناقضة
ومتحاربة؟ ولا يجب أن يكون للإله الواحد موجِد لأنه هو من أوجد كل الموجدات, لهذا
نجد الديانات متعددة الآلهة لها إله كبير بالضرورة المنطقية. وجود الآلهة الخاصة
بالشعب وبالمدينة أو بالقبيلة وحتى بالأسرة هو خصوص داخل في العموم, فهذه الآلهة
الصغرى لها مرجع, تماما مثل الوضع الإداري, فالحي الواحد له مسؤول والمدينة لها
مسؤول والدولة لها مسؤول اكبر وهكذا.. لذلك الله في قرآنه سماهم بالمشركين وهذه
تسمية دقيقة, فالكل يعبد الله الواحد في الأساس ولكنهم يشركون معه ولم يسمها
ديانات بشرية {أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى}. كل وثني هو مشرك مع الله
الواحد شيئا من خلقه, ولأن هذا الوثن خاص فهو يتعامل معه في شؤونه الخاصة, مثلا
إله للقبيلة أو طوطم ستكون أكثر دعواتهم موجهة له وليس لإله الكون الشامل الذي
يشمل أعداءهم, وهو وسيلة التواصل مع الإله الشامل. إذن لا يوجد مشركون ووثنيون, بل
جميعهم مشركون, لأنه لا تقوم ديانة أيا كانت إلا على أساس إله الكون الكبير الشامل
والكامل, ولا يقر العقل غير هذا, والبشر عندهم عقل سواء كانوا في غابات أو في أحدث
المدن.
الماديون يتكلمون عن الديانات بكلام لا
يصدقه العقل مثل أن هناك من يعبد ديك أو من يعبد فرج المرأة أو يعبد البقر, وكل
هذا لأجل أن يشوهوا فكرة الدين ويلصقوها بالخرافة وينزعوا العقلانية عن كل الشعوب
عبر التاريخ وتكون لهم وحدهم. مع أن عبادة الله هي المنطق, والشرك هو غير المنطق
بدافع الهوى والتعصب والمحلية وهما أعداء المنطق. فكيف تشرك مع الله القادر على كل
شيء شيئا من مخلوقاته وتدعوه بشؤونك الخاصة التي هي أهم شيء عندك؟
إن من أسباب الشرك اعتقادهم بان الله
خيّر, ولكن الأرواح الشريرة والشياطين والجن والسحرة هي التي يجب تكافي شرها , {
إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} , ومنها صار الخوف من
الأوثان أكبر من الخوف من الله, وصارت الأوثان تقدم على الخوف من الله, ولهذا قال
الله عن الشرك {ظلم عظيم} فالظلم فيه واضح, وما ظلموا الله ولكن ظلموا أنفسهم,
والدافع لهذا هو وجود الشر في الحياة مع وجود الخير, فهم اعتقدوا أن الخير من الله
لكن الشر من غير الله فلا يمكن في تقديرهم أن يجمع الله بين الخير والشر معا وهذا
أحد أسباب الشرك, فهم لم ينتبهوا أن الشر من الشيطان وأن مكافحة الشيطان ليست
بالخوف منه بل بالخوف من الله لأنه هو القادر على دحره, واسترضاء الشرير لا يعني توقف
شره بل يعني تماديه. إذن الأصل أن الناس يعبدون الله في الأساس, لكن الشيطان
يحرفهم إلى الشرك مع الله, ثم يجعلهم يؤثرون شركاءهم على الله.
لاحظ أن الخير والشر دائما مربوطان
بالدين لماذا؟ لأن الله خيِّر, فلا يمكن أن تعتقد أن الله غير خير, لأن الخير
موجود وهو الأساس, والشر طارئ, لهذا ارتبط الدين بالأخلاق فالله يعطي ويرزق ويهب
السمع والأبصار وسخر ما في الأرض وجعل الأشجار تثمر قوتا للناس وأنزل عليهم المطر,
وكل إنسان على فطرته يعرف أن الشر طارئ لذلك الشر مميز والخير لا يمكن عده {وإن
تعدوا نعمة الله لا تحصوها} لكن الشر ممكن إحصاؤه, والخير في فكرة الدين ليس
المصلحة المادية, فالخير ليس هو المال بل عطاء المال هو الخير, وكل فطرة تعلم أن
إله الكون أعطى الناس, وبالتالي يحسون بنية الخير من الله لهم لأنه أعطاهم ويحسون
بدافع الشكر والرغبة في الطاعة. هذا هو أساس الدين وليس الخوف من مظاهر الطبيعة
كما يفكر الملاحدة, بدليل أنهم يشركون أحيانا في عبادة ما يخافون منه في عبادة ما
يحبون وهو الله الكبير دفعا للضرر, بسبب تميز الشر. هذا سر ارتباط الإله بالخير,
وهذا الارتباط أنتج تلاحم الأخلاق بفكرة وجد إله, فأنت تؤمن بإله إذن أنت تؤمن
بالأخلاق مباشرة -لأنك عرفته من خلالها- وتفصل بين الخير والشر مباشرة, وكل
الديانات كذلك, وانظر إلى القرآن يؤكد وجود الله من خلال النعم والعطايا التي
قدمها للناس, أي من خلال الأخلاق الإلهية.
يؤكد هذا أن الملاحدة لا يؤمنون بإله
وبالتالي لا يؤمنون بالأخلاق ولا بالفصل بين الخير والشر, وهذا أكبر دليل على
ارتباط الإيمان بالأخلاق, أن الأخلاق هي سبب الإيمان وليس الخوف من مظاهر الطبيعة
التي قد لا تحدث أحيانا, والتي قد تحدث مع الملاحدة دون أن تؤثر فيهم ! إذن
الأخلاق = دين, والدين = أخلاق, والدين نتيجة أخلاقية.
الخير الذي عند الناس هو معطى منحة, إذن
من أعطى هو كريم وخيّر, ومن عرف الله هو عرف الخير مباشرة, وهذا يفسر لنا عدم وجود
ديانة تعبد إلها شريرا, غير عبادة الشيطان التي ظهرت على أيدي الملاحدة, لأن
بُعدَهم عن الدين سبب تقاربا وتعظيما للشيطان وتقاطعا في الخط معه, مما يؤكد أن
الخير والأخلاق في الدين الصحيح, وترك الدين يقود تدريجيا إلى تعظيم الشر وبالتالي
عبادة الشيطان, والإلحاد يلخص لنا هذه المسيرة.
شكرا لك استاذي الوراق على هذا الموضوع الجذاب للقراءة بالنسبة لي ..
ردحذفلكني احببت ان اسأل :
هل النعمة والمصيبة داخلتان في تعريف الخير و الشر ؟ اعني : هل كل نعمة خير ؟ وهل كل مصيبة شر ؟ لقد اخبرنا القرآن الكريم انه ليس كل ما نحبه خير ، وليس كل ما نكرهه شر (وعسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم ، وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم) ..
فهل هذا ينطبق ايضا على النعمة والمصيبة والخير والشر ؟ اي ليس كل نعمة خير ، وليس كل مصيبة شر ؟
ثم ما الفرق بين النعمة والخير ؟ وما الفرق بين المصيبة والشر ؟ اقصد في التعبير القرآني واللغوي بطبيعة الحال ..
ولقد اعجبتني جدا تمييزك الدقيق والنفسي في سبب اتخاذ الوثنيين اوثانا دون الله ، اذ انهم يعتبرونها اوثانا لهم وتقيهم شرور غيرهم وتجلب لهم مصالحهم .. انه تفسير منطقي وواقعي جدا ، وكذلك بين وكشف مقصد الماديين والملاحدة من تغيير وتزييف الحقيقة عن الاديان الاخرى .. لقد اعجبني كثيرا ..
شكرا لك استاذي على سعة صدرك وجزيل عطاءك ..