الأربعاء، 27 فبراير 2013

عن التنازع ..


"جواب إلى الأخ العزيز جراح الشمري عن اقتباسه من علي الوردي عن التنازع في كتاب (مهزلة العقل البشري) .."




الكاتب علي الوردي متأثر بالفكر المادي الغربي ويترجمه إلى صيغة عربية ، هو يتبنى الفلسفة المادية ، و كل رد على الفلسفة المادية هو رد عليه وعلى غيره من الماديين .. هو يرى أن التنازع جبلة بشرية وأن التنازع في صالح المجتمع ويسعى به نحو التقدم ، يقول هذا ولا يفسرها منطقياً حتى تـُفهم ، و ماذا يقصد بتطور المجتمع وازدهاره و تقدمه؟



التنازع ينتج ألماً وضعفاً وتفككاً ، هذا هو المنطق ، إذا اصطدمت سيارتان تهشمت كلتاهما بسبب التنازع على مكان المرور..!



تنازع أطراف المجتمع يعني أن يضرب بعضه بعضاً ولا يثق بعضه ببعض ، نعم قد ينتج تطوراً في أساليب الكر والفر وأساليب القتل ، لكن كل شيء يخدم أساسه ، فالتطور الذي ينتجه الصراع ينصب في الصراع ، وحتى لو استخدم في مجال الخير فهو ليخدم الصراع .. فالليزر استخدم في المجال العسكري أول ما استخدم ، ثم ظهر له تطبيقات طبية لتعالج العسكر ليعودوا للقتال مرة اخرى!! هذه هي النية ، نعم يستفيد منه بعض المرضى لكن ليسوا هم الهدف الأساسي ..



 لاحظ التطور في الأسلحة بسبب التنازع -الذي يمجده الوردي- أنه ينصب في تدمير الأرض ومن عليها .. والخطر النووي يهدد البشرية في كل لحظة .. إذن ليس التنازع و الصراع هو الطريق السليم لمصلحة البشرية والإنسانية ، وإن كان ينتج ابتكارات وحلولاً لكنها تنصب في خدمة الصراع وتوسع مجالاته ..



كيف لمجموعة أن يتصارعون وبنفس الوقت يتقدمون؟! الصراع لابد فيه من خاسر، وإن كان يقصد بازدهار المجتمع : الوفرة المادية والتطور التكنولوجي ، فهذا أيضاً على حساب المجتمع وعلى حساب أعصابهم و صحتهم ويخدم فئة قليلة منهم تصل إلى الواحد بالمئة وهم الرأسماليون المتصارعون الكبار ، وعلى حساب الشعوب الضعيفة، و في الأخير على حساب البيئة وتدميرها! فيا للتقدم كيف يكون على الطريقة الوردية !! المصارع همه أن يهزم الطرف الآخر وليس همه تقدم البشرية أو المدنية ..



هذا تفكير على الطريقة الرأسمالية .. التطور الحقيقي هو الذي لا يضر أحداً ولا يدمر البيئة والفطرة ، وليس له ضحايا ، أما هذا فهو وهم التطور ، إذ هو تطور للنزاع و الشر ، والبشرية تريد أن تتخلص من النزاع و الشر ، بينما هذه الفكرة ترسخ الصراع و الشر ، لأن المهم هو الإنسان وليست أدواته .. الله يقول  {وكونوا عباد الله إخوانا} {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} ، هذا طريق التقدم الإنساني الحقيقي ، بينما الوردي وخلفه الرأسماليون الماديون يقولون العكس تماماً : "تفرقوا ولا تكونوا جميعاً ، وكونوا أعداءً ولا تكونوا إخوة حتى يصلح شأنكم! " .. هل هذا كلام حكيم ؟ هذا كلام المصارع الناجح ، فالمصارع الناجح لا يحب أن تتوقف المصارعة لأنها في صالحه .. و تزيد عدد أوسمته وجمهوره وثروته .. لا يعلو في الغرب صوت على صوت الواحد بالمئة التي تحتل تلك المجتمعات، وتمثلها ولا تمثلها حقيقة ..



هو يتوهم أن الوئام يعني عبادة الآباء و الأجداد ، ويرى أن مجتمعات العادات والتقاليد تعيش وئاماً وانسجاماً وأنها خالية من القلق لكنها خالية من المدنية! و كل هذا غير واقع ، وما شأن التقدم العلمي والتكنولوجي بالآباء والاجداد؟ التقدم المدني والتكنولوجي مرتبط بحاجة الناس ومعيشتهم وليس مرتبط بـ : هل هم يحترمون القيم الموروثة أم لا يحترمونها ؟.. إنه ربط عجيب بين حاجة التقدم وترك التقاليد (يقصد بها الدين طبعا) .. لأنه يقول موافقاً "توينبي" المؤرخ البريطاني: إن المدنية مسرح الشيطان ، وكأنه يقول : تريد مدنية؟ اترك الدين! وبدون كذا ما فيش!! إنه يساوم الناس على تقاليدهم وأديانهم مقابل بريق الصناعة و الأدوات الاستهلاكية والأنظمة المرورية !! تشتري المدنية؟ تحصل معها على الشيطان مجاناً!! وبدون كده مفيش !



أما مثاله فكله مواضع للنقد؛ هل يتصور أحد أن الإنسان القديم كان فعلاً يخطف زوجته ويسبيها؟ وأن كل البشر يفعلون هكذا ؟ هل يدخل هذا في رأس عاقل ؟ ثم لماذا يخطفها ؟ هل أهلها لا يريدون لها الزواج ليضطر الخـُطـّاب لعملية اختطاف ؟ ماذا سيستفيد أهلها منها ؟ لو طبقت فكرتهم لانقرض الجنس البشري ، لولا بعض المختطفين الذين انقذوا الجنس البشري !! ..



ماذا سيضره الزواج؟ هذا تصور سطحي جداً جاءت به فكرة التطور ، لو كان البشر هكذا لما عاشوا ، ولا يوجد أصلا إنسان بدائي ، إنها فكرة من اختلاق الداروينيين ، و لو كان الإنسان بهذه السذاجة والبدائية لما عاش بين الوحوش التي هي أقوى من كل شيء .. الإنسان البدائي مخلوق مجرد من العقل و من القرون والمخالب ويعيش على الجمع والالتقاط كما ترعى الماعز! أليس مؤهلا للانقراض وهو في هذه الحالة؟ يجب ألا نقبل أي تفسير غير منطقي مهما اشتهر .. خصوصاً ونحن نعرف ماذا يفعل الإعلام و من يملكه ..



ثم يرى أن الإنسان تطور فأصبح يشتريها بماله على طريقة الزواج ، ونسي فخامة شركات الدعارة في الغرب ذات الأرباح الطائلة القائمة على شراء الجسد .. إنه لم يفهم فكرة الزواج على أنها مسؤولية ، فالعائلة تسلم ابنتها إلى رجل كي ينشئوا أسرة جديدة وتستمر الحياة على شرط أن يتحمل مسؤوليتها ، والمهر ليس شراءً لها بقدر ما هو تعويض لها ولأهلها عن مفارقتهم ومساعدة الأسرة على تجهيز ابنتهم وتشجيعها على قبول الزواج منه ، ودلالة على أن الزوج قادر على إعالة الأسرة .. هو اسمه صداق من الصدق ، و ليس ثمناً .. فالإنسان لا يباع بهذا الثمن ..



ثم إن المرأة البدائية أليست تريد الرجل؟ لماذا تضطر لعملية اختطاف خطيرة تلاحقها السهام؟ وكيف ترضى القبيلة أن يختطف أبناؤها بنات الآخرين ولا يرضون أن يختطف الآخرون بناتهم؟! هذا يجعل الحياة تتوقف .. لابد من قانون ، وهم يتكلمون عن مجتمع بدائي بلا قوانين ، و أي مجتمع بلا أية قوانين سوف ينقرض .. ثم المعروف أن ابن القبيلة يتزوج من قبيلته و يتعصب لها ، فهل يخطف من بيت عمه الذي سيشاركه في الحرب و يعيش معه؟ وإذا كانوا منعوا الزواج فهذا قانون عند قبائل بدائية يقولون عنها أنها بلا قوانين!! وكيف صارت قبيلة وهي بلا قوانين؟!



أما وجود هذه العادة عند بعض القبائل القديمة في أوروبا ، فيبدو أنه كان لبيان قيمة البنت و مقدار حبه لها ، لأنه داخل في طقوس الزواج ، و منه بقيت فكرة فتى الأحلام و الفارس الزوج الذي يخطف حبيبته على حصان أبيض ، لتثبت مدى الحب ، لا أنها شيء واقع وبشكل عام ، فهذا لا يدخل عقل أحد ..



وواضح جداً أن الوردي لا يحترم فكرة الحب، وينظر إليها نظرة مادية كدافع جنسي فقط ، لأنه لا يعترف بالوئام أصلاً ويرى أن الصراع هو طريق نجاة البشرية ، وإذا كان الصراع طريق النجاة فما هو طريق الهلاك؟ هل نقول أنه الوئام و السلام؟!



الحب عبارة عن وئام و فداء وليس فقط جنس .. لكنه لا يصدق بوجود هذا ، بسبب وجود الجنس . و بما أن الجنس موجود إذن كل شيء عبارة عن علاقة جنسية في جنسية ، هكذا يفكر المادي ولا يستطيع أن يخرج إلى ما هو أرقى من ذلك .. هذا يشبه من ينظر إلى الوليمة على أنها اجتماع على أكل فقط ، ناسياً أن الأكل عبارة عن رمز و شيء ثانوي ، بينما الأساس هو المحبة والوئام .. لكن صاحب العقل المادي سيقول : بما أنهم ينتظرون الطعام وسوف يأكلون ، إذن جاؤوا لأجل الطعام! لأنه هو الشيء المادي الواضح! و هذه لعمري هي النظرة البدائية ، أي عكس ما يقول تماماً .. 

الأفكار التي ينادي بها هي الأفكار المتخلفة والتي تريد البشرية أن تتخلص منها ، أفكار الصراع والتهالك على المصلحة المادية والنظرة المادية لكل شيء والبقاء للأقوى و اختزال الأمور في ظواهرها المادية، مثلما اختزل الحب بالجنس و مثلها الوليمة بالأكل ..  



هم يتحدثون عن التقدم بينما العاقل يرى أنهم يتحدثون عن التخلف ولكنهم غيّروا اسمه ، فعلينا ألا ننخدع بتغيير المسميات ..



هم لا يتبعون المنطق بقدر ما يتبعون المجتمع الغربي وهو ملهمهم .. فعلى هذا لا يكون من يفكر بهذه الطريقة مفكراً ، لأن المفكر يفكر وراء المنطق والأفكار ولا يرتبط بالواقع ولا نتائجه .. فالواقع عالم و الأفكار عالم آخر .. هؤلاء الفئة الكثيرة تسمى المفكر المستلهم ، أي من يستلهم المجتمع الغربي ويبني عليه الأفكار تبعاً لتفوقه العسكري والمادي دون أن ينظر من أين جاء هذا التفوق .. ناسياً أنه على حساب الشعوب المستعمرة والضعيفة ..



القوة لا تعني الحق ، ولا تعني الصلاح ولا تعني الخير ، مفكر القوة الاستلهامي ينظر إلى أقوى جهة موجودة في زمنه ويبني على أساسها طريق النجاح كما يفكر "فوكوياما" الاستلهامي .. المفكر الحر لا يرتبط بأي قوة ، ولا بأي نجاح وقتي لإحدى الامم في شأن من الشؤون .. المفكر الحر عالمه عالم الأفكار غير المقيدة بأشخاص ولا مجتمعات ولا بقوة سائدة .. إنه هو المفكر الحقيقي والحر من قيود الواقع .. لأن الواقع يتغير وعالم الحقائق والمنطق لا يتغير .. تخيل مفكراً أيام الحضارة الفرعونية أنه سيفكر مثل علي الوردي ، و يقيس نجاح الشعوب بقربهم من حضارة الفراعنة دون أن ينظر إلى الصواب والخطأ فيها .. المهم أنها أنجح الموجود ،، مثل هذا يربطنا بالقوة ولا يربطنا بالفكر ..



نحن نريد قوة الفكر ، لا نريد فكر القوة ..

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق