السبت، 8 أكتوبر 2016

الرقيق والسبايا والاسرى في القرآن 2


إن كلمة ملك اليمين تشير الى البيع والشراء ، وليست تشير إلى الأسر ، لاحظ كلمة "ملك" فهي عادة تأتي مع البيع. ولو كان كذلك لأمكن تسميته بأسر اليمين، واغلب العبيد أصلا في كل الأزمنة كانوا من الافارقة على الأكثر، لأن ملامحهم وألوانهم فارقة، لاحظ كلمة "أفريقيا" ، ولا أدري إن كان لها أصل تسمية. فلا يستطيع أن يأبق ويفر، لأن لونه مميز وسيُعرف انه عبد، وإن لم يُسلَّم لسيده فإنه يُسرَق ويباع مرة أخرى، لكن أبناء القبائل أشكالهم تتشابه، فلو استُرِق فيستطيع أن يفرّ وينجو من الرق، لأن الأصل فيمن مثل لونه وسحنته أن يكون حرا، لكن الأصل في اللون الأسود أن يكون عبدا، هكذا كان، خصوصا في بلد ليس سكانها سود. وهذا ما يفسر تجارة العبيد حتى في أمريكا وأوروبا، فقد كانوا من الزنوج، والتي بدأها تاريخيا فيما يبدو اليهود ومن صدّقهم، اعتمادا على التوراة المحرفة التي جعلت حام أبا الأفارقة عبدا لأخويه سام ويافث، لأنه رأى أباه نوحا سكرانا ومنكشف العورة فضحك عليه ولم يغطه، فلعنه نوح وقال تكون عبدا أنت ونسلك لأخويك ونسلهما، ومنها بدأت المأساة. المسيحيون الأوروبيون لأنهم ضموا التوراة الى إنجيلهم (العهدين القديم والجديد) زمن التصالح مع اليهود، تأثروا أيضا بهذه الفكرة، بعد الحركة الإصلاحية اللوثرية الأصولية التي بدأها اليهود أيضا وشجعوا عليها لأنها في صالحهم، وانتشرت في بريطانيا وامريكا، وهي معقل اليهود والعبيد ايضا، والتوراة مسؤولة حتى عن العنصرية ضد السود في أمريكا وحتى العرب، لأن التوراة اصبحت كتابا مقدسا عند المسيحيين، بعد فترة تهويد المسيحية، بضم الكتابين المتناقضين في كتاب واحد يسمى الكتاب المقدس، فالتوراة مليئة بالتحريض على الفلسطينيين والعرب والسود، والتوراة تنص على استعباد السود وممارسة العنصرية ضدهم، وهذا ما يفسر انتشار العنصرية العرقية عند المسيحيين الغربيين واليهود وعدم وجودها عند المسلمين، والجدير بالذكر أن المسيحيون يؤمنون بتوارث الخطيئة. فالأسود يُسترقّ لأن جده الأول لعنه نوح وأمر بإسترقاقه.

عندها صاروا ينهبون القرويين الأفارقة المساكين ويبيعونهم عبيدا إلى وقت قريب. ولماذا لم يَسرقوا من جزيرة العرب أو من شرق أوروبا أو من اليمن؟ السبب هو مسألة اللون، العلامة الفارقة، واللعنة التوراتية للسود. ولهذا القرآن سمّاهم ملك اليمين، وكلمة مُلْك تشير إلى الإمتلاك بالمال، ولم يسمِّهم أسرى اليمين، والإماء نفس وضع العبيد، وإلى عهد قريب كانت تجارة العبيد تدور حول السود والنساء السود، وعنترة استعبده أبوه لأنه كان أسود، وجماعة الصعاليك يبدو أنها تشكلت مما يسمى بأغْرِبَة العرب، أي السُّود كأنهم غُربَان، وقد ثاروا على الاستعباد وكوَّنوا جماعة الصعاليك المشهورة، والتي تجمع بين ما يسمى بالذئبان والأغربة.

أكثر العبيد، حتى في أيام العباسيين، كانوا يأتون من أماكن لم يفتحها الجيش الإسلامي كجورجيا وغيرها، لأنهم يُشتَرَون من أهاليهم أو يُخطَفون و هم صغار، وهذا الغالب في العبيد والإماء، أن يُخطفوا و هم صغار حتى يتعودوا على العبودية، لأن الكبير سوف يقاوم أو يهرب. ويُلاحظ أن لبقاء العبد أو الأمة على عبوديته أو عبوديتها أن يكون من عِرقٍ مختلف عن العرق السائد، إما بسواد واضح أو بياض واضح وعيون ملونة، فبمجرد أن يُرى يُعرف مباشرة كونه عبدا اسودا أو عبدا احمرا. لكن السود هم الأكثر بسبب تميز اللون الأسود اكثر وقربهم من الجزيرة العربية. وحتى في بعض اللهجات الشعبية في جزيرة العرب يسمّون السود عبيدا مع أنهم احرار إلى الآن، وهي تسمية ظالمة.

والنخاسة عمل تجاري و لها دُور في كل بلد في الزمن السابق. وتجري عليهم مزادات، ولم يكونوا أكثرية، بل كانوا قلّة في المجتمع. لا يُسترقّ أحدٌ في الغالب إلا وهو طفل صغير أو طفلة صغيرة. تماما مثل تربية الحيوان، فالكبير صعبة تربيته، أما الصغير فيسهل قياده إذا كَبُر، وهذا الكلام لمجرد التشبيه فقط وليس للإحتقار. ودائما أسعار العبيد غالية لأنهم مُرَبَّيُون من الصغر، ودائما لا يشتريهم إلا الأغنياء.

هل القرآن يحكم على قتل الأسرى ؟ وهل من الأعراف أن الأسرى يُقتلون؟ القرآن يحث على إطعام الأسير ويعتبره كالمسكين والفقير، قال تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان:8]
ويحث على اطلاق سراحه، إما منا أو فداء، حتى تضع الحرب أوزارها، فليس الأصل في الأسير أن يُقتل أو يُسترقَّ، بل الأصل فيه أن يُطلق، سيكون الرِقّ مقابل القتل صحيحا لو كان الأصل أن يُقتَل الاسير، ولكن الأصل ليس كذلك، بشهادة القرآن وبشهادة الأعراف القبلية والدولية والأخلاقية، والقرآن يأمر بالمعروف، وعدم قتل الأسير من المعروف العالمي، وقتل الأسرى منكر عالمي. وإكرامهم من الأخلاق بلا شك، ومن الأعراف ، سواء عند المسلمين او غير المسلمين، والتي حث عليها القرآن. ومدح المسلمين لأنهم يأمرون بالمعروف العالمي، لا بأنهم يخالفوه، (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) فالمعروف شأن للناس، والمعروف إذن مرجع من مراجع الإسلام. المعروف ليس فقط ما نزل به الشرع، بل هو معروف عند الناس كلهم، فالإسلام لم يأتي بشيء غريب عن الناس، بل يحثهم على مكارم الاخلاق التي يعرفونها، ولهذا انتشر الإسلام. فالمعروف والمنكر لا يُحدَّد من عند المسلمين فقط، بل يُحدَّد من عند العالم. ولهذا انتشر الإسلام لأنه لا يصدم الفطرة بل يسايرها، لأنه يساير المعروف، فلا يشعر الشخص أنه أمام دين غريب عليه، وبالتالي يجد نفسه أسلم، هذا إذا قرر أن يستقيم. جزء كبير من ديننا يحدده العالم لنا وليس كتبنا وعلمائنا فقط. و لك أن تسأل كل شعوب الأرض : أيهما افضل : اكرام الاسير واطعامه وإطلاقه وفداؤه، أم قتله ؟ ستأتيك الإجابات التي أحالنا الله عليها، عندما قال (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي المعروف عند كل البشر مسلمين او غير مسلمين. ودائما غير المسلمين اكثر من المسلمين. ومعاهدة جنيف من ضمن معاهدات الأمم المتحدة، وهي تنص على حقوق الاسرى وليس قتلهم.   

إن الأسير لا يعتبر رقيقا، فالله يقول (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء) والرقيق لا يطلق سراحه هكذا، فكلمة أسير لها مدلول وكلمة رقيق لها مدلول، فيجب الإلتزام بألفاظ القرآن بموجب اللغة العربية، فالله يقول {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان:8] فلو كان الأسير هو الرقيق فلماذا يطعمونه؟ أليس له سيدٌ يطعمه؟ والأسير هو الذي بحاجة أن يُطعَم لأنه مسجون أو مقيّد، أما العبد الذي يتبع سيده فسيُّده لا شك غني ويستطيع أن يعوله ويطعمه، وإلا باعه. فهناك فرق اذن بين كلمة أسير وكلمة عبد في القرآن. والأسر من الإسار وهو الرباط، أما العبد فتعني الخادم طوال حياته. 

الآية (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) ، هذه الآية تحدّد لنا كيف التعامل مع هؤلاء المربوطين بعد الانتصار عليهم بأمرين، وهما (إما منَّا بعد – أي إطلاق السراح بعد الحرب، وهو المذكور أولا من باب التفضيل - وإما فداء)، ولا يوجد طريق ثالث كأن يُتخذوا رقيقا وعبيدا يباعون ويشترون، الآية لا تحتمل مثل هذا ، فـ"إما" تحصر بين شيئين، والآية واضحة في التعامل مع الأسرى، وقوله تعالى (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) وهؤلاء الأسرى من أوزار الحرب، فإذا أُنهي موضوعهم فهذا يساعد على أن تتوقف الحرب، والإسلام يجنح إلى السلم، ومن هنا نفهم عدم إطالة فترة الأسر وربطها بنهاية الحرب. أما مبدأ المعاملة بالمثل فهو محكومٌ أيضا بالأخلاق الإسلامية وليس مبدأ حرا طليقا، فإذا فعل العدو الفاحشة بأسراهم فهل نفعل ذلك على مبدأ المعاملة بالمثل؟ وإذا أحرقوا أسرانا عندهم فهل نحرق أسراهم عندنا على مبدأ المعاملة بالمثل؟ وإذا اخذوا النساء والرجال عبيدا وفرّقوا أسرهم وانتهكوا أعراضهم، هل نفعل مثلهم ؟ طبعا لا. المسلمون تحكمهم الأخلاق الإسلامية وليس المعاملة بالمثل، هذا المبدأ – المعاملة بالمثل - مبدأ الدول العلمانية. ونحن المسلمون مأمورون بالعدل والإحسان والحق والرحمة، فما يجري من العدو يجب ألا يجري منا، لأن أولئك كافرين وليس لهم ارتباط بالله ولا بالمُثل ولا الأخلاق، فقد يحصل منهم أشياء فظيعة، فهل نفعل مثلهم لنكوي قلوبهم ونحن نؤمن ان النصر من عند الله وليس من عملنا ؟ قال تعالى (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى) . حق المعاملة بالمثل مربوط باحترام المُثُل، مع أن العفو والمنّ أفضل.

إن حروب العرب قبل الاسلام كانت لها أطر أخلاقية تمنع قتل الأسير، وتوجب إجارة المستجير، والمنع لمن ألقى سلاحه، وعدم قتل النساء والاطفال والشيوخ الخ .. الإسلام جاء ليكرِّس المعروف ويأمر به، الإسلام لم يأت بجديد يستنكره الشعور الإنساني الطيب. وإذا قوبلت الإساءة بالإساءة فمتى تنتهي الإساءة، كما قال غاندي. الله يقول {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم}[فصلت:34] هذه ليست مثاليات حالمة، بل كلام الله.

كما أن الاية لم تنص على أن الفداء والمنّ بعد أن تضع الحرب أوزارها، بل قبل أن تضع الحرب أوزارها ، أي أن "حتى" هنا بمعنى "لكي" ، ومنطقيا إذا حُلَّت قضايا الأسرى فهذا يسهِّل على أن تنتهي الحرب و تضع أوزارها، وعادة فإن آخر ما تُحَلّ من مسائل في الحروب هي قضايا الأسرى. وكلما استُعْجِل بحلّها كلما ساهم هذا في إنهاء الصراع، فالقرآن إذن يعالج قضية إطالة سجن الأسرى، كَونَهم معلَّقين بنتائج الحرب التي لا يُعرف متى ستنتهي، وهذا من رحمة الله بالأسرى عندنا، وبأسرانا الذين عندهم، (والصليب الأحمر الدولي يقوم بجهد مشكور في عملية تبادل الاسرى، مع التحفظ على اسمه وشعاره، فما دام عالميا فلماذا شعاره مسيحي وصليبي ؟ هذا يجعل بعض اتباع الديانات الأخرى يتحفظون في مساعدتهم والتعاون معهم، ولو تغير الإسم والشعار لكان تعاون الكل معه أكثر، مقارنة بمنظمة أطباء بلا حدود، التي يدخل فيها الطبيب من أي دين كان، هذا كوجهة نظر) .

لو اتُّبِع هذا الخُلُق القرآني في الحروب لخفَّت معاناة الأسرى و قلّت مدة سجنهم وحصل لهم تبادل سريع وساهم ذلك في إيقاف الحرب كلها، و هنا ملمحٌ للُطْف الله وحكمته، كأن القرآن يشير إلى أن تبادل الأسرى يتمّ قبل إنتهاء الصراع حتى لا يُهان الأسرى بأخذهم إلى بلاد الأعداء.

الإسلام شجّع على العتق، أي أنه يريد أن ينتهي الرقيق، ومن يريد أن يُنهي شيئا يجفف منابعه كلها، لا أن يفتح له بابا عريضا، فإذا كان لديك تسريب مياه غير مرغوبة مثلا، تذهب إلى المصدر وتغلقه، وإلا فما فائدة التخفيف؟ القرآن حث على إعتاق ملك اليمين مع أنها أملاك، لكنه لم يحث على إعتاق المَزَارع أو الأغنام أو الإبل، إذن هناك شيء في الموضوع، إن القرآن يريد أن يُنهي هذه الظاهرة التي نزلَ الإسلامُ وهي موجودة وشائعة والناس قد دفعت أموالها فيها، وهذا من حكمة الله في التدرُّج، فلا المالك يتضرر ولا العبد يتضرر.

يقال أن الإسلام شرّع الرق من باب وحيد بعد أن أغلق جميع أبوابه الأخرى، وهو باب الحرب المشروعة، واسترقاق الأسرى. والحقيقة أن باب الحرب المشروعة باب كبير بل وموسَّع ، لدرجة أن النساء يؤخذنَ إماء مع أنهن لا يشاركن كلهن في الحرب عادة. وعلى هذا فكل سكان تلك البلاد سيكونون عبيد و إماء. لأنهم لم يثبتوا أنهم معنا. هذا الباب أوسع من أن يبيع أحد ابنه من الفقر او يعجز عن تسديد دين فيؤخذ عبدا. على أساس فكرة أنها دار حرب، وهذا شيء يشمل الجميع، المحارِب وغير المحارب، حتى لو كان عددهم بالملايين، ولا نجد في القرآن شيئا يشير إلى هذا ابدا، بل نجد في القرآن التعامل مع الأسير إما بالمنّ أو بالفداء، ولا شيء ثالث، وإتِّباع القرآن يجعلنا نسير دُبُر القرآن وليس أمامه، فالله خيّر بين شيئين، فقوله تعالى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء) كقوله (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) أي لا يوجد طريق ثالث في كلا الحالتين، وهذا ما يقتضيه الإتّباع، أي كأن الله خيّرنا بين أمرين لا ثالث لهما في هذا الخصوص، خصوص الأسرى والأسيرات، إن كنّ مشاركات في الحرب. وقد قال تعالى (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) وهذا ما أُنزل إلينا من ربنا، ولا زلنا نتكلم عن القرآن وما والاه، وهذا حَسْبُ المؤمن، فالله قال (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ). فالله لا معقب لكلماته، والتعقيب يعني الاضافة والتصليح.

في قوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}[الأحزاب:50] . هذه الآية تبين من يَحِلُّ للرسول أن ينكح منهن، وهي طبعا لا تعدِّد كل زوجاته وما ملكت يمينه، فقد لا يكون له ملك يمين، ولكن يجوز له، وقد لا تأتي امرأة مؤمنة تهب نفسها له، ولكن يجوز له، بدليل أنه لم ينكح كل بنات عمه و بنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته، فهذه الآية تُبيِّن من يجوز للرسول أن ينكح. وقوله تعالى (وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ) داخل في هذه الإجازة، وقوله تعالى (مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ) أي مما رزقك الله، وليس شرطا أن تكون سبيَّة من حرب، وهذا داخل في تحديد الله لنوعي النكاح، وهو نكاح الحرة أو نكاح الأمة المذكور في الآية الأخرى : {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم}[النساء:25] ، والرسول داخل في هذا التشريع أيضا. إن هذه الآية مُفصَّلة، وبقيّة الآيات التي تذكر ما ملكت اليمين متشابهة، مثل آية {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين}[المؤمنون:6] . والمتشابه يحكمُه المفصل. وقال تعالى (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) فهناك اذن فريضة في نكاح الإماء، وهي التي ذكرت في الآية : (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) اذن هناك فريضة في الدخول على الإماء، والشراء ليس فريضة. بدليل أن مجرد الإمتلاك لن يجعلك تدخل على عبدة متزوجة بزوج، ولا يجعل المرأة تدخل على عبدها لأنه ملك يمينها، اذن النكاح أقوى وأحوط من ملك اليمين.

وقوله تعالى {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا}[الأحزاب:51] هذه الآية تدل على قبول الزواج من عدمه، فقوله (تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ) أي لا ترغب الزواج بها، وقوله تعالى (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء) أي تقبل الزواج بها، وقوله (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ) أي على الرجوع عن عدم الزواج إلى القبول به. ولا تدل على أن الآية تتحدث عن القَسْم في المبيت، لقول الرسول لذي الخويصرة (ومن يعدل إذا لم أعدل أنا) عندما قال له (إعدل يا محمد)، فرسول الله عادل في كل شؤونه حتى مع زوجاته، والله قال لرسوله (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ)، أي ان الرسول حريص على رضا زوجاته، وعدم العدل في المبيت لا يسبب الرضا، وبدليل المرأة التي وهبت نفسها، وأكيد أنه شرف لأي امرأة أن تتزوج رسول الله، بدليل قوله (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء)، وهذا يدل على ان الرسول يُخطب هو نفسه للزواج، والله ذكر ما أُحِلّ للرسول وليس الكلام عن زوجاته حتى يكون التخريج على العدل في القَسْم والمبيت.

وقوله تعالى (خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي أن هذه المرأة الواهبة نفسها لا ترغب بغير الرسول زوجا، وربما لا تتزوج إن لم تحصل لها هذه الأمنية، والتاء في "خالصة" تعود على المرأة وليس على حالة وهب النفس حتى تكون حالة تمييز، وإلا فأي امرأة تهب نفسها لرجل رغب بها فيتزوجها، وليس هذا محرما على المؤمنين. لو كان هذا الخطاب خاصاً بالرسول فقط لحُرِّم على غيره أن يتزوجوا من بنات أعمامهم او بنات عماتهم الخ .. ما ذُكر في الآية ، بدليل أن المحرَّمات على المؤمنين محرَّماتٌ على الرسول ايضا، قال تعالى (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً) فهذه الآية تثبت أن الرسول قدوة في التشريع للمؤمنين، كذلك من التشريع ألا يبدِّل الرجل زوجته بزوجة أخرى فقط لأن الأخرى أجمل منها خلقة وأحدثُ شبابا، لقوله تعالى (لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا)، لأن التشريع للرسول هو تشريع لنا، فالله يشرّع من خلال خطاب الرسول للمؤمنين، ويشرّع للرسول من خلال خطاب المؤمنين أيضا، فأي خطاب للرسول هو خطاب للمؤمنين، وأي خطاب للمؤمنين هو خطاب للرسول. أما التشريع الخاص بالرسول فهو الخاص ببيته ومتطلبات دوره، مثلما تُخصّص ميزات لمدير شركة أو أن تُصرف سيارة للموظف الذي يعمل بشكل ميداني دون الموظفين المكتبيين، فهذا تفضيلٌ مخصوص بوظيفة أو دور، فدوره تكليفي وليس تنعيماً، فلاحظ المخصَّصات بالرسول مثل أن أزواجه لا يتزوجن بعده أحدا، وذلك لأنهن أمهات المؤمنين، وقد خيّرهن الله من قبل أن يبقين او يسرّحهن سراحا جميلا، فآثرن البقاء مع الرسول. والمؤمنون أصلا لا يجرؤ أحد منهم ان يفكر ان يتزوج زوجة رسول الله ويحل محله. وكذلك الفيء و كون خُمُسِه للرسول مع المساكين والفقراء وغيرهم، فهذا بسبب الدور الذي يقوم به الرسول، فهو مشغول ولا يملك وقتا لكي يعمل ويكسب مثل بقية الناس، هذا غير أن بيته مقصود وتأتي إليه الوفود، فيحتاج أن يصرف عليهم. ومثلما ان الرجل والمرأة لهم نفس التكاليف في الاسلام، ولكن الاختلاف يأتي من اختلاف الوظيفة والدور، فالرسول والرجل والمرأة كلهم مُجازَون إن أحسنوا ومُعاقَبون إن أساءوا. لكن لا بد من بعض الاختلافات التي تحتّمها الوظيفة والدور. لكن في الأمور المشتركة فالحكم واحد للجميع.

وأما القول بأن الأمة تُكرّم إذا ولدت من سيدها ولدا فتصبح أم ولد، فهذه نظرة من زاوية ابنها، ولكنها ليست نظرة من زاويتها هي، فإذا كان العدل بين الزوجات من أجل احترام مشاعرهن، فهذه الأمة ليس لها أي قسم ولا تدري متى تباع وتشترى، كأنها في مهب الريح، والمجال مفتوح لسيدها أن يشتري آلاف الإماء ويتسرّى بهن، و كونُ نومها مع سيدها تشريفٌ لها لأن سيدها - في تلك اللحظة فقط - يعاملها كزوجته الحرة، اذن حتى الزانية ستشعر بنفس هذا الشعور، فهو يساويها بزوجته في تلك اللحظة. ثم وَلَدُها هذا : ما نصيبه من أبيه الذي قد يلد مئات الأبناء من مئات الإماء؟ أين يتربى وأين بيت العائلة والاستقرار؟ أليس في هذا تفريط؟ وإلا لماذا القرآن حدد أربع زوجات؟ طبعا هذا لمراعاة الأسرة والأطفال ومشاعر النساء، ولم يفتح المجال للزواج من العشرات، ولكنه بنفس الوقت يفتحه على مصراعيه في مجال الإماء ! فهل هذا معقول ؟ لو كان هذا خير لفتحه في مجال الزواج، لأن الاصل هو حالة السلم وليس حالة الحرب، والخير يجب ان يكون في حالة الأصل. إن الإماء نساء وأطفالهن كأطفال الحرات يحتاجون لجوٍّ أًسري و أب و أم، هنا لا يوجد منطق، فمن جهة نجده يحدد من الحرّات و من أخرى يُطلق اليد في الإماء وبدون زواج ! هذا سيكون تشجيعا لعالم الرق، لأنه قيَّد في الزواج وأطلقَ اليد في الإماء. وهذا مزعج جدا لمشاعر الزوجات أن يمارس زوجهن الجنس مع مجموعة من النساء يشتريهن من الشارع بلا عقد نكاح ولا إعلان ولا شيء. إن هذا يسهّل فكرة الزنا أصلا، بل إن الزنا يكثر مع كثرة وجود الجواري، لأن الأمة لا تجد فرقا كبيرا بين الزناة وبين الأسياد الذين يبيعونها ويشترونها ما دامت محرومة من الزواج المحترم. و اعتدنا من الإسلام تقديمَ أحكامٍ تسبق حتى القوانين الدولية في إنسانيتها، فهل يعقل أن تكون القوانين الوضعية التي تحرِّم الرق والعبودية أفضل من الإسلام وأكثر إنسانية مع العبيد والإماء؟ لا يمكن . لكن النظرة إلى أن القرآن سد باب الرق وتعامل بلطف مع الأرقّاء الموجودين وطالب بتزويجهم وإعتاقهم، هذه النظرة تجعل تشريع الإسلام أرقى من القوانين العصرية في التعامل مع العبيد، لأن تلك القوانين العصرية منعت الرق وأطلقت العبيد بالقوة وسط صراخهم وصراخ أسيادهم وبدون تعويضات، وسببت هزات اقتصادية للمستثمرين الذين كانوا يعتمدون على العبيد، وفرّقت عبدا أو أمة عن سيدهم وهم يحبونه بقوة القانون، الإسلام لم يفعل هذا ولم يدعُ إليه. هذه النظرة أجمل وتجعل المسلم يقف بموقف قوي وهو يدافع عن الإسلام في شبهة العبيد التي يكررها أعداء الإسلام بالنيل منه وتشويهه ليل نهار، وخصوصا الإماء التي يُدخَل عليهن بلا نكاح ولا استئذان ولا إعلان، فقط بمجرد البيع والشراء، كصفقة تجارية، وهي نظرة مسنودة بآيات القرآن. والله أمرنا أن نستمع القول فنتبع أحسنه وأقربه إلى الفضيلة والعدل. وهذه النظرة هي الأجمل على الإطلاق في التعامل مع العبيد، لأنها لا تفسد حياة أحد وترميه بالشارع وبيوت الصفيح كما فعلوا بالعبيد.

وإذا كان الرجال مُستَرَقّين بالأسر لأنهم قاتلوا المسلمين في الحرب، فما ذنب نسائهم وأطفالهم أن يُؤخذوا رقيقا؟ وأين السند والدليل من القرآن ؟ لا يوجد. بل القرآن يأمر بالعدل وقال (اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى). العدل مع الإنسان وإنسانيته، وأن يجازى كلٌّ بما فعل ولا يؤخذ الجار بذنب جاره.

إن استرقاق الأسرى وسبي الأطفال والنساء والتسرّي بهن، هذا الكلام ينطبق على الحضارات الاخرى، كالفراعنة مثلا او الهكسوس والرومان واليونان، ولكن العرب قبل الاسلام لم يكن هذا شائعا بينهم في حروبهم، بدليل الحروب الطويلة الحاصلة بين الأوس والخزرج مثلا، فهل كان الأوس يسبون نساء الخزرج ويسترقون رجالهم و هم في مدينة واحدة؟ أو العكس؟ بل إرجع للأدب الجاهلي والتاريخ الجاهلي، لن تجد إلا حالات شاذة وقليلة جدا من الاسترقاق، وإلا لكانت القبيلة المنتصرة تأخذ كل أبناء ونساء و رجال القبيلة الأخرى كرقيق وسبايا وتعطيهم إسمهم ، وبالتالي تنقرض قبائلهم ! فهل كانت حرب البسوس أو داحس والغبراء المستمرتان كلاً منهما لأربعين سنة يسترقون بعضهم بعضا ؟ وهل ترضى أنَفَة العربي أن يرى أخواته وبناته سبايا ؟ هل يحتمل أن يعيش؟ اقرأ عن أنفة العرب وكيف قتل صاحب المعلقة المشهورة "عمرو بن كلثوم" الملك "عمرو بن هند" فقط لأن أمّ الملك طلبت من أمه أن تقدّم لها حذاءها، ولم تتخذها عبدة، فصرخت : وا عمراه !!  وا ذلاه !! فأخذ سيفا معلّقا في خيمة الملك وقتله به وأخذ أمه وفرسه وانطلق يهدر بقصيدته :

ألا هُبّي بصحنك فاصبحينا .. ولا تبقي خمور الأندرينا
بأي مشيئة عمرو بن هند .. تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
ألا لا يجهلنّ أحدٌ علينا .. فنجهلَ فوق جهلِ الجاهلينا

هل يُتوقع من مثل هؤلاء أن يكونوا أرقاء عند غيرهم؟ ومن العرب أيضا ؟ هذا هو الذل والعار الذي لا بعده عار. لو كان هذا موجودا وشائعا عند العرب، لما أقيمت الأسواق للمفاخرات، والعرب ليس عندهم ما يفخرون به سوى أنفتهم وعزة أنفسهم و صونهم لأعراضهم. وكذلك ما حدث مع الشنفرى وكيف رفض العبودية عند بني سُلامان وقتل منهم مائة، فقط لأنه كان غليظ المشفر، فظنوا انه زنجي واستعبدوه، لكنهم لم يستعبدوا قبيلته، وآثر حياة الصعلكة ولا حياة الذل. يقول :

أقيموا بني أمي صدور مطيكم .. فإني إلى قوم سواكم لأميلُ ..

وقوله : بما استعبدوني لأقتلنّ منهم مائة .. كذلك معركة خزاز لم يُذكر فيها اتخاذ رقيق.

نعم تقع بينهم إغارات وسلب ونهب خصوصا بالابل، لكنهم يحذَرُون الأعراض والاقتراب منها. لأنهم يعرفون انه سيجري عليهم مثل ما يفعلون بغيرهم. إذ أن لديهم أعراف تحكم صراعاتهم وحروبهم. ولو كانوا يأخذون أعداءهم المهزومين كلهم عبيدا لما اضطروا لخطف الأطفال والضعفاء واسترقاقهم.

وهل تسبى بنات قبائل الجزيرة الحُرَّات ويُتسرى بهن ؟ هذا محال أن يكون عند أُباة الضيم، ولا يمكن أن يُتوَقع عقلا، إلا في حالات نادرة و فردية، لأن الضعفاء والمنبوذين ليس لهم من يحميهم، أما أن يُفعل هذا ببنات قبائل كبيرة وتملأ الفضاء بفخرها واعتزازها بنفسها فهذا شيء مستحيل. والمعلَّقات ليس فيها ذكر للسبي والاستمتاع بنساء القبائل، بل هي مليئة بالتعفف. بل إن الزواج لا يتم بسهولة، فكيف بالسبي؟ بل إن العرب لا يهجون بعضهم بعضا بإبن العبدة أو إبن المسبية، ليس عندهم تعيير بسبي النساء، وهذا غير موجود في الأدب الجاهلي.

وبخصوص قانون معاملة الأعداء بالمثل، بحيث إذا استرقوا أسرانا نسترق أسراهم، فهذا القانون لا يستخدم على إطلاقه، فلو قتلوا أطفالنا فهل نقتل أطفالهم؟ ولو حرقوا أسرانا هل نحرق أسراهم؟ هل نكون مثلهم؟ المعاملة بالمثل على إطلاقها تنتج المِثل، ولا يعود هناك تميُّز للمؤمنين على الكافرين، ولكن الله قال (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) أي لا تُجارُون الكافرين في أعمالهم ومنكراتهم، ومن ذا يعضّ الكلب إن عضَّ ..

وإذا كان وطء السيد لأمته تكريم وتشريف وإعفاف لها، فلماذا لا يتزوجها ما دامت مؤمنة ويحصل مع الخير خيرين؟ ما المشكلة؟ أما أن يُقتل أهلها وتتفرق أسرتها وتوطأ بدون عقد نكاح وتباع وتشترى، إذا كان هذا هو الإكرام فلا ندري ما هو الإذلال .. على الإنسان أن يتصور و يضع نفسه في موضع هؤلاء ليعرف إن كان ما يجري عليهم تكريما أم لا . لهذا السبب الله سبحانه وتعالى حثّ على إعتاق الرقيق مع أنهم ملك يمين، ولم يٌطالب بإعتاق الأشياء الأخرى التي تملكها اليمين، فإذا كانت العبودية شيئا حسنا فلماذا يُطالب الله بإعتاق الرقيق ويجعله في الكفارات، بل و في الزكاة؟ بل و أحد شروط اقتحام العقبة ؟ وإذا كان الله يكره شيئا ويريد له أن ينقضي ، فمنطقي أنه سيجفف منابعه كلها.

وكيف تكون معاملة الأمة معاملة كريمة بينما مفتوحٌ لسيّدها ما لا نهاية له من عدد الإماء مثلها ؟ هل يستطيع السيد الواحد أن يعفّهن كلهن؟ ثم أليست تعامل معاملة كريمة؟ أليس في سبيها والتسري بها تكريمٌ لها كما يقال ؟ هذا السيد لن يقدر مهما كان أن يقضي وطر كل تلكم المملوكات، وهذا من اسباب انتشار الزنا، وكتب الأدب في العصر العباسي تطفح بصور هذا المجون الذي انتشر في المجتمع بسبب كثرة الجواري.

لماذا ينفتح للأمة باب العتق؟ هل تنعتق من التكريم؟ هذا تناقض. إن كون أم الولد لا تباع فهو من أجل اكرام سيدها وسمعته وليس لأجلها. إن وجود الجواري وكثرتهن وكونهن بلا أزواج من أسباب إشاعة الفواحش، نظرا لحاجة المرأة للحب و هي ليس لها قَسَم ولا نصيب محدد من مالكها، فيستطيع أن يأتيها مرة ويتركها طويلاً لأن لديه مئات غيرها، هذا غير زوجاته، والمرأة تحتاج، فينفتح بابٌ للفساد. أما موجب كلام القرآن فلن يكون هناك فساد، فالأمة إما أن تتزوج من سيدها أو يزّوجها لرجلٍ حرٍّ لا يستطيع طولا أن ينكح المحصنات الحُرَّات، أو يزوّجها من عبد آخر، وهذا هو الطريق الذي يقضي على الفساد. والأصل أن الابن لا ذنب له بقتال والده للمسلمين، وبالتالي لا يكون عبدا وقد خلقه الله حرا، تماما مثل ولد الزنا، لا ذنب له بما فعل أمه و أبوه، هذا هو العدل الذي يأمرنا الله به. قال تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ).

أما أن يكون ابن الأمة من سيّدها حرا و ابنها من عبدٍ آخر عبداً فهذا ظلم، والسبب هو لكي لا يلحق السيد عارٌ أن يكون ابنه عبدا، وليس رحمةً به أو بأمه، بينما ابنها المولود من زواجها بعبد يحوّله إلى عبد أوتوماتيكيا ! هذا باب لاستمرار العبودية بالتناسل، بينما القرآن حرص على إنهاء العبودية، والله يأمرنا بالعدل ويجب طاعة أوامره. الله لا يرضى أن يستعْبِد المسلمُ مسلماً آخر، والرسول يقول (كفى المسلم شرا أن يحقر أخاه المسلم) فما بالك أن يستعبده؟ وقال (كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه) والرسول يقول أن الناس في الإسلام سواسية كأسنان المشط. ورسول الله يقول (لو دعيت إلى مثل مجلس ابن جدعان لأتيته) لأنه كان مجلسا في المعروف، وقال عمر : لا سبي في الإسلام . ونحن في عصرٍ ألغتْ الدول فيه العبودية، فلماذا لا نُبارك هذا ونشجعه؟ والقرآن بين أيدينا، ونترك ما كان في الماضي في الماضي، لأن الله أمرنا أن نتَّبع الأحسن والأفضل، والإسلام دين الحنيفية، أي الميل للخير، وترك الخطأ حتى  لو كان مشهورا وكثيرا وشائعا.

لم نر الغرب يسبق الإسلام في أي فضيلة، فكيف يسبق الغرب الإسلام في فضيلة تحرير العبيد؟ هذا لا يمكن، فالقرآن هو السابق، ولكن بطريقة ألطف على الطرفين. والإسلام الحقيقي هو دين حقوق الإنسان الحقيقية التي تحفظ الإنسان حتى من نفسه، و كون الرق موجوداً في الماضي فهو بسبب التجارة والعادات التي كانت موجودة في كل العالم وليس لأنه حق، والقرآن تكلم عن الأسرى في الحرب ولم يسمّهم عبيدا، وقد كان يستطيع أن يسميهم عبيدا، و الفرق لُغوياً معروف بين كلمة أسير وكلمة عبد و رقيق . و رسول الله أطلق القرشيين في فتح مكة ولم يعاقبهم فضلا عن أن يسترقّهم، فلماذا لم يعاملهم بالمثل ؟ السبب لأنه يتبع الأحسن الذي حث عليه القرآن، وعلينا أن نقتدي به، بإتباع الأحسن في كل أمر.

وأما القول بأن الزواج من الإماء ممنوع في الشرع إلا لمن لم يستطع الزواج من الحرات وخشي على نفسه الوقوع في الحرام، فهذا غير صحيح ولا دليل عليه ولا أخلاق فيه، ويدعو هذا الكلام للتفرقة والطبقية والعنصرية، الله قال (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) فالموضوع ليس حول تحديد من تتزوج، بل يعالج مشكلة الشباب الذين لا يملكون مال لتزوج الحرات، وغير قادرين على الصبر، بدليل أن الخيار الثالث في الآية هو الصبر، ولو استعملنا نفس القياس المستخدم في هذا القول، فما دمت تستطيع أن تصبر فحرام عليك أن تتزوج إماء أو غيرهن ! وإن تزوجت أمة فحرام عليك ان تصبر! هذا مثل قوله : إذا استطعت ان تتزوج حرة فحرام عليك أن تتزوج أمة. وهذا القياس فاسد، لأن المَقِيْس عليه خاطئ. وما ورد في الآية ليس دليلا على تحريم الزواج من الإماء اذا كان الزواج من الحرة مُستطاع، وبناء على ذلك القياس سيكون الصبر أفضل من الزواج من الحرة والأمة، وهذا يدل على خطأ القياس.

وأما القول بأن نكاح ملك اليمين يكون من إماء الغير وليس من إماء الشخص نفسه فهذا تخريج بلا دليل، فالآية تقول (فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) ولم تقل (ملكت أيمان غيركم)، وإن قيل أن المقصود هم المؤمنين عموما، فهل ما تملكه يمين مؤمن تملكه يمين المؤمن الآخر؟ هذه الآية مفصلة في موضوع النكاح مما ملكت اليمين أو من الحرات، ومفصّل القرآن يبيّن متشابهه، وهي آية ملزمة بالإتباع، لأن القرآن يجب أن يُتَّبع كله بدون تأويل ولا تصريف ولا زيادة ولا نقص. قال تعالى (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) ونهى عن التعضية.

و في قوله تعالى : (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) فالعنت هنا ليس الزنا كما ذهب إليه بعض المفسرين؛ لأن العنت يعني الشدة والحرج خوفا من الزنا، قال تعالى (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) أي ما شق عليكم وليس ما زنيتم.

وفي آية (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) ، لم تدل الآية على أن السيد فقط هو أهل الأمة، فقد يكون لها أهل و هي أمة يملكها، أو لها مُلاّك سابقون أو حاليون، بمعنى إن كان لها أهل حقيقيون فيذهب يستأذنهم، وإن لم يكن لها أهل وكان لها سيد فيستأذن سيدها، وهذا من إكرامهم و رعاية حقهم، كما قال تعالى في آية أخرى (ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ) فالله يحب القسط والعدل، ويكره الاحتقار والظلم. وإذا كان السيد يريد أن يتزوج مملوكته، فهل يستأذن نفسه كونه أهلها ؟ الآية قالت كلمة (أَهْلِهِنَّ) ولم تقصرها على مُلاّكِهِنّ فقط، نعم يمكن أن يكون داخلا في هذا الكلام ولكن ليس حاصرا له. فإذا لم يوجد لها أهل مثلا فأسيادها هم أهلها، وهذا معقول.

وقد قال تعالى في من لم يستطع طولا أن ينكح المحصنات الحرات ويريد النكاح : (فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم)، و ملك اليمين هو مما ملكته أنت او مما ملكه أخوك، ولا يوجد مُحدِّد في الآية يحدد أن ينكح الرجل من ملك يمين غيره فقط، و لا أن لا يحل له أن ينكح ملك يمينه هو، فإذا كان سينكح ملك يمين غيره و لديه هو ملك يمين، وهو فقير، فمن باب أولى أن ينكح ملك يمينه هو. والقول بأن المقصود من الآية هو ما ملكت يمين غيره وليس ما ملكت يمينه هو، بحكم أن المؤمنون أخوة ومصالحهم ومنافعهم متحدة، فهذا غير وارد ولا مُشار إليه، وعلى هذا الحال من الأخوّة، فلماذا يغالون في المهور عليه ما داموا أنهم متحدين في المصالح والدين مما يضطره أن ينكح الأمة؟

ملك اليمين ليس قيدا جامعا مانعا كالزواج، فالزواج أقوى منه، فإذا كانت الأمة يحرُم وطؤها على المالك إذا هو زوّجها، فهنا يكون لها مالك ولها زوج في آن واحد، و ملك اليمين يبيح وطئها والزواج يبيح وطئها، ولا يوجد تشريع مثلا يلغي تشريع آخر، وهذا يعني ان وطئها بحجة ملك اليمين أضعف من حجة النكاح، لأن النكاح غلَبَ ملك اليمين في هذه الصورة. فكيف اثنان كلاهما لهما الحق في الوطء فيغلب احدهما الآخر؟ كأن تقول أنك تملك هذا الشيء وليس لأحد شراكة فيه معك، ثم يأتي آخر يملكه بصفة أخرى أقوى من صفتك!

إذا كان وطء السيد لأمته حق له، و وطء المتزوج لزوجته الأمة حق له، فكيف يُبطِل حقٌّ حقا آخر؟ الحق لا يبطله حق، والحق يبطل الباطل. والحقائق لا تتعارض، فالحق لا ينقضه حق آخر. بمعنى آخر : الحقوق لا تنقضها حقوق أخرى. فالبيع إذا كانت شروطه سليمة لا شيء ينقضه، والزواج نفس الشيء، لا شيء ينقضه، والعهد والاتفاق لا شيء ينقضهما، إذن لماذا الدخول بملك اليمين ينتقض إذا زوّجها سيّدها؟ 

لا يوجد مُسوِّغ لأمر معين ويأتي مُسوِّغ آخر فيلغيه، فما دام أن الشيء ملكك فسيستمر ملكك. و كون السيد يملك الأمة فلا يستطيع أحد أن يحل محله بالبيع أو الهبة، لكنه يملك البَضُع، وعندما يأتي آخر بصفة الزواج، فحينها يملك البضع، بينما السيد يملك الجسم، والزوجة الأمة ستحتار هل تطيع زوجها، أم تطيع مالكها ؟ وإذا كان بينهما تضارب ، ماذا تفعل ؟ هل تقسم نفسها قسمين؟ إن الخروج من هذا الإشكال هو بتغيير الفهم، أن يكون المالك يملك النفع والمهارات والعمل فقط، إلا إن شاء أن ينكحها. إن إباحة الوطء للسيد بدون نكاح سببت إشكالات كثيرة وكبيرة، وسببت تناقضا في المنطق والفقه، لأن هذا شيء لم يذكر في القرآن ، المذكور هو نكاحهن ولم يذكر وطئهن بدون نكاح. بل إنه يقال أن بيعَ الأمة طلاقٌ لها من زوجها، فهل يتزوجها مرة أخرى من كل سيد جديد يشتريها ؟ وإذا كان زوجها حرّاً ممن لم يستطع الطول، هل تطلُق منه بعد أن كوّن نفسه ؟ وماذا عن مصير الابناء؟ هل يتبعون الزوج ابوهم أم يتبعون مالك أمهم؟

الفهم الخطأ لا بد أن يصطدم مع كثير من الأمور، والله أمرنا باتباع الصراط المستقيم الذي لا يصطدم بشيء. فالصحيح أن السيد يملك أمته، وهنا لا مشكلة ولا اصطدام، ولكن أن يُباح له وطئها بدون نكاح فهذا سبب إشكالات وتضاربات، فالمرأة التي تملك عبدا هو ملك يمينها، ولكن هنا لا يعمل ملك اليمين ولا يحق له أن يطأ سيدته، والأمة التي يُزوّجها سيدها أيضا تُوقِف دخوله بها. أيضا قوله تعالى (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) يتعارض مع فكرة أن العبد وما يملكه لسيده، بل يثبت أن للعبد ملكا خاصا، بدليل أن الله شرّع له أن يكاتب سيده بالمال، إذن فكرة أن العبد وما يملكه لسيده ليست صحيحة، بموجب القرآن، فالسيد يملك خدمات العبد و وقته، فهل إذا ورثَ العبد من أهله الأصليين فهل يأخُذ سيده ورثه؟ وهل ممتلكاته الخاصة أيضا ملك لسيده؟ هذا إنهاء له ولكرامته.  

وقد قيل أن الأمة إذا زنت وهي لم تتزوج بعد فلا يقام عليها حد الزنا ولا حتى نصفه، بل يؤدبها سيدها فقط ولا يقام عليها الحد لكونها "مبتذلة" ، وهذا كلام غريب وخلاف لما سبق قوله أنها مُكرّمة، فهذا القول يرى أن الأمة الغير متزوجة ليس لها عقاب اذا زنت، وهذه الفكرة تنشر الزنا، لأنها تزني ولا تُعاقب بالحد، فقط تُعاقب إذا تزوجت حرّا ! فكأنها تُعاقب لأجل سمعة زوجها فقط وليس لأجلها هي أو لأجل قطع الزنا وحماية الفضيلة، بينما القرآن يقول (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ)، وقد خُفف في حق الأمة لأنها مستضعفة، فقد يزني بها أحد أقارب سيدها بالقوة، وليس لأنها مبتذلة.

الإسلام ضد الزنا ولا يمكن أن يبيحه لأحد دون أحد، وبموجب ذلك القول فإن الأمة إذا لم تتزوج حرا فلها أن تزني دون أن تُعاقب حداً، وهذا كلام خطير في الإسلام. كل الأحكام المتعلقة بالإماء يُنظر فيها لمصلحة السيد وسمعته فقط، فإذا ولدت من سيد يصبح ابنها حراً، وإذا ولدت من زوجٍ عبد يصبح ابنها عبدا! بينما القرآن يأمر بالعدل والإنصاف، وأمر أن تُدفع لهن مهورهن وأن يُستأذن أهلهن وهن عبدات، تماما كالحُرّات، وأما نصف العقاب فهو لأنها مغلوب على أمرها، ومتعودةٌ أن تُؤمر وتطيع، وليس أمرها بيدها، بينما الحرة على خلاف ذلك، فرحمة الله مصاحبةٌ لكل تشريع من تشريعاته سبحانه.

والقول أن الأمة عادةً مبتذلة في الإسلام كلام خطير أيضا، بل إن القرآن احترمها وأعزّها و رغّب باعتاقها، ومن له رغبة بالزواج منها يتزوجها ويدفع لها مهرها كما الحرة، ويستأذن أهلها كما الحرة، هذا إذا كان المرجع هو القرآن، ولكن إذا كان المرجع هو السلوك والتراث وعادات الناس، فعادات الناس ليست دائما مرجعا. الإسلام جاء ليغيّر العادات لا أن يخضع لها. والأصل في الإسلام أن المسلمون خير أمة أخرجت للناس، و كون أمة من الأمم أفضل منا في أي تعامل فهذا علامة على نقص وسوء فهم لقرآننا وهجرنا له، وإلا فاتباع القرآن يجعلنا خير أمة اخرجت للناس، لا في التعامل في موضوع العبيد ولا في غيره.

وأما القول بأن الحرائر يصعب عليهن الزنا، وأنه أيسر للإماء لكونهن بلا أب أو أخ أو أسرة، فكذلك الحرائر قد تكون بلا أب ولا أخ ولا أسرة، فهل يجوز لها الزنا دون عقاب؟ ومن السبب في كونها بلا أب ولا أسرة ؟ لقد كان لها أب وأسرة ولكنها أُخذت منهم، هذا كلام طبقي، والإسلام لا طبقية فيه، ولا أحكام فيه للسادة وأحكام أخرى للعبيد، هذه الأمور موجودة في الحضارات العلمانية القديمة.

وأما القول أن مقصود قوله تعالى (وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ) هو أن الصبر من أجل نكاح الحرائر أفضل من عدم الصبر ونكاح الإماء، فهذا ليس صائبا، إن قوله تعالى (وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ) ليس يعني أن الصبر خير من الزواج من الإماء و من الحرائر، بل لأن الصبر خير الأمور كلها. فالصبر دائما خير، و لا علاقة له بموضوع الزواج، فلما ذكر الصبر أراد أن ينبّه لقيمة الصبر بشكل عام، وليس أن الصبر عن الزواج من الإماء أفضل. فالله في الآية قدّم الصبر كحلّ في عدم القدرة على الزواج بنوعيه من الحرائر او الإماء، وبيّن قيمة الصبر بشكل عام.

لا علاقة بين الرجل والمرأة إلا بالنكاح، في الدنيا وحتى في الآخرة، فالله يورث الصالحين الجنة، (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) أي يملكونها وما فيها، بما فيها الحور العين، ومع ذلك يقول تعالى أنه يزوّجهم بهن (وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِين) ولم يقل أدخلناهم أو ملّكناهم الحور العين. أيضا الرجل له طاقة محدودة، بينما الباب مفتوح أن يمتلك ما لا حصر له من النساء، والنساء لا يستطيع أن يشبعهن رجل واحد.

وأما القول بأن الآيات (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون}{إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين) أباحت الوطء بالنكاح وبملك اليمين بدون نكاح، فالرد عليه أن آية (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم) فصّلت في موضوع ملك اليمين، وجعلت النكاح على نوعين، إما من حرة أو من أمة، ولو كان هناك طريق ثالث لذكرته الآية. و في الآية التي تليها قال تعالى (فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) أي تكرر اللفظ نفسه في الآية الأولى، ولكن الأولى بدون تفصيل والثانية بتفصيل، وهو (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، فتلك الآية تكمل هذه الآية. هذا يشبه التعامل مع آيات القتال، مثل من يأخذ آية (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ) أو آية (وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً) ثم يقول أن الإسلام يأمر بقتل أي أحد غير مسلم، متناسيا الآيات الأخرى المحددة، كقوله (كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً) وقوله (وَلاَ تَعْتَدُواْ) وقوله (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين) وهنا يتحدث عن كافرين، فمتشابه القرآن يبيِّنه مفصّل القرآن. وآية (إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) هي عرض لصور النكاح، إما من حرة أو من أمة، ولكلٍّ وضعه. وإلا لما وجّه من لا يستطيعون طولا بأن يتزوجوا الإماء بإذن أهلهن وإيتائهن مهورهن، ولقال : إما ان تتزوجوا حرائر أو أن تطئوا إماء تملكونهن، لاحظ قوله (فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم)، أو لاكتفت الآية بـ فمن لم يستطع منكم طولا فمن ما ملكت أيمانكم، وكفى، لكنه بيّن في الآيات أنه نكاح و بمهر وإستئذان اهلهن، ان كانوا اهلها الاصليين أو سيدها، فكيف أمة تتزوج وأمة تُوطأ بلا نكاح؟ إما كلهن على الأول أو كلهن على الثاني، وإذا كان الحكم في الأمة أن توطأ بلا نكاح، لماذا الله يأمر بأن ينكحوهن ويؤدون مهورهن ويستأذنون أهلهن ؟ كيف يكون للشيء الواحد حكمان؟ خصوصا وأن الضمير يعود إليهم هم، من ما ملكت أيمانكم ؟ والتحجج بأن وصف "ملكت أيمانكم" على أن المؤمنين أخوة، يعارضه قوله تعالى للنبي (وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ) ولم يقل (أيمانكم) . وهذا يدل على أن السيد يتزوج أمته إن أرادها أو أمة غيره.

لا يوجد في القرآن أحكامٌ للأسرى إلا المن والفداء فقط، ولم يرد أن الأصل فيهم هو إسترقاقهم وأن الفرع هو المن والفداء كما قيل، وإلا فهل يعقل ان يكون في القرآن فرعٌ أو هامش للشيء ولا يوجد أصله؟ وأما القول بأن أصل امتلاك الرق هو بالكفر ، فهذا لا دليل عليه من القرآن، بل توجد أدلة ضده من القرآن، كقوله تعالى {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين}[الكافرون:6] وقوله {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُون}[الزخرف:83]
وقوله (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) وقوله (أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُون) وقوله (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) إلى حوالي خمسمائة آية في تخيير الإنسان. وأن العقاب سيكون في الآخرة، لقوله تعالى (لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر) و (قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيل) و (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ) بينما يقال ان المسلمون يعاقبون الكفار على كفرهم باسترقاقهم واذلالهم، وهذا خلاف ما قال القرآن تماما. هذا حساب للناس، والله يقول (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ) فهذا القول مخالفة صريحة.

وقد أمر تعالى بالبر والعدل مع الذين لم يقاتلونا في الدين ولم يخرجونا من ديارنا و هم كافرون، فأين الأمر باسترقاق هؤلاء؟

ويقال أن الأسير "المُستَرقّ" إذا أسلم لا يزول عنه حكم الاسترقاق، بناء على قاعدة أن الحق السابق لا يلغيه الحق اللاحق، وهذا قياس خاطئ، وعليه يكون حق قتله لأنه كافر أسبق من حق استرقاقه، لأن كفره سبق إيمانه، فيجب حينها أن يقتل ولا يُستفاد منه كرقيق، بموجب هذه القاعدة. و وفقها أيضا لا تُقبل توبة أحد، ولا حتى إسلامه، لأن كفره سبق إسلامه، و كفره وما له من حقوق واستحقاق سبق إسلامه وما له من حقوق واستحقاق، وهذا القياس يلغي قاعدة أن الإسلام يَجُبّ ما قبله. الأحكام تتعلق على الأوضاع وليس بالبناء على السابق. قال تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) والله لا يحاسب على الأعمال السيئة السابقة إذا أسلم فاعلها و تاب.

وإذا كان الرق يعتبر من العدل في معاملة الكفار كما يقال، فلماذا يحث الله على الاعتاق؟ وما الشيء الآخر العادل والذي أمر الله بالتخلص منه وتصفيته؟ ثم كيف يحث الله على الاعتاق ويفتح الطرق أمامه، بينما يفتح بوابة عريضة له من خلال استرقاق الأسرى؟ هذا شيء غير موجود في القرآن.

ويقال أن الأسر من أظهر مظاهر الإسترقاق، وأن الأصل القديم فيهم هو إما القتل أو الإسترقاق، وأن الإسلام جاء و أضاف خيارين آخرين مع الخيارين الأولين، وهما المن والفداء. حسب هذا الكلام فهناك أربع خيارات : رق ، و قتل ، بينما القرآن لم يذكرهما، بل كان في الجاهلية كما يقال، والإسلام أضاف الخيارين الآخرين : المن والفداء ! الخيارين الأولين من الجاهلية ولم تذكر في القرآن، اذن بقي خياران في القرآن، وما ذكره القرآن واكتفى به هو الأصل وليس الجاهلية. كلام الله لا يضيف على أحد ولا يُضاف على أحد، لأن الله هو الأول والآخر، لا معقب لكلماته. وليس صحيحا أن الجاهلية لا عفو لديهم ولا فداء، فمنهم من يفدي ومنهم من يمن ومنهم من يسترق وهو الاقل، وليس استرقاقا دائما إلا في حالات نادرة، بل تأتي القبيلة المهزومة ليستردوا من سلب منهم من النساء والأولاد والأسرى أحيانا، بعد أن تكون القبيلة المنتصرة تشفّت من إذلالهم وأسرهم. لأن الإسترقاق وبيع الرقيق يفعله الملوك والاباطرة، كأباطرة الرومان والفرس، أما بين القبائل المتنافسة ماديا - وهي غارات وليست حروب ساحقة - فمنطقيا لا يستقيم أن يسبي أو يسترق بعضهم بعضا طول العمر، هم يسبون الإبل وليس النساء، لأن لديهم نساء أصلا. والصحراء مفتوحة، ويستطيعون الهروب، وأيضا أنفة العرب لا تسمح بأن تكون نساؤهم وبناتهم جواري و رقيق عند قبيلة مجاورة لهم، فهم يقيمون حروباً طاحنة لأسباب تافهة كإهانة أو كلمة مهينة أو خدعة في سباق، فما بالك أن يتخلوا عن بناتهم لقبيلة هي جارة لهم ثم يذهبون لسوق عكاظ ليتفاخروا؟ سيكون ذلك عارا عليهم. و الأوس والخزرج بينهم حروب طويلة، ومع ذلك لم يَسْبِ بعضهم بعضا.

القرآن سماهم أسرى، ولم يسمّهم عبيدا أو جواري، و رسم لنا خيارين، أولهما أفضل من الآخر، وهو المن، والآخر الفداء، والمسلم يجب عليه اتباع ما أُنزل إليه من ربه وليس ما تعارفت عليه الامبراطوريات أو الجاهليات. الخياران اللذان طرحهما القرآن أجمل بكثير من أفعال الجاهلية والإمبراطوريات، وتتناسب مع جمال الاسلام الذي يجب ألا تسبقه إلى الفضيلة أية حضارة أو ثقافة أو دين، حتى الحضارة الغربية يجب ألا تسبق الإسلام. ونحن في زمن ألغيت فيه العبودية ولن تعود مستقبلا والله اعلم، فعلينا أن نبارك هذا، و كل الحكومات الإسلامية وغيرها ضد الاسترقاق. والطاعة في هذا الأمر داخلة في طاعة ولي الأمر الذي يعاقب من ثبت أنه يبيع البشر أو يقرّ ذلك.

لماذا لم يأخذ رسول الله أسرى بدر مثلاً عبيدا طول حياتهم ولم يقتلهم ؟ أليست لديه أربع خيارات ؟ رسول الله يلتزم بالقرآن, لأنه مأمور أن يتّبع ما أنزل إليه من ربه. وهي المعركة الأولى التي انتصر فيها المسلمون بدون توقع أن ينتصروا، فلو كان جائزا أن يسترقهم لكان أولى أن يُسترقوا إمعانا في إذلال قريش خصوصا و هم يمنعون المسلمين عن الهجرة. وقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأسرى في غزواته، ومنَّ عليهم من غير فداء، وفي فتح مكة قال لأهل مكة : اذهبوا فأنتم الطلقاء . هذه سنة الرسول الكريم وهذا كلام القرآن، إذن هذا هو الإسلام، لا عبيد ولا جواري ولا استرقاق. رسول الله أكرم من أن يتشبه بالأباطرة المعروفين بظلمهم وسحقهم لخصومهم وأسراهم. بل كانوا يتسلّون بإدخال الأسود الجائعة على الاسرى الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة.

وإن قيل أن الأسير الكافر استحق الإسترقاق لأن في حريته فرصة لفشو الطغيان والاستعلاء على الآخرين ، والوقوف في وجه الحق ، ومنعه من الوصول إلى الناس، فهل كان تصرف الرسول خاطئ، لأنه منَّ على جبابرة قريش في بدر وبعد أن فتح مكة ؟ و هم المشهورون بعداء الرسول والصحابة وظلمهم وتكبرهم وتجبرهم؟ هل تصرُّف الرسول لم يكن سليما عندما فاداهم أو منَّ عليهم ؟ ألم يقتلوا حمزة وياسر وأمّ عمار وابن عمه عبيدة بن الحارث في بدر؟ لماذا لم يقتلهم صبرا لكي يحرق قلوبهم ويبث الرعب عند غيرهم ؟ هذه هي سنة الرسول : العفو مع المقدرة، واختيار الخير والسلم على الشر والعنف، بأبي وأمي رسول الله ..

يقال بأن الرق يستمر مع الأسير بسبب كفره ، ولكن لو أسلم وتحوّل إلى نصرة المسلمين يسقط هذا المبرر ويستبدل بمبرر آخر، وهو أن العبرة بالحق السابق، وهذا ساقط أيضا، لأن الحق السابق أن يُقتل لأنه كافر ومحارب، وكفره أسبق من أسره وإسلامه، وقاعدة أن الحق اللاحق لا يلغي الحق السابق ليست قاعدة مطردة، فالإسلام مثلا يجبّ ما قبله، والتوبة تجبّ ما قبلها. فلماذا توبة هذا الأسير لا تجبُّ ما قبلها ويعود مسلما حرا كأخوته المسلمين؟ هل المصلحة تدخلت في هذا الأمر دون غيره؟

وما ذنب النساء أن تُسترق؟ كيف أن الله يريد أن يصفي الرق وينهيه ويفتح له بابا عريضا؟ الحقيقة أن القرآن نزل والناس لديهم ملك اليمين، تعتمد عليه حياتهم، و هم أيضا يعتمدون على أسيادهم، فكان من العدل والرحمة أن يجفَّف منبع هذا الشيء الخطأ، لكن دون أن يتضرر أحد، فمن أراد أن يبقى عبدا فله الفرصة، ومن أراد أن يتحرر فله الفرصة بل عدة فرص، ومنها أن يكاتب سيده، وإن كان لا يجد مالا فيأخذه من مصارف الزكاة في الرقاب، وهذا أحسن من إلغائه فجأة فيتضرر الناس كما حصل في الغرب مثلا ، لأن العبيد تضرروا من تغيُّر حياتهم المفاجئ، وصاروا يعيشون في تجمعات و بيوت من الصفيح، وانتشرت بينهم السرقة والمخدرات، وتضرر مُلاك المزارع بفقدهم المفاجئ لعبيدهم الذين دفعوا فيهم أموالا طائلة بسبب صرامة القانون. الإسلام لم يرد أن تحدث هذه الهزة، هذا كل ما في الأمر.، وإلا لماذا الله يرغّب بإنهائه إن كان حقا وتكريما؟ فإذا كان حقاً وتكريما فلماذا تُرغَّب أن تتخلص من حقك؟ أنت تملك مزرعة وعبيد، والله طالب أن تعتق العبيد وليس المزرعة، وجعل من اقتحام العقبة فك الرقبة، فكيف يرغّب بالعتق ويرغّب بالإسترقاق بنفس الوقت ؟ لهذا قال تعالى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء). 

إن التسري لا أساس له في الإسلام ويعارض حقوق الانسان وحقوق الاسرة، التسري مأخوذ من السِّرِّية والسرور ، بينما الشارع أراد للزواج أن يُعلن حتى يبتعد عن شبهة الزنا. العلاقة الجنسية حددها القرآن بأن تكون بالزواج، حتى في الجنة هناك زواج بالحور العين وليس دخولا بملك يمين، واشترط لهذه العلاقة الإشهار حتى تبتعد عن الزنا، وفتح للشباب إن لم يستطيعوا زواج الحرات أن يتزوجوا من الإماء المؤمنات، واشترط دفع المهر لهن واستئذان أهلهن، لو كان التسري مفتوحا لذكرته الآيات. البيع ليس طريقا لملك إنسان، ولو امتلك إنسانا لا يستطيع أن يمتلك كل شيء فيه، وإلا لدخل التلاعب بالبيع وشروطه، ولأمكن السيد أن يبيع أعضاء عبده ما دام كله ملكا له، وهنا نقع في جريمة قتل النفس المحرمة والتي لا تبررها أن يكون المقتول ملك يمين ، والله توعد بالنار لمن قتل مؤمنا متعمدا، ولم يستثن عبدا او غير عبد، وهذا العبد رجل مؤمن، اذن قاتله مخلد في النار إلى أبد الآبدين، حتى لو كان قد اشترى خدماته، فهو لم يشتر جسمه ولا ذاته.

على ما سبق يستطيع السيد أن يبيع أمته لأحد يقضي وطره منها، ثم يقول أنه يرغب ببيعها ويشتريها النخاس أو أحد آخر منه، و تدور بينهم، بموجب عقود بيع صحيحة ! إذن عقد البيع ليس حاجزا عن الزنى، لأنه يمكن التلاعب فيه، لكن الزواج يحجز عن ذلك، لأن الزواج فيه إشهار ومبني على الاستمرار، أما البيع فليس مبني على الاستمرار. البيع لا يحجز عن صور التلاعب ، مثل ما يحدث بالتلاعب بالربا بإسم البيع. فيبيع النخاس عبداته على الناس فيشترونها ويتمتعون بها حتى يملّون ثم يبيعونها مرة أخرى على النخاس وهكذا، وقد تتم العملية بدون دفع مبلغ الشراء، على أساس المؤجل أو التجريب. وقد تتم المبادلة رأسا برأس، أي أمة بأمة ، بين الملاك، والمبادلة رأسا برأس من صور البيع، فيجرب الشخص كل يوم أمة جديدة أخرى وبعد فترة تتم المبادلة مع سيد آخر، ومع اسياد من مدن اخرى وهكذا، في حالة زنا مستمر، وهنا وقعنا في الزنا. هذا يعني أن البيع لا يحمي من استغلاله للزنا، لكن النكاح ليس كذلك. مثل مبادلة السيارات سيارة بسيارة لمدة شهر بدون مال، لأنها مال. هذا بالإضافة إلى ان النكاح يبطله الطلاق، وليس يبطله البيع. كذلك احتساب الإماء كأموال يوجب تفحص المشتري لبضاعته، وسيتفحص حتى ما تحت اللباس، لأنه سيدفع مال، فما بالك بمجموعة من الشراة الذين يتفحصونها ويلمسون عورتها، مع أن الإسلام أمر بغض البصر ولم يستثني ما ملكت الأيمان. هنا نقع في محظورات في الإسلام كثيرة وتناقضات، ككشف عورتها والأثر النفسي على المسكينة وأن يتفحص الرجال عورتها في السوق أمام الناس، وكون النساء في السوق يؤمرن بالتستر، بينما الإماء يكشّفونهن ويفحصونهن، مع أن كلاهما نساء ! والله امر بغض البصر عن النساء ولم يستثني فحص الإماء أثناء الشراء. هذه أمور لا إنسانية ولا إسلامية. والملك بالبيع والشراء لا يحمي من صور تجعله كالزنا كالمبادلة مال بمال أو الشراء بنية البيع، فما بالك إذا صار مجموعة يتفقون على هذا، ستكون الضحية كرامة هذه المرأة، وكيف نطالب بالعفاف والابتعاد عن تكشف عورات النساء، بينما توجد نساء في المجتمع مفتوحة للبيع والشراء ويتفحصها الشراة كما يريدون، هذا تناقض لا يتناسب مع الإسلام الذي أراد للمجتمع كله ان يكون عفيفا. فالتكشف والسفور ليس عورة فقط للحرات، بل هو للجميع. ولو اشتراها انسان عن بُعد لصار بيع غرر، وبيع الغرر محرم أيضا.

إن محاولة البحث عن الميزات فقط في التسري والتركيز عليها ينطبق حتى في الزنا. فلو بحثنا عن ميزات له لوجدنا هنا وهناك ونكتفي بها دون الإخبار بالمضار، حتى الخمر ذكر الله منافع فيها. أليس الأجمل والافضل أن يعقل الراغب بالزواج على الأمة ويدفع لها مهرا على سنة الله ورسوله ؟ أليس الزواج أحوط ؟ الله يقول : اتبعوا احسن ما انزل اليكم من ربكم، أي حتى من القرآن ، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول : فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه ولعرضه ، ولا شك أن الزواج هو الأحوط، هذا غير أن القرآن لم يتكلم إلا عن النكاح في القرآن، بل حتى في الجنة تزويج.

من إكرام الأمة ان يتزوجها الراغب بها كما أمر القرآن عندما تكلم عن من لا يستطيعون ان يتزوجوا الحرات، لا أن يدخل بها. ليس إكراما للإنسان أن يكون سلعة يفتشها البائع والمشتري، هذا قمة الإذلال، لهذا الإسلام منع الرقيق أصلا وعمل على تصفية الرقيق الموجود، بألطف الطرق، لأن الإنسان يولد حرا، ويجب ان يبقى حرا.  ولماذا لمّا صار أب الولد المولود من أمة حرا يثبت نسبه ويصير حرا كأبيه ، ولما تتزوج الأمة عبدا مثلها يصير ابنها عبدا ؟ لماذا التفرقة؟

الحقيقة أن الأمة والسريّة في الوضع المطروح عبارة عن سلعة تباع وتشترى، ولسيدها أن يفرّق بينها وبين زوجها ويأخذها ويتسرى بها ويدمر أسرتها، بل له ان يتبادل بها جواري من ملاك آخرين وتكون كل يوم عند واحد، ببيع شرعي.

و قيل أن من الحكمة الواضحة في التسري التأليف بين العنصرين المتفاوتين وهم السادة والعبيد بعلاقة نفسية جسمية، وتقريب بينهما، بينما التقريب ذكره الله بأن يمهر لها مهرا ويستأذن أهلها، هذا هو التقريب والتكريم.

وقيل أن من الحكم الظاهرة في التسري أنه خطوة إلى التحرير ووسيلة من وسائله، فإن الأمة إذا ولدت من سيّدها ترتفع درجة عن العبودية حتى في الاسم فتسمّى أم ولد، وترتفع بطريق شرعية إلى التحرير، والحقيقة أن هذا ليس إكراما لها، بل إكراما للسيد حتى لا يقال ان ابنه عبد، بدليل انها لو تزوجت عبدا لبيع ولدها عبدا، اذن هو ليس اكراما لها بل للسيد، أن يلد ولدا من نطفته ويصبح عبدا، هذا فيه اهانة للسيد، هذا كل ما في الامر.

والقول أن المبالغة في الإكثار من الإماء إلى درجة مستهجنة بناءً على عدم تحديد الشرع لعدد خاص- من سوء تصرّف المسلمين- لا من حسن تصريف الإسلام، فكيف يصبح هذا من سوء تصرفهم و هم لم يُمنعوا ؟ وهل التوسع في المُلك سوء تصرف ؟ اذن الخطأ في قول أنها مُلك من الأساس. القرآن يرغب في التحرر من هذا الملك بالذات.

لم يذكر في القرآن أن الأسرى من الكفار يقعون أرقّاء، مع أن القرآن تكلم عن الحروب كثيرا، والقرآن هو نورنا، بل إن القرآن حدد التعامل مع الأسرى، إما منا أو فداء، فقط، ويجب ان نتوقف مع القرآن فيما توقف عنه، وننطلق فيما انطلق به، هكذا نكون متبعين للقرآن. الحل قدمه القرآن وانتهى. إما منا أو فداء، ولا ثالث لهما. فهل نتبع كلام الله ام نتبع كلام غيره؟ هذا بخصوص الرجال الأسرى، اما النساء وسبيهن فهذا غير وارد في القرآن اصلا.

إن فكرة إسترقاق رجال الكفار ونساؤهم وجعلهم موزّعين في بيوت المسلمين خطر على المجتمع، تخيل أن تأتي بآلاف من الحاقدين من ثقافة مختلفة وتجعلهم في بيوت مجتمع مسلم ! ما النتيجة ؟ كثرة انتشار الزنا والتسيب الأخلاقي والإتيان بأفكار ومعتقدات من ثقافتهم يغرسونها في الأطفال ! أليس هناك خوف من الغزو الثقافي؟ كيف تدخل في منزلك أناس قتلت أهاليهم ولا تخشى أن يقتلوا اهلك ؟ حتى اللغة العربية فسدت وكثر اللحن بسبب الموالي. تخيل كل فرد نصيبه عشرة من الأسرى بعد ان دمرت بيوتهم وقتلت أُسَرُهم ! هذا ينتج تغيير كامل للمجتمع ودخول عادات غريبة على المجتمع، هذا إن لم ينتقموا منهم. هذا ما أنتج الشعوبية والزندقة في العصر العباسي، وكثرة الزنا وشرب الخمور، مع أنهم ليسوا عبيدا، بل موالي ينتسبون لقبيلة بالنسب فقط. وما دام الأمر سهلا لهذه الدرجة، فيمكن أن يشتري من النخاسين أو أبناء وبنات الفقراء، ما دامت مكرّمة بهذا الشكل، ولا ضرورة للحروب.

الرق لا يمكن أن يثبت هل هو قادم من حرب او من غير حرب ، فالذي يشتري الأمة لا يدري من أين جاءت، وهكذا يدعم الخطف بشكل غير مباشر. لا يمكن التثبت ان هؤلاء العبيد قادمون من حرب أم لا ، مع ان الله فصّل في أسرى الحرب كيف يُعاملون.

وبالنسبة للتساؤل عن ما هو الحَلُّ مع النساءٌ الكافراتٌ المُقاتِلات اللاتي انهزمْنَ في المعركةِ وأُلقيَ القبضُ عليهنّ، وهل يُتْرَكْنَ في مُدُنِ المسلمين ، فالجواب أن يتركن في بيوتهن إتباعا لقوله تعالى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء) أو يفادى بهن أسيرات من المسلمين، ثم : متى كانت النساء يدخلن الحروب؟ في وقت الرماح والخيول والدروع؟ ثم من يحفظ الأطفال والنساء تقاتلن ؟ بل ماذا يفعل الرجل اذا كانت النساء تقاتل؟ في العادة لا تقاتل النساء، فكيف يُسبين وهن لم يقاتلن؟ و كون الحروب بعد الاسلام لا سبي فيها ، مع أن المسلمين لا يتقيدون بالإسلام بشكل كامل، يدل على انها خلفية له، وإلا لاتبعوه لتقليد آباءهم، ولو كان ضروريا والحاجة تدفع إليه لفعلته الحروب الإسلامية فيما بينها. بل إن عمر بن الخطاب قال : لا سبي في الإسلام، أليس عمر صحابي ويؤخذ بتشريعه؟

لماذا يسبين النساء أصلا؟ ما الداعي له ؟ هذه الحروب تقع بين الرجال وينتصر من ينتصر وينهزم من ينهزم ويبقى الناس في بيوتهم، لا داعي لأن ينتقل السكان من مكانهم لكي يعيشوا في بيئة مختلفة ويدخلوا بيوت أناس مختلفين بل أعداء. هل قال القرآن هكذا ؟ "إذا انتصرتم عليهم فخذوهم إلى دياركم" ؟ الله يقول أن الأرض يورثها من يشاء من عباده، و نقلُ المهزومين من بلدهم هو تخريب لتلك البلاد، فمن يعمرها؟ هذا ذنب آخر يسمى التهجير، فلماذا يُهجرون من بلادهم و هم قد هُزموا وأمكن الله منهم وانتفى شرهم؟ ألا تكفي هزيمتهم حتى نوقع عليهم عقوبات أخرى كالتهجير والاسترقاق واستباحة الاعراض؟ مع أن هذا كله ليس له أساس في القرآن وسنة الرسول المأمور باتباع القرآن والاخلاق والمعروف، لماذا نتبنى أفكاراً لا يمكن أن تطبق في هذا الزمان و ليس ورائها إلا تشويه الإسلام ؟ ألسنا نحب الاسلام؟

أما التسري بالجواري فلن يعود، لأن هناك قانون دولي و صار العالم كله يرفضه، فهل يكون الدهريون الماديون أفضل منا وأسبق منا للمعروف ؟ ونحن من وصفنا الله بخير امة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ أليس من المعروف عدم الاسترقاق؟ اذن الاسترقاق منكر، لذلك حث الله على تحرير العبيد لأنه لا يريده، وحدد الموقف من الأسرى من الحرب، المن والفداء، هذا حكم الله، هذا غير التصادمات التي أوضحناها في نظام التسري، مع الزواج ومع البيع. اذن القرآن أراد ان يتحرر العبيد، لكن لم يأت بها على صيغة الإلزام المباشر، لأن بعض العبيد لا يريدون أن يتحرروا، وما دام انه يريد إنهاء الرق فمن باب أولى انه سدَّ كل طريق لعبودية جديدة. وذلك حينما حرّم بيع الأولاد بسبب الفقر، وحدد الموقف من الأسرى في الحروب، وهما أكثر الروافد التي تغذي العبودية.

إن الصواب أن يُمنع ويقفل الباب على استرقاق العبيد لأنه من أبواب الجاهلية، وأن يُحث على الاعتاق ويفتح بابه ويصرف له من الزكاة، ويفتح باب الزواج من الإماء ويكون زواجا محترما، وهذا هو شرع العليم الحكيم، وهو ما نفهمه من القرآن، والله امرنا باتباع الافضل حتى من غير القرآن، الله قال : الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه. هكذا نرى جمال الموقف القرآني من العبيد، إنه أجمل حتى من موقف الامم المتحدة، التي ألزمت بتحرير العبيد حتى لو لم يرغب العبد بذلك، ناسين أن هذا الإلزام ضد الحرية التي يطالبون بها للعبد. فمن حريته حق تقرير المصير، لا أن يُلزم بمصير، وهذا ما حفظه القرآن للعبيد، ودائما القرآن هو الأجمل من كل النظم البشرية وأقولها بفخر.