يتفق دارسي
الفلسفة على تقسيم الفلسفة إلى مثالية و إلى مادية واقعية، وهذا التقسيم يتعلق
باتجاه التنظير أو كيفية التناول، ولفظة المثالية هنا لا تعني الأفضل والأرقى، بل
من أصل كلمة
idea التي تعني فكرة، أي فكرة من عالم
المثل والتي أصلها يوناني، حيث كان اليونان يعتقدون بوجود عالم المثل، وأن كل شيء
موجود على الأرض توجد منه نسخة مثالية في عالم المثل، أي عالم الآلهة المتعددة ،
ومصطلح المثالية العقلية يقصدون به في هذا الزمن من يتبعون النسق العقلي المنطقي
دون الرجوع للواقع.
إن
المثالية العقلية - بمعنى فكرة واحدة يرتبط بها كل شيء بالنسبة للإنسان - ويحاول تطبيقها
على الواقع ولكنه لا يستطيع لأنها لا تنسجم معه. هذا النوع من المثالية متطرف، وله
عدة أشكال وتطبيقات تتسع باتساع الحياة ومجالاتها، فهناك المثالية الدينية
(المثالية التطهُّرية ؛ كاليهودية التلموديّة وبعض المذاهب المتطرفة سواء في الإسلام
او المسيحية) ، وأيضا المثالية العلمانية، والمثالية العلْمَويّة، والمثالية
الفلسفية، والمثالية الاقتصادية كالشيوعية، والمثالية الفردية كالاعتماد على الذات
فقط والعصامية وعدم الاعتماد على الآخرين، وغيرها كثير .. بل حتى البراجماتية
والنفعية فلسفة مثالية، لأنها مبنية على المصلحة البحتة ولا شيء آخر .. كذلك
المثالية الليبرالية فلسفة مثالية أيضا، لأنها تنادي بالتحرر المفرط، وهذه فكرة متطرفة
وغير واقعية، بالذات لأن الإنسان لا يكتسب معناه ولا يرتاح إلا بالارتباط. كل هذه
الإيديولوجيات المثالية لا يمكن أن يطبقها الإنسان بسبب تطرفها. وهي التي تتصارع
على ارض الواقع.
المنطق يجب
أن يتعانق مع الواقع، بحيث يكون هناك تبادل بينهما، حوار، (ديالوج)، كالضفيرة
المكونة من حزمتين، تدخل هذه في تلك، وهذه في تلك. لا أن ينفرد الإنسان بأحدهما
دون الآخر. إذن من يتبع فلسفة عقلية فقط سيصطدم بالواقع، ومن يتبع الواقع فقط
سيصطدم بالعقل، والانحراف الذي حصل في فلسفة العلم الحديث هي الاكتفاء بالعلم دون
العقل، وهذا جرّد كل طرحهم من القدرة العقلية والإقناع، فصار العلم يؤخذ بالثقة لا
بالعقل. والاكتفاء بالعقل دون الواقع هو ما أنتج فلسفات غير قابلة للواقع ولا تهتم
له، كفلسفات أفلاطون و هيجل و كانط، بل حتى دخلت المثالية العقلية في أنواع من
العلوم مثل ما دخلت في العلوم التفسيرية، كعلم نفس فرويد التحليلي ونظرية داروين
للتطور، حيث نجد نسبة الطرح العقلي واستحلاب الأدلة أكثر من الواقعية والتجريبية
فيهما. وغالبا ما تكون الفلسفة المثالية ذات فكرة واحدة وتريد تعميمها على كل شيء،
مثل فكرة الجنس عند فرويد والاقتصاد عند ماركس، حيث يفسران من خلالهما كل مجريات
التاريخ، كذلك التطور أصبحت نظرية لكل شيء، فالحضارة تطور والاجتماع تطور
والاقتصاد تطور، وطبقات الأرض تطور، ونشوء الكون تطور، أيضا إرادة القوة عند نيتشه
هي نظرية لكل شيء، ويفسر من خلالها صراع الطبقات و وجود الأديان ، مثل فكرته عن
السوبرمان. نجدها موغلة في المثالية، لأنها تقتضي أن يقضي الابن على أبيه العجوز لأنه
ضعيف ويعيق التنمية، وكذلك ابنه المعاق لأنه لا ينتج، و كل قوي سيصبح يوما ما
ضعيف، إذن سيخاف الجميع من الجميع. وهكذا نجد أن الأيديولوجيات المثالية هي أسباب
الصراع، و أن أغلب الأيديولوجيات تندرج تحت هذا النمط. وهذه هي نهاية فلسفة الإنسان
الوضعية : يحتاج إلى وحي الهي يخرجه من هذا
التخبط والجزئية، بل حتى ما يسمى بالفلسفات المادية والواقعية هي في الحقيقة
والتدقيق فلسفات مثالية أيضا، لأنها تستنطق الواقع وتجعله يؤيدها، بالطيب أو
بالغصب، كما تفعل الداروينية في تزوير الواقع كما حصل عدة حوادث تزوير تم ضبطها،
ما الذي دعا للتزوير؟ إنه المثال والرؤية العقلية التي تريد أن تنزل للواقع
والواقع يرفضها فاضطرت للتزوير، اذن هي فلسفة مثالية. أما تقسيم الفلسفة إلى قسمين
فهو مجرد تقسيم شكلي، لكن الجوهر واحد. فالداروينية مثلا لا تختلف بأي شكل عن أي مذهب
ديني تطهيري، لأنهم يطهّرون الجامعات من أي مشكّك بنظرية التطور أو مؤيد لنظريات
غير التطور، كذلك العلمانية مثلها مثل أي مذهب ديني. وجود متطرفين في المذاهب يعني
ان المذاهب كلها متشابهة و تطهيرية ولا تقبل الآخر، ووجود امرأة عارية حدث فظيع
عند المذهب الديني، ووجودها متحجبة حدث فظيع عند المذهب العلماني، إذن كلاهما سواء.
كذلك الشيوعية مذهب تطهيري وحيد النظرة ومعمِّم للنظرة الوحيدة، وهكذا كل ما تنتجه
عقول البشر سيقع تحت هذا الحكم : مُنطَلَق جزئي يجب تطبيقه على كل شيء، ويوجد فيه
متطرفين، هذه سمات مذاهب البشر كلها، حتى الوطنية والقومية والعرقية، لا يمكن وجود
التوازن إلا بوحي من الله سالم من تحريفات البشر وتأويلاتهم، وهذا ما نجده فقط في
القرآن العظيم، والقرآن يشير إلى صراط مستقيم واحد، لأن الحق واحد لا يمكن أن
يتعدد، أما الباطل فيمكن أن يتعدد، قال تعالى (لِيُخْرِجَكُم مِّنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
فالنور واحد والظلمات متعددة، وقال تعالى (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن
سَبِيلِهِ)، وقال
تعالى (إِنَّ
الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا) .
إن الإسلام
الحقيقي المبني على القران وما والاه، هو المنهج الوحيد المثالي الواقعي في نفس
الوقت، فهو ينادي بأحسن الأخلاق ويربطها بالواقع، ويحترم العلم ويحترم الأخلاق أيضا،
ويدعو للتعامل الأخلاقي بين البشر والتعامل الأخلاقي مع الله والجمع بينهما، مع
الحفاظ على المصلحة، قال تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ
الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) وقال تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا)
لأن التوسط في أغلب الحالات هو الفضيلة ، كالتوسُّط بين التهور والجبن، وبين البخل
والتبذير. قال تعالى (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا
وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) . أيضا وقف موقفا وسطا بين تطرف الرأسمالية وتطرف الشيوعية،
فهو أراد أن يكافح تَعمْلُق الرأسمالية، وبنفس الوقت أبقى حرية الامتلاك لتفاوت
الناس في قدراتهم. كذلك فعل مع موضوع الرقيق، وقدم توازن جميل بين الفكرة و الواقع،
فهو لم يمنع الرقيق نهائيا لأنه يوجد من يريدون أن يبقوا أرِقَّاء، لكنه رغّب بإعتاق
الرقيق، وكفل حق العبد في أن يتحرر إذا شاء ولو من بيت مال المسلمين.
ويقول تعالى
لمن قتل له قتيل (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن
يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ )
فهو ربط بين الفضيلة وبين المصلحة والواقع، ويقول تعالى (فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)
، وهو لا يغالي في أمر معين دون غيره، إذ قال تعالى (لاَ تَغْلُواْ
فِي دِينِكُمْ ) .