الاثنين، 9 مايو 2016

كن صالحا ولا تكن مصلحيا ..


هناك فقر وهناك قابلية للفقر.. وقابلية للفقر أي أن شخص ما قد يملك مالا كثيرا لكنه يضيع فرص خير كثيرة ويخرب ويسرف من أجل ما يراه أنه مصدر كسب, فهذا قد سلك طريقا نهايته الفقر..

كلمة فقر لا تعني فقط فقر المال, الله سبحانه قال : {إن الإنسان لفي خسر}, خسارة الأًصدقاء مثلا هي فقر, خسارة الاطمئنان وراحة البال هي فقر, وخسارة المعرفة فقر وخسارة المحبة فقر, فالصناعي يجعل صاحبه في فقر و خُسر, فالخُسر أنواع وليس فقط المال, وكل شخص صناعي هو فقير مهما بلغت ثروته لأن طريقه هو الخُسر والفقر أصلا, ومن عنده خسر وفقر في ناحية فهو فقير في كل النواحي..

فقدان راحة البال لوحدها هو خسر, فكل جمّاعي الثروة يعانون من قلة الراحة, فعلينا ألا ننظر للأمور بحسبة مادية بل من كل النواحي..

تحسيب الماديين المادي لمصالحهم يمنعهم من طريق البركة, فبحسبتهم قد يرون أن شيئا ما قريبا منهم لا يدخل مالا كافيا فبالتالي لا يعطونه حقه, فيقول ماذا أستفيد من إصلاح ذلك الشيء وكم سيربحني؟ وبالتالي يهمله ولا يعطيه حقه فيخسره.. بينما الإنسان الطبيعي نيته ليست الكسب بل نيته الإصلاح فيصلح ما تيسر مما حوله وبالتالي يبارك له الله ويأتي رزقه مما أصلحه, فيرزقه الله منه مكسبا يبهر الشخص المادي ويتمنى لو كان له..

من يكون المال غايته فإنه سيقطعه عن طريق البركة.. من طريقه الأخلاق سيكون في طريق الثراء ويكتشف أنه غني دون أن يدري كيف تكونت هذه الثروة, لأنها لم تكن هدفه الأساسي, فأحد مثلا لديه في مزرعته بضعة أغنام و صار يعطيها من باب الرحمة بها وليست المصلحة من ورائها هدفه الوحيد, وأخذت تلد وتتكاثر وصار يملك قطيعا كبيرا منها مع أنه لم يكن يحسّب لهذا, وأيضا تعلم منها كيفية العناية بالأغنام وعلاجها والاستفادة من حليبها وصارت له خبرة بأعلافها..إلخ, وهذه المعرفة تنفعه وتنفع غيره, بينما لو كان ذلك العدد القليل عند شخص مادي لربما باعها أو أهملها فماتت لأنه يرى أنها لا تستحق اهتمامه حسب حسبته المصلحية..

بعبارة أخرى أسقط حسبة المصالح تأتيك المصالح. هناك دول غنية عندها وفرة و فائض زائد عن حاجتها, لو فكروا أنهم يساعدون الدول المحتاجة من ذلك الفائض ستأتي حسبة المصالح وتقول ماذا نستفيد؟ السياسة مصالح! لكن هذه الكلمة هي ما تسبب الفقر, فهي ما قطعت علاقتها مع دول وشعوب كاملة مقابل عمل بسيط وهو مساعدتهم بإعطائهم شيء زائد عن الحاجة. لكن لو انطلقوا من نية الخير لكسبوا كل شيء.. شعار المصلحة هذا جعلهم يضيعون فرص كسب كثيرة لم يعرفوا عنها..

مثلا عندك بالإضافة لسيارتك سيارة أخرى قديمة ومهملة, من يعمل بدافع أخلاقي إيماني ويكره الإسراف سيقول حرام أن أرمي هذه السيارة, فيصلحها بدافع كره الإسراف و يتفاجأ بأنه صار يستخدمها كثيرا ولا يستغني عنها.. بينما الحسبة المصلحية ستقول هذه سيارة متهالكة ولا تساوي شيئا في السوق وستخسر على إصلاحها, تخلص منها بأي ثمن واستفد من مالها! وهكذا صار الأول معه سيارة إضافية تخدمه وتخدم غيره والثاني خسرها مقابل مبلغ مالي بسيط..

لهذا أقول يجب ألا يكون لك طموح, أي لا تكن المصلحة هدفا لحياتك, ولا يكن لك هدف إلا الله فقط.. وهذا لا يعني ألا يكون لك أهداف, لكن لا يكن دافعك المصلحة فقط .

من يضع المصلحة شعارا له هو فعل مثلما فعل السارق بالضبط لأنه أيضا يرفع شعار المصلحة فقط, ولهذا المصلحي لا أحد يحبه ولا أحد يثق به..

حسبة المصلحة جنون لأنها تجعلك تنظر لشيء واحد ولا تنظر لغيره, وبالتالي تردك عن فعل خير سهل جدا ومتيسر كان بإمكانه أن ينفعك وينفع غيرك, لكن حسبة المصلحة تقول: ماذا أكسب من هذا؟ مع أن هذا الشيء البسيط قد يعني الكثير لغيرك, وهكذا تحترق الأخلاق على صفيح المصالح الساخن. الدول الغنية في العالم مثلا ترى المجاعات الشديدة أفريقيا وغيرها ومع ذلك تجد منهم يرمون الحليب والحبوب في البحر حتى لا تنزل أسعارها! ولا دولة قالت أنا سأكسب ود هذا الشعب وأساعده, ولا تدري قد تكون المصلحة منهم في المستقبل, فلو ساعدوهم قد يأتي يوم ويقولون تعالوا أنتم نقبوا عن الذهب في بلادنا مثلا وليس غيركم..

من نيته الخير و ليس المصلحة هو من يكسب الناس ويأتيه الخير من كل مكان.. وأيضا يتقي شر الناس, كما قيل: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء". إذن حسبة المصلحة خطأ, يقولون لا يوجد صداقة ولا عداوة دائمة بل مصالح دائمة, مع أن حسبة المصلحة هي التي جعلت الصديق ينقلب إلى عدو, فبعدما أعطيته وخسرت عليه انقلب لعدو! أي تصنع أعداء حقيقيين وأصدقاء وهميين, وهذا من صور الخسر! لهذا المصلحيون فقراء وفي خُسر مهما ملكوا.. فالفردية و المصلحية عكس الحكمة وعكس الأخلاق..

نية الإصلاح وإخراج حسبة المصلحة هي التوكل, فالتوكل ليس ألا تعمل شيئا بل أن تعمل أكثر, لكن ليس لهدف مصلحة بل تعمل للخير والصواب كله, أي لله, حتى أن تجد قطا جريحا في الشارع و تعالجه رحمة به, هذا الدافع النبيل جعلك تكسب خبرة ومعرفة من ضمن ما ستكسب.. هذا هو الجمال والروعة, أن تعمل ليس لهدف مصلحة بل لأن العمل خيّر و جميل..

الفقير بشيء هو فقير بكل شيء, وانظر إلى الحضارة المادية الغربية كيف مصت الموارد وجففت الأنهار وانقرضت بسببها كائنات حية و سببوا التصحر وملؤوا الدنيا نفايات وحولت العالم للاستهلاكية ومع ذلك لا زالوا لم يشعروا أنهم اغتنوا!

وفعل الخير ليس شيئا صعبا لكن الشيطان يصعبه عليهم, مثلا دولة فقيرة وشعب معدم لو يعطونه فقط السكراب ونفايات الأجهزة الالكترونية وقطع الأثاث لفرحوا بها كثيرا واستفادوا منها, وشعروا بالامتنان والشكر, وهذا سوف ينتج مصلحة . إذن الأخلاق والعطاء هو طريق المصالح وليس الشح والأنانية .

نظرة المصلحة تنتج الاحتقار والاحتقار ينتج الخسار.. حسبة "كم يدر" هي طريق الخسر, ويقول الأولون: "لو يحسب الزارع زرعه ما زرع"..

النظرة المادية إذن بحد ذاتها هي جنون, وهذه هي نظرة أغلب رجال الأعمال إذن هم خاسرون, وقد يخسر الإنسان وهو لا يدري أنه خسران –إذا خرجنا عن حسبة الأرقام فقط-. ولو سألت أحدهم عن أغلى ما يريد لقال هو السعادة وراحة البال ومحبة الناس, ومع ذلك يتخلى عن سعادته وراحة باله من أجل المال!

من علامة الخُسر والفقر زيادة الشراهة, وهذا من أجل أن يعوض ما خسر, والشخص المادي شره, إذن هو فقير مهما حوى من مال..

من رفع شعار المصلحة فقط فقد رفع شعارا يؤدي به إلى الفقر بل و الإجرام , لأنه نفس شعار السارق, فالسارق فعل الشر لأجل المصلحة.. بوابتك لعالم الشر هي المصلحة إذا كانت الغاية, فلا تكن المصلحة هي غايتك الوحيدة وسوف تأتيك المصلحة كإحدى الثمرات على الطريق.. وما عند الله خير وأبقى ..

التوكل هو حسبي الله ونعم الوكيل, أي الله الذي يحسب وليس أنت , ودورك أن تؤمن بالله وتعمل الصالحات.. وإذا رأيت من يعمل الصواب ولا يرجو مصلحة فتوقع له الخير {ومن يتق الله يجعل له مخرجا, ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه}.. ولاحظ أن الله سمى كلا من المصلحة وعمل الصالحات خير {و إنه لحب الخير شديد} {يسارعون في الخيرات}.. إذن هما مرتبطتان.. على قدر انكار الذات على قدر ما تأتي الأخلاق ويأتي الخير, وإنكار الذات يعني عكس المصلحة..

لاحظ أن القرآن موقفه قوي من كنز المال ويحث دائما على الإنفاق, ويقول: {نحن نرزقهم وإياكم}, ولو تفكر بعقلية المصلحة فلن تفهم لماذا.. ولا مرة تكلم القرآن عن فكرة المصلحة وحث عليها, بينما كل العالم مجمع عليها, بل نهى عن التبذير والإٍسراف وتوعد عليه.. العلمانيون لا يعرفون أن الإٍسراف رذيلة, وانظر للعرب كيف كانوا يُكبِرون ويتفاخرون بمن يسرف لإكرام ضيوفه, وإسراف الأباطرة يعتبرونه فخامة وأبهة وإذا لم يكن مسرفا يسخرون منه.. فكون الإسراف رذيلة هذا أتى من القرآن. العلمانيون يعتبرون من لا يسرف مقتّر على نفسه, ويقولون أنه من حقه أن يدفع كل هذه الأموال مثلا على رحلة سياحية ليستمتع فهو غني . هذه المفاهيم القرآنية مثل رذيلة الإٍسراف هي إعجاز قرآني تحتاج تأمل, الناس تزداد قيمة الشخص عدنهم إذا كان عنده قصور مثلما كان الناس يتمنون أن يكونوا مثل قارون, فلا يرونه ويحسون بنفور بل يحسون بإعجاب وأبهة وهيبة, ولهذا ينفق الأغنياء على مظاهرهم. وكلما تكون علماني كلما تَقبل الإٍسراف أكثر وأكثر ويصبح هو الصواب..

القرآن يحذر من الإسراف ويأمر بالإنفاق بنفس الوقت, وهذا شيء عجيب, وهذا الإنفاق أكثره على الآخرة وليس للدنيا, وعينك على المحتاجين {وأطعموا البائس الفقير} {وآتوا حقه يوم حصاده} {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا} وأيضا الصدقات والكفارات والزكاة, ويحرم كنز المال ويحرم الربا والاحتكار والطمع -الذي هو المصلحة- وأكل أموال اليتيم, ويدفع لحفظ الأمانة وأدائها لأهلها وأداء العهد والدين, وكل هذه الأوامر تضر بالمال حسب الحسبة المصلحية, لهذا لا يريدون القرآن, لكن القرآن سماها زكاة والزكاة تعني النماء والزيادة, كيف يفهم المادي هذا الشيء أن تدفع لكي يزداد مالك؟! {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}. فالقرآن أعطى تفاؤلا بالرزق {نحن نرزقهم وإياكم} {ويرزقه من حيث لا يحتسب} {كلوا من طيبات مارزقناكم} {قل من رحم زينة الله التي أخرج لعباده} {الشيطان يعدكم الفقر} إذن الله يعد بالغنى . لاحظ القرآن يحذر من الشح وكنز المال ويطالبك بالإنفاق, أي سيكون عندك خير تنفق منه, بل حتى قدم الجهاد بالمال على النفس, وأمر بالتوكل وأن الرزق على الله وليس بذكائك وشطارتك.. القرآن أسند الرزق إلى الله وليس إلى عملنا, مما يؤدي إلى أن يكون الإنسان فاضلا لأنه تخلى عن المصلحة كهدف أي ابتعد عن هو طريق الشر.

وهذا لا يعني أن تتواكل و تجلس, بل المؤمن كثير العمل لكن نيته الصواب والإصلاح, حتى في تعامله مع جسمه نيته الإصلاح والشكر والصواب وليس المصلحة. قال سبحانه: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} هذا هو المطلوب منك فقط أن تؤمن وتلاحق الصالحات, كل شيء فيه صلاح لك أو لأولادك أو للبيئة ..إلخ. قمة الأخلاق أن تعيش للإصلاح.. لاحظ أن القرآن يقول أن كل إنسان في خسر إلا من آمنوا وعملوا الصالحات, هؤلاء هم الرابحون ماديا ومعنويا.. {والعصر, إن الإنسان لفي خسر, إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}. ودرجة الصلاح حتى الأنبياء يتنمونها في دعائهم: {وألحقني بالصالحين}, والصالح سمي صالح لأنه يصلح ولا يفسد, وإلا كيف نعرف أنه صالح؟ كن من الصالحين تأتيك المصلحة ولو لم تكن من المصلحيين, كن صالحا مصلحا ولا تكن مصلحيا نفعيا, هذه نصيحة الله لنا .


السبت، 7 مايو 2016

العقل الباطن الفرويدي

يذكر فرويد في كتابه عن تفسير الأحلام، قصة حلم ديلبوف، الذي رأى في حلمه أنه يطعم بعض الزواحف نوعا من الاوراق الخضراء والتي عرف اسمها اللاتيني بدقة في الحلم، وعندما استيقظ منه تعجب ديلبوف كيف عرف ذلك الإسم، وأخذ يفتش في القواميس ووجده فعلا كذلك، ولكن لم يقف ديلبوف عند هذا الحد ولم يصدّق أن الأمر صدفة، وبعد فترة طويلة امتدت ستة عشر عاما، زار أحد اصدقائه ، وهناك اطلع على ألبوم للذكرى، فوجد فيه بطاقة سياحة عليها صورة نفس النبات ونفس الإسم اللاتيني مكتوب أسفل منها، والأعجب أنه مكتوب بخط ديلبوف نفسه، وحينها ادرك ديلبوف كيف جاء الإسم، اذ كان قد ساعد اخت صاحبه في كتابة الإسم اللاتيني للنبتة مستعينا بأحد المتخصصين في علم النبات قبل حلمه بعامين. ومن هذه الحادثة يستدل فرويد أنه ما نظنه ألغازا في الحلم ، لا بد ان يكون ذكرى واقعية منسية. ومن هنا استدل فرويد - من ضمن ما استدل عليه - على وجود العقل الباطن الذي يخزن الذكريات والمشاعر دون وعي صاحبها.

لكن لو كان الكلام صحيحا لكان كل شخص مرت عليه حالة ديلبوف، وهذا الكلام يشبه كلام سقراط الذي يقول ان المعرفة تذكّر بعد نسيان ، و كلاهما غير واقعي ، بدليل ان الاحلام تركب لنا اسماء لا يمكن ان توجد ولا في القاموس ، و تقدم لنا صورا لا يمكن ان تـُرى في اي البوم ، الصور التي ترد في الاحلام هي اوضح مثال ، ولو كانت مرت علينا في السابق لما اندهشنا كل ذلك الاندهاش . الدليل الاخر هو ان الاحلام تاتي على شكل سيناريو ، فهل من المعقول ان السيناريو هذا مر علينا من قبل ؟

اذا كان هذا صحيحا عند ديلبوف فهذا صحيح عن الجميع ، فشخص حلم في زمننا هذا انه يجلس مع نابليون وسقراط في مقهى على القمر ، فهل نقول انه حدث له هذا الحدث في الطفولة و نسيه ؟ هذا لا يمكن منطقيا ان يحدث ..

وما دام الحلم يقدم لنا سيناريوهات جديدة ، فيستطيع ان يقدم كلمات و صور جديدة . ثم كيف يحتفظ عقل ديلبوف بكلمة لم يحفظها في وقتها ؟ واستعان باخصائي في علم النبات ليكتب اسم النبتة ؟ واذا كان قد حفظها بطريقة واعية ، فلا يمكن ان يقول انه لا يعرف هذه الكلمة بتاتا . لأنه لا يوجد نسيان مطلق ، بدليل تراجع النسيان كلما عرضنا الاختيار من متعدد ، فأنت مثلا نسيت اسم مؤلف كتاب ما ، وعندما اعرض لك مجموعة اسماء مؤلفين ، فتجد انك تتعرف او تقترب منه ، مع انك لا تستطيع ان تسترجع اسمه مباشرة إذا سئلت من هو مؤلف هذا الكتاب، اذاً انت لم تفقد اصل المعلومة.

لا وجود حقيقي لمنطقة العقل الباطن التي يعتمد عليها فرويد في كل كتاباته وصدقها كل من جاء بعده من علماء النفس تقريبا، بل اعتبروه علميا مكتشف منطقة اللاشعور او العقل الباطن، مع انه اكتشف شيئا غير موجود. ولو كان الانسان بما فيه العقل الباطن المزعوم يملك هذه القدرة الخارقة على الحفظ من مجرد كلمة لاتينية تمر عليه واستوعبها العقل الباطن الخارق - كما في قصة حلم ديلبوف - لاستفاد الانسان من هذا الشيء .

شعور الانسان ليس الة تصوير او مطبعة كما يتصور فرويد ، بحيث يصور كل ما مر عليه ! مهمّاً كان او غير مهم ! والذاكرة تعمل بشكل انتقائي، بحيث اننا نذكر مواقف حصلت قديمة جدا ، بينما لا نذكر مثلها حصلت في وقت قريب، والسبب هو وقعها في الشعور، فأي طفل تقريبا يذكر اول شعور لدخوله الروضة او الصف الاول، لكنه قد لا يذكر اول يوم دخل فيه المرحلة الاعدادية، مع أنها اقرب زمنيا. 

وفي موضع آخر من كتابه عن الأحلام، يقص فرويد حلم سيدة رأت فيه أنها ستدعو اصدقاءها الى وليمة عشاء من السمك المدخن، ولكنها لم تجد أي ملحمة مفتوحة، وارادت ان تتصل بالهاتف على اصدقاءها لعل احدا منهم لديه البعض منه ، ولم تجد في الهاتف حرارة، فاضطرت للتنازل عن عمل المأدبة ، وأخذ فرويد يحقق معها وعرف منها ان زوجها كان من تجار اللحوم بالجملة وأنه كان يشتكي من ضخامة وزنه ، ولم يجد فرويد أي شيء يسعفه في هذه المعلومات، فأخذ بالتحقيق معها حتى اخبرته انها زارت صديقة لها نحيلة وذات قوام رشيق كان زوجها قد ابدى اعجابه بها وبقوامها ، فاصابتها بعض الغيرة، وقد حدثتها صاحبتها انها تريد ان تزيد من وزنها ، ثم سألتها متى ستقيمين إحدى ولائمك الطيبة ذات المآكل الدسمة .. بعد أن روت السيدة صاحبة الحلم كل ذلك ، قال لها فرويد : إن رغبة حلمك أنك كأنك اغتظت من رغبة غريمتك في اكل طعامك كي يزداد وزنها وتمتلئ أعطافها فيزداد اعجاب زوجك بها ، ونبتت لديك أمنية فحواها ألا تقيمي مأدبة لأي إنسان إكراما لخاطرها، وخصوصا ان زوجك ذكّرك في اليوم نفسه أن ولائم العشاء هي التي تساعد على السمنة ، ولكن بقي شيء واحد : ما الذي يرتبط في ذهنك بالسمك المدخن ؟ فقالت السيدة أن السمك المدخن هو الطعام التي تفضله تلك السيدة التي غارت منها. ويستنتج فرويد من هذا كله أن صاحبة الحلم وضعت نفسها محل السيدة التي تغار منها لأن تلك السيدة تحتل عند زوجها مكانة تطمع هي فيها، وجعلت صديقتها المتمثلة في شكلها لا تظفر بتحقيق اي رغبة من رغباتها.

هنا نلاحظ أن تفسير الاحلام عند فرويد مرتبط بالرغبة بالشر، هذا هو التفسير الفرويدي للأحلام .. وكل حلم يقابله يفسره بأنه رغبة للشر ولكنها مكبوتة ، ولاحظ كثرة تفسيره للأحلام بالحقد الدفين، ولو سأل الحالمين هل أنتم تحقدون ، لتفاجئوا بهذا السؤال ، فهو يريد ان يجعلهم حاقدين رغما عنهم، وهذا ما اضطره لاختراع فكرة العقل الباطن الذي لا يعيه صاحبه ، ليجعله مخرجا وخزانا للشرور والغرائز المنفلتة والانانية التي تريد ازالة الجميع عن الوجود، ليقول للشخص : أنت تحقد أو ترغب جنسيا ، فيرد الآخر : إن هذا لم يدر في خلدي ، فيقول: لا !! هو دار في خلد عقلك الباطن ، الذي لا تعرفه وأنا الذي اعرفه !!

نلاحظ ان انصار فرويد يعظمون ويجلون اكتشافه لما يسمونه بالعقل الباطن، لأنه هو المخرج لتوهيم الناس بان قلوبهم مليئة بالشرور ولكنهم لا يعلمون ، لأن العقل الظاهر يحاربها ويراقبها ويمنعها من الظهور للسطح ، مما يساوي أنني انا وانت والاخرين عبارة عن اشرار، لكننا لا نعرف مدى ما نحمله من شر .. وهذا ما يفسر لنا اضطراره لفكرة الهو و الانا والانا الاعلى ، كحل لهذا المأزق ..

هكذا فكّر فرويد .. وهذه هي وسائله لادخال هذا الوهم الخطير الى المجتمعات .. ومن خلال هذه الفكرة اللعينة (العقل الباطن الشرير) ، من الممكن توهيم الآخر بما لا يدركه ولا يحسه بكل بساطة .. ولاحظ أن هذه الطريقة طريقة سحرية وليست علمية ، لأنه يحيل الشخص الى مجهول ، وهو العقل الباطن الذي لا يحس ولا يدرك على حسب افتراضه .. مع ان هذا المجهول لا وجود حقيقي له ، فكيف يوجد شيء لا يدركه عقل صاحبه وهو فيه ؟ وكيف نتذكر اشياء لا نتذكرها ؟

لهذا كبروا كلمة "اكتشاف العقل الباطن" ، ففرويد اكتشف غير الموجود في الحقيقة ، لكي يوصّل ويؤصل من خلاله وجود الشر في الانسان . و ليعتبر الخير شيء طارئ صنعه المجتمع ليس الا .. لاحظ انه لا يرجع الخير الى العقل الباطن ، فقط يرجع الشرور والاطماع والاحقاد والشهوات و الوحشية .. اذاً فرويد لم يرد خيرا بالبشرية ، واراد ان يحولهم الى الشر والفساد والتدمير من خلال أبلسة البشر جميعا ، كأنه يقول لهم : هذه هي طبيعتكم فلا تنفروا منها واستجيبوا لها وتخلصوا من كبتكم ، وان كان لا يقولها مباشرة، ولكنه ينسب الامراض العقلية لكبت العقل الباطن، ولسان حاله يقول : اذا لم ترد امراضا عقلية فتخلص من الكبت وأخرج ما في الصندوق ..

ولا ننسى ايضا ، أن فرويد كان يمارس التنويم المغناطيسي و فشل فيه ، فاضطر الى اختراع هذه الخدعة لكي ينوّم الجميع .. ونجح بتنويمه للغرب دفعة واحدة ..

كل محاولاته تلك من اجل ان يسقط الدين والاخلاق .. وهو شخص ملحد وعضو في منظمة بناي بريث القومية المتطرفة، و الجميع يعرف ان القومية المتطرفة اليهودية تحمل عداء للاديان والشعوب الاخرى (الجوييم)  ، و تريد ان تنتقم منهم وتعيد لهم نفس التهم التي ألصقوها باليهود عبر التاريخ ، مثل الحقد والطمع والشهوانية والمادية والانانية والجشع الخ .. هذه النقاط هي التي يفسر من خلالها فرويد ليس الاحلام فقط ، بل الانسان كله .. كي يقول : ما فيش حد احسن من حد .. و مع الاسف ليست افكار فرويد فقط التي تنحى هذا المنحى ، هي نفس افكار الماديين و الماسونيين النورانيين ، إلخ السلسلة المادية الالحادية و العدمية . 

كل انسان لا شك انه تخطر عليه خواطر من الرغبات الفجة والشهوانية ، و غالبا يطردها بسرعة ، وهي في اغلب الاحوال تكون من الشيطان .. على هذه الهمزات الشيطانية اعتمد فرويد (اي كأن الشيطان هو اصلنا) ، و كأنه يقول لكل شخص : ما دام انها تاتيك مثل هذه الخواطر و تحاربها ، اذا العقل الباطن هو الذي اتى بها ، و العقل الواعي صنيعة المجتمع والدين والحضارة هو الذي طردها ، اي ان الطارئ يطرد الاصلي ، ومن هنا صدّقه الكثيرون بوجود منطقة العقل الباطن الشريرة الوهمية لكي يلتمسوا العذر والمبرر لأخطائهم .. و نسي او تجاهل ان الانسان تاتيه خواطر خيرة و يطردها احيانا .. على اعتبار انها مثالية و صعبة التطبيق .. فلماذا لا يقول انها جاءت من العقل الباطن ايضا ؟

واذا كان العقل الظاهر هو الذي يرد داوفع العقل الباطن (الشريرة طبعا حسب فرويد) ، فمن الذي ردّ تلك الدوافع الخيرة والمثالية والتي تمر ايضا بنفس الطريقة ؟ وهي بالطبع لم تاتي من العقل الظاهر الذي صنعه المجتمع حتى يقول ان العقل الباطن هو الذي ردها ! لأنها ببساطة غير موجودة في المجتمع بسبب مثاليتها الزائدة .. وهذا يحدث كثيرا ، يريد الانسان ان يفعل بعض الاعمال الطيبة لكنه يخجل، ايضا لا يعجبه وضع المجتمع لكن لا بديل لديه، فهل هذا العقل الباطن لا يعجبه الوضع ؟ مع أن المجتمع في العادة يحكمه العقل الظاهر ، أي المؤدب كما يقول . ثم اذا كان العقل الظاهر هو المسيطر وهو خيّر كما يراه فرويد و مـُقحـَم على العقل الباطن ، اذا لكانت الدنيا جنة ، فمن اين هذه الشرور التي لا تتوقف ليل نهار وفي كل مكان على ظهر الارض ؟

كل ما في الامر ، اذا اردت ان ترد على فرويد : انظر الى الجانب المظلم الذي همّشه و سلِّط أنت الضوء عليه .. وهنا يهرب شيطان فرويد كما تهرب بقية الشياطين اذا رأت النور ..

لاحظ تركيزه على ناحية الرغبة في الاحلام ، و كأنه يقول : ان الرغبة ، وليس الخوف من الله أو الخطأ ، هي محرككم الاصيل ، فتحركوا بموجب الرغبة ، و ما الرغبة الا شهوات كالجنس أو شرور كالانتقام .. فأطلقوها حتى تستجيبوا لذواتكم وتكونوا انتم ، وبالتالي تشفون من امراضكم العصبية ! .. مع ان الناس يعرفون ان اكثر احلامهم تصوير لقلق ومخاوف ، وليست رغبات .. بل هي الاقل في الاحلام .. فالخوف هو سيد الاحلام ، بل هو الدافع الاول ، حتى في عالم اليقظة، وعلى اساسٍ من الخوف وُجدَت الرغبة. (راجع موضوع : الخوف هو محرك الانسان وليس الرغبة)

ثم هو يفسر الخوف بانه رقابة من العقل الظاهر على الحلم ايضا .. واذا كان العقل الظاهر يراقب الحلم بهذا الشكل ، فلماذا يسمح بالتجاوزات اللامنطقية في الحلم ؟ 

هو يحيلنا على وهم ، فكيف يسمى عالما ؟؟ العالم هو من يحيل الى وضوح وليس الى الغموض .. ما الفرق بينه وبين الساحر والمشعوذ ؟؟ الساحر يحيل سلوك الانسان وامراضه الى السحر ، واذا قلت له : ما هو السحر واين السحر ؟ قال لك : هو شيء غامض لا يعرف ، والساحر فرويد يحيلك إلى العقل الباطن .. وهو شيء غامض ومبهم ولا يحسه صاحبه ولا يعرفه إلا من خلال فرويد ..اذا فرويد مثل الساحر : يحيلنا على مجهول .. لكنه سمي عالما وبقي الساحر ساحرا وبقي المشعوذ مشعوذا ..   

هذا مع أنه لا يعتمد على شيء علمي في تفسيراته .. و كل ما يقوله عن ان سبب الاحلام هو الرغبة ، تستطيع ان تقول أن سبب الاحلام هو الخوف .. حتى لو كانت الرغبة ظاهرة في الحلم ، تستطيع ان تقول انه خوف من ذهاب تلك الرغبة .. كل ما في الامر هو أن فرويد فسر لنا نفسه و ما تنطوي عليه ، ولم يفسر الاحلام كما هي ولا الإنسان كما هو ..

اذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه .. وصدّق ما يعتاده من توهم ..

وهذا هو ظن فرويد : احقاد وشهوة انتقام وشهوات جنسية إلخ .. من العفن العميق في نفوسنا حسب وجهة نظر فرويد ، والذي يتجمّل هو لكشفها لنا .. اي يتجمل عن طريق قبحنا ..

هذا اختزال كريه لمكنونات النفس البشرية ، و تعسّف كل صورة للاحلام على انها من النوع السيء .. والإنسان – اي انسان-  كما يعلم الجميع ليس كله سيء ، فلماذا اذاً تكشفه احلامه على انه ليس فيه الا السوء ؟ هنا يكون الشك في الكاشف وليس في المكشوف ..

لا اظن فرويد انه يستطيع ان يفسر حلما واحدا على محمل اخلاقي يحمل الخير و الرقي .. ان هذا الشيء يتعبه .. وحتى في تحقيقاته مع الحالمين ، يتلمس خيوطا للرذيلة يتمسك بها حتى يعيد جدلها بقوة .. ويبني عليها حكمه ..

من اخطاء الثقافة الغربية و ولعها بالجديد ، انها تستطيع ان تقبل الفكرة التي لا يوجد مشابه لها . لا بد حتى تكون الفكرة صحيحة ان يوجد ما يشابهها ، فحتى نقبل فكرة التطور مثلا ، علينا ان نرى اشياء اخرى غير الاحياء تتطور ، وهذا غير موجود ! اذاً كل فكرة تفسيرية لا مشابه لها هي فكرة لا علمية ولا منطقية . يجب ان يوضع هذا الشرط لقبول اي فكرة او نظرية تفسيرية ، في حالة عدم توفر التجريب .. فالتجربة المطردة للشيء نفسه هي اقوى ادلة العلم و اعلى درجات توثيقه (التوثيق العلمي) ، فاذا لم يمكن ، فعلى الاقل ان يوجد حالات مشابهة يظهر فيها تطبيق نفس الفكرة التفسيرية ، وهذه الدرجة الثانية .. اما الدرجة الثالثة فهي منطقية الفكرة من حيث قابلية الارتباط بالحقائق الاخرى و وضوح الغاية والمنطلق فيها . 

يجب ان يوضع هذا الشرط لقبول اي فكرة او نظرية تفسيرية ، والا فكلٌ سوف يقترح ما يشاء عندما تصطدم نظريته باي حاجز ، وهذا ما يفعله فرويد تماما : كلما اصطدم بحاجز ، قفز بنفسه من خلال فكرة مصطنعة لا توجد لها مثائل في النفس البشرية ولا في الواقع ، و هذا بحد ذاته خطأ فلسفي كبير . هكذا هي فكرة العقل الباطن الذي تتحكم به الذكريات القديمة ، فهي فكرة مخالفة للواقع و للمنطق ، فالانسان لا يعيش في الماضي ، بل يعيش في الحاضر والمستقبل ، والذكريات المهمة هي الاولى بأن لا تنسى ، بينما فرويد يصر على ان الذكريات المهمة و الفعالة والأليمة في حياتنا هي المنسية !! وهذا غير موجود في النفس ولا الذاكرة البشرية, ان تنسى المهم وتُبقي على غير المهم . وتزداد الفكرة غرابة إذا عرفنا ان تلك الذكريات جنسية قبل البلوغ !! إذا ما فائدة البلوغ ؟! فالأطفال عند فرويد يولدون وهم بالغين! ويبقون طول عمرهم يتعذبون من الكبت الجنسي قبل البلوغ الجنسي ! ومن لا يقف عند الثوابت يستطيع أن يقول ما يشاء, إلا أن ثبت أنها غير ثوابت, وفرويد قال ما يشاء دون حياء ودون أن ينفي الثوابت.

اذن فكرة العقل الباطن هي عبارة عن قفزة للهروب من مأزق . هذه الافكار نسميها الافكار القافزة : ليس لها اساس ولا تشابهُ شيئا ، و لكن تقدّم مخرجا لرؤية يريدها الانسان ، مثل ملايين السنين عند التطوريين ، فكرة قافزة يحيلون عليها كل ما لا يمكن تصوره . هذا يشبه تماما ان تضيّع شيئا أنت مسؤول عن حفظه ، فتقول : ربما جاءت اجسام فضائية و خطفته !! و تتحدى من يثبت عدم امكانية حدوث هذا الشيء (فكرة قافزة) ..

يذكر فرويد عن أن المصابين بالهستريا والعصاب قد تعرضوا و هم اطفال لاغتصابات من الكبار و نسوها وتحولت للعقل الباطن وظهرت لاحقا على شكل هستريا ، لكن حالات اغتصاب الأطفال من قبل الكبار نادرة الحدوث، بينما الهستيريا والعصاب والوسواس اكثر , ثم كيف يُغتصب الإنسان وهو لا يدري؟ أتراه في الشهر الأول أم الثاني؟ ذاكرة الإنسان تبدأ بتسجيل المعلومات الهامة بحياته, من عمر سنتين او ثلاث او اربع سنوات يبدأ تسجيل المواقف والذكريات، فيذكر الطفل المواقف الفظيعة التي مر بها كحريق أو خوفه من حيوان، و تستمر الذكرى ملازمة له ولا تغيب في العقل الباطن المزعوم الذي لا وجود له, فالعقل الباطن ليس بالوعة للأحداث المهمة في حياة الإنسان, بدليل أننا نذكر أشياء من عمر 3 سنوات, أم أن الجنس فقط الذي يُنسى؟ ثم إذا كان لم يعرف أن الاغتصاب عملية جنسية، إذن هو لا يعرف الجنس.

و يذكر أيضا أن البنت قد تغار من أمها بسبب تمتـّعها بقضيب ابيها ! لماذا الطفلة تغار وهي لا تعرفه ولم تنضج جنسيا؟ ثم أن البنات الصغار يخيفهن شكله عندما يرون الأطفال الذكور ويستغربنه.

بعد هذا هل يبقى فرويد هو مؤسس علم النفس ؟ ماذا أسس في علم النفس اذا كان العقل الباطن وهو أهم اكتشافاته عبارة عن خرافة ؟ ماذا بقي في فرويد غير الدعوى للاباحية باسم العلم ؟ إنه مؤسس الاباحية الغربية ، وليس مؤسس علم النفس الحديث ، الا اذا اعتبرنا انه اقدم من اهتم بدراسة النفس ، فهذا صحيح ، لكن اهتمامه غير موفق بالكامل ومجهود ضائع. الا عند اصحاب الهوى الذين صفقوا له وزمّروا كثيرا وما زالوا .

أسئلة حول الطوطمية وإجابة عنها

وصلت عبر رسالة على بريد المدونة .



السلام عليكم 
إلى الاستاذ صاحب مدونة الوراق

عندي أسئلة بخصوص (الطوطمية) أو التوتمية، وأرجو أن تتكرم علي بالاجابة عليها 

هل يصح أن نعتقد بأن الطوطمية ديانة مثلها مثل الديانات الوضعية كالبوذية؟

حسب وجهة نظري لا يوجد شيء يدعى ديانة طوطمية ، اذ لا يُعقل أن يعبد الإنسان حيوانا يصيده ، كل الديانات سواء كانت سماوية أو وضعية ، في أساسها هي عبادة الله الخالق الواحد ، القادر الذي لا تحيطه الأبصار ، لكن تأتي بعد ذلك شركيات ، إما على شكل أعوان للإله، كما في الديانات متعددة الآلهة، و أوضح مثال على ذلك الديانة اليونانية القديمة، حيث زيوس كبير الآلهة، ومعه عشرات من الآلهة المتخصصون، كآلهة الحصاد والصيد والحرب الخ . أو أصحاب مكانة عند الله فتطلب منهم الزلفى والقربى ، وتوجه العبادة لهم تدريجيا.  

أما الطواطم هذه فهي رمز ديني و قومي ، بل هي موجودة حتى الآن، فأمريكا رمزها الوطني النسر ، والهند رمزها ثلاثة نمور ، وهكذا ؛ فهل يأتي أحد فيما بعد ويقول أنهم كانوا يعبدون النسر ؟ الهندوس مثلا لا يعبدون الأبقار، لكنهم يقدسون البقر، لأن البقرة أرضعت الإله كريشنا عندهم فصارت مقدسة كما يقولون ، بل ربما أنهم لا يؤذونها وليسوا يقدسونها.

اذن فلا بد أن لهذه الطواطم أسبابا لتقديسها غير أن تُوجّه لها العبادة مباشرة. بالتالي يصبح من الخطأ أن نقول كدوركايم أن عبادة الاله بدأت بعبادة الطواطم والسحرة، ثم انتقلت الى الالهة المتعددة ، ثم انتقلت للاله الواحد ، بل نقول أن الاصل هو عبادة الاله الواحد ، ولكن اهواء البشر تحرفهم الى الشرك والشركاء ، الشرك المادي او المعنوي ، والصريح وغير الصريح ، الا من رحم الله .  

هل دور كايم يقول بأن نشأة الدين من الطوطمية وما الديانات الوضعية والسماوية إلا تطور عنها؟

نعم يقول بذلك .

هل يصح أن نقول أن أساس الدين الحلال والحرام، المقدس أو الدنيوي؟ ألا يخالف ذلك القول بأن أساس الدين هو الايمان بالله وتوحيده ثم عبادته بتحريم ما حرم وإحلال ما احله لنا؟!

شكرا جزيلا.

الاساس هو محبة الله ، ثم تأتي البقية تبعا لهذا الشيء ، من حرام وحلال ومستحسن . وتقسيم دوركايم الدين الى مقدس ومدنس تفسير غير دقيق ، ويتعدى تقسيمه الاديان الى الالحاد ، لأن كل انسان ايا كان ، مرتبطا بدين او غير مرتبط ، له باقة من المقدسات ، تصغر او تكبر. واذا قلنا مقدس فهو يعني شيء محترم احتراما شديدا ، مثل الام .

الملحد مثلا في المحكمة لا يمكن ان يلبس ملابس السباحة، بل حتى لا يستساغ فيها اطلاق النكات ، ولو مر به مسؤول او شخص مهم او غني جدا لأظهر احتراما زائدا، أي مقدّس . ولو مر به فقير لأخذ راحته معه، أي غير مقدّس .

لا يمكن و من غير المنطقي أن يعبد الانسان غير الله ، اذا كان انسانا عاقلا وليس مجنونا، لأن العبادة تعني أن تعبد الها قادرا على كل شيء ويعلم بكل شيء ومطلق الكمال ، فكيف بمن يعبد عجلا او حيوانا او حشرة أقل من مستواه ويتحكم بها ويبيعها ويشتريها ؟ لكن اذا كان لهذا الرمز علاقة بالإله الكبير فمن هنا يأتي تقديسه ، وليس مقدسا بذاته ، أي أن المقدسات تقسّم إلى مقدس لذاته ومقدس لغيره ، فالمسلمون يطوفون على الكعبة ، وهذا ليس مشهدا وثنيا كما يتصوره البعض ، لأن الكعبة مقدسة لغيرها وليس لذاتها، لأنها أول بيت وضع للناس وعبد فيه الله على الارض ، وكذلك بقية الطواطم، لها نفس الدافع التقديسي لغيرها وليس لذاتها .

الإنسان يعرف أن الصقر عبارة عن طائر يبيض ويأكل للحم ويمرض ويموت ويستطيع تربيته والاستفادة منه ، فكيف يكون ربه ؟ هذا لا يفعله عاقل ، فما بالك بشجرة او صخرة ؟ عبّاد الاصنام قالوا (ما عبدناهم الا ليقربونا الى الله زلفى) لكنهم يكذبون لأنهم عظّموا اصنامهم و نسوا حق الله . (ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولون الله) لكنهم يصرفون حقوق الله لهذه الاصنام ، لماذا ؟ لسببين :

الاول : انها تعطيهم حرية التشريع ، بدلا من تشريع الله الحق .

الثاني : انها ترمز لعصبيتهم وتجمعهم (مودة بينكم) .

تحياتي لك ..