الأحد، 31 يناير 2016

فكرة وتعليق : الإنسان تحكمه العادات، والفضائل مجرد عادات



رد على فكرة "وليم جيمس" البراغماتي بأن الإنسان تحكمه العادات، وأن الفضائل مجرد عادات ، وأن العادة مجرد مران للخلايا العصبية :


"قال "جيمس" إن أساس العادات الجيدة هو التصرف الحاسم مع الحلول والقرارات التي يتخذها المرء ,إن الأفعال تخلق آثارا حركية في أجهزتنا العصبية وتحول الرغبة إلى عادة ,فيضطر المخ أن "ينمو" حتى يتوافق مع أمانينا ,ولا يكتمل تكون الممر قبل أن يحدث ذلك السلوك المتكرر. ويقول "جيمس" إن المهم هو أن نجعل أجهزتنا العصبية حلفاءنا لا أعداءنا ,وكما أن الإنسان يدمن الخمر بعد مرات كثيرة من تعاطيه ,فإنه يستطيع أن يصبح ذو خلق قويم أو عالما أو رجل دين من خلال الكثير من السلوكات المنفصلة والعمل لساعات طويلة تخدم العادة المرغوب استحداثها .إن سلوكاتنا المتكررة تتجمع لنكون شخصياتنا"


هذه نظرة ضعيفة جدا و آلية ، تجاوزها علم النفس وواقع الحياة، كأنها فكرة صاحب مصنع رأسمالي، يريد أن يصنع البشر كيفما شاء. وعلى كلامه : العادات هي التي تتحكم بنا، مع أننا نحن من بناها، ونحن من يعدلها ونستطيع أن نغير ما بأنفسنا بقرار واحد أحيانا، في قرار واحد تستطيع أن تترك عادة درجت عليها لأربعين سنة. والأشخاص الذين تغير سلوكهم بل ونظرتهم للحياة كلها من موقف واحد، أين هي خلاياهم التي تعودت ؟ هذه نظرة ضعيفة وقاصرة، لكنها جعلت منه فيلسوفا عظيما لأن كلامه يعجب الرأسماليين وأصحاب الإعلام.

المفكرون الغربيون لا يعرفون الإنسان، لأنهم ماديون و جزئيون، يعممون الجزء على الكل، فبعضهم يمسك الجنس ويعممه على سلوك الإنسان، وبعضهم يمسك إرادة القوة ويعممها على كل سلوك الإنسان، وبعضهم يمسك الاقتصاد، وبعضهم يمسك العادات، وهكذا، من اكتشف جزئية عممها، الإنسان أوسع من هذا الضيق الذي يضعونه فيه، ولذلك كل صاحب نظرية من هؤلاء يعجز عن أن يطبقها بشكل شامل. لأن عندهم خطأ قاتل في النظرة للإنسان، وهي وحدة النموذج، أن الناس كلهم واحد في أساسهم، بينما القرآن هو الوحيد الذي كشف أن هناك خبيث وهناك طيب.

الكريم والشجاع والإنسان الأخلاقي بشكل عام يتبين عند الظروف، وليست مسألة عادة كعادة فرقعة الأصابع، فالكريم يحسّب ما لديه، ثم يغلّب الفضيلة على المصلحة، فالكريم يتحمل الدّية ومسؤوليات جسام رغم حاجته. و وصف الفضيلة بالعادة يعتبر احتقار لها. هذه مواقف وليست عادات. كل كريم مرّ بمواقف صار فيها بخيلا وندم عليها، بل الكريم الحقيقي يشعر أنه دائما بخيل، فأين العادة؟ هل الشجاع من عادته أن يعرض نفسه للخطر كل يوم ؟

العادة فعل لازم تُفعل بتلقائية، من العقل الوسيط، حتى أحيانا لا يشعر بها، ولا يكشفها إلا مراقب، وليس فيها صراع مع النفس، مثل المجاملات، أما التضحيات فهي تحتاج إلى قرار وليست مجرد عادات. فقد تجد إنسان فقير معدم ومع ذلك كريم في داخله، فأين العادة؟ متى يمارسها ؟ إذا امتلك المال، وإلا فكيف نعلم انه كريم؟ مع أنه كريم في داخله.

هذه التعميمات تنم عن قصور في فهم دوافع الإنسان، وهذا حري بالشخص المادي الذي يفهم المادة أكثر من الإنسان، بل ينظر إلى الإنسان كمادة، وحسبه هذه النظرة، لينتج الخلل في تقييماته. الإنسان كائن مركب من حياة معنوية وحياة مادية. والنظرة إلى نصف الشيء يعتبر نصف فهم.

ولو كانت العادة مجرد مران للخلايا العصبية كما يقول هذا الفيلسوف العظيم، لأمكن تعليم كل الناس الفضيلة ومن الصغر ، ولكان التعليم مفيدا في بناء أخلاق الإنسان، وهذا مخالف للواقع، بحيث أننا نجد بروفسورا كبير يسرق أو يزوّر، ونجد فقيرا أمّيّا يتعفف عن مثل هذه الأفعال. ولو كان هذا صحيحا لاستطعنا أن نجعل من الطفل ما نشاء : رساما، كاتبا، مطربا، شجاعا، صبورا، رقيقا ، رحيما، كريما، الخ .. وهذا الكلام ينفي فكرة الاختيار وفكرة المواهب والقدرات الخاصة، وكأن المسألة حفر طريق.

بعض الخيوط الدالة على وجود الله

النقطة الأولى :

 الإيمان بخوارق لا يخلو منه احد، حتى الملحد مؤمن بقدرة العلم على صنع الخوارق وكشف كل شي - كما يظن- ، لكن المسألة مسألة وقت يتجلى فيه الرب المنتظر (العلم) . وهو يعلم انه لا يستطيع. إذن الإنسان محتاج إلى الايمان بخوارق بسبب عجزه وضعفه .

والخوارق ليست خاصة بالدين، انظرها في الأساطير الشعبية في كل العالم. وفي هذا ما يشير إلى حاجة الإنسان لوجود اله قوي يقدر على ما لا يقدر عليه ، وهو من الخيوط الدالة على وجود الله، فالحاجة العامة إلى الشيء تدل على وجود الشيء.، لهذا لجأ إلى الخوارق والأساطير. حتى الإلحاد لا يخلو من رغبة جامحة بالإيمان بخوارق سوف تأتي - أو جاءت وحدثت قبل ملايين السنين - من خلال العلم وتفسيرات علماء الإلحاد الخيالية ، أو من خلال المختبر الذي سيكشف لنا سر الوجود ومعنى الحياة ويجعلنا خالدين في شباب دائم ولذة دائمة و أمنيات إلحادية وردية .. إن اللجوء للخوارق أمرٌ حتمي لفهم الحياة . الملحد يؤمن بالخوارق في الماضي والحاضر والمستقبل، بل هو الأكثر إيمانا بها، لكن إذا جاء الكلام عن الله يتوقف، وهذا دليل على أن المانع هو كراهية وجود اله عادل ينصف المظلومين. و داوكينز يؤمن باحتمالية وجود كائنات فضائية هي السبب في تطورنا، ولكن لا يقبل مطلقا احتمال وجود اله.

النقطة الثانية :

لا يوجد شيء تافه (قانون) فكل شيء مهم وقائم بدوره والأشياء كلها متشابكة ومترابطة, فالحيوانات تحتاج النباتات والنباتات تحتاج للرياح والشمس والماء والتربة والمعادن والبكتريا والحيوانات والطيور وهكذا.., والشبكة من الاحتياجات لها نهاية منطقيا, فلابد أن تنتهي بواحد هو الخالق الصمد, والصمد هو المقصود والمرجع لكل شيء, مثلما تنتهي سلسلة السببية منطقيا بواحد, وهذا من الخيوط المنطقية الدالة على وجود الله, فلا يمكن أن تلتف شبكة الاحتياجات على نفسها أو سلسلة السببية على نفسها.

النقطة الثالثة :

الشعور الإنساني لا يعرف أن المال أو المجتمع أو الناس أشياء ذات أهمية , ولكنه يريد أن يعرف هل هو على صواب أم على خطأ , وهذا من الخيوط الدالة على وجود الله ، لأن الشعور يبحث عن ربه وهو الفطرة السليمة، والفطرة لا تتبدل ولا تتطور ولا تتأثر بأي مؤثر وإلا لم تكن فطرة, لكن يستطيع صاحبها أن يتجاهلها مع وجودها كما هي مشترك ثابت عند الجميع : {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} فالفطرة هي الشعور وهي تتزكى كلما ارتبط العقل بها وليس العكس؛ لأن العقل يرتبط بالعالم الخارجي.}

النقطة الرابعة :

القوة موضعية، وبالتالي القوة متنقلة, فمرة تكون مع القط ومرة تكون مع الأسد, ففي حالة التسلق تكون القوة مع القط وفي حالة الضرب تكون مع الأسد وهكذا. إذن القوة ليست ملكا لأحد. وهذا يُسقط فكرة الانتخاب الطبيعي القائمة على انتخاب الأفضل وتطوير القدرات, لأن الله قدّر وهدى وجعل كل شيء موزون, إذن القوة موزونة أيضا لا يمكن أن تتجمع بمكان بشكل كامل ومطلق. كلما تصغر الأشياء كلما يصغر معها ضعفها وتقل قوتها, إذن القوة المطلقة وهم , فالقوة لله سبحانه وتعالى, وهذا من الخيوط الدالة على وجود الله ، وهو عدم وجود شيء يمتلك القوة المطلقة مع إمكانية ذلك عقلا, إذن هو الله, فلا بد من وجود قوة لا يعتورها ضعف, فكل شيء حولنا يدور في حلقة القوة والضعف.

النقطة الخامسة :

لا أحد يستطيع أن يبني بيتا ماديا دون أن يبني بيتا معنويا أو نظريا, حتى مختار الشر لابد أن يبني بيت معنوي شرّي, مثل من يقول أن الخطيئة أساسية بالإنسان وأن أصله أناني, فيحاول أن يؤصِّل الشر و يضع له ملفات, حتى لو كان شرا لا يرتكبه هو, لذلك أكثر من يكتبون الأفكار المخالفة للدين لا يخالفونه كثيرا بواقعهم, بل أن بعضهم يصلي حتى, هذا دليل أنه يصُفّ البيت المعنوي, فيأبى شيء في الإنسان إلا أن يصفّ البيت المعنوي بكامله, و هذا يدل أنه هناك يوم دينونة, فهنالك إدانة على هذا البيت المعنوي, فما الذي يحدّ الشخص أن يصفّ هذه الأشياء وهو لم ينفذها؟ مثل أن يقول أحد : أتمنى أن يباد الفقراء و نرتاح منهم ومن مشاكلهم! مع أنه لن ينفذ هذا, فهناك أناس يتكلمون عن الشر وهم لا ينفذونه, مثل نيتشه, فالبيت المعنوي يُبنى قبل البيت المادي, لأنه يبني أشياء لا علاقة لها بواقعه, مثل الملحدين, هم ألحدوا وانتهوا لكنهم منشغلون بالدين, لماذا؟ فلماذا ينشغل بالإسلام ويقرأ نصوصه ويرد عليها مادام لا يؤمن به؟ إذن الإنسان يبحث حتى يحدد مواقفه ويحدد نيته من الشيء ثم يتركه, حتى لو كان يعلم أنه لن تمر عليه تجربة واقعية بذلك الشيء.

وهذا الموضوع من الخيوط الدالة على وجود الله, فكلٌّ يجهز ملفاته المعنوية ويجهّز سرائره ليوم تبلى فيه السرائر, إن خيرا أو شرا، فتجد أناسا كبارا بالسن ومشغولون بقضايا فكرية مستقبلية معقدة, أين هذا عن واقعهم؟ فماذا سيفعلون وهم مُقعَدون؟ هذا يعني أن المعرفة عالم و التطبيق عالم آخر.

النقطة السادسة :

المصالح والظروف والضغوط تحتِّم اختيارات, والاختيارات تجر لاختيارات أخرى بنفس المجال , فالناس في وسط بانوراما من الاختيارات, وفي هذه الحالة الإنسان بحاجة إلى قطب ومركز في داخله ليُكوِّن اختيارا كبيرا يجمع الاختيارات التي تناسبه وإلا سيكون الوضع عائما, فإذا أنت اخترت التسليم لله هذا اختيار, وهو اختيار مركزي من الممكن ربط كل شيء عليه, فستجمع جميع الاختيارات الأخرى حتى تناسب هذا الاختيار الأساسي, وإذا قلت أنك تختار لنفسك ومصالحك، هنا أنت ستتفكك، لأن المصالح تتغير، فبالتالي لا تكون اختياراتك متجمعة. وبالتالي من اختياراته ثابتة ومتجمعة هو من اختار التسليم لله, وتكون نفسه مطمئنة, فتتجمع اختياراتك وتكون على شكل سلاسل أو حبال مربوطة وثابتة, وتكون تصرفاتك ومواقفك وأعمالك بنائية تراكمية، ويصير كل ما يجري لك هو عمليات فك ارتباطات قديمة وتبديلها بسلاسل جديدة تناسب الاختيار. أما من ليس له محور ثابت فسيكون أمره فرطا، أي متناقض الشخصية، بدليل أنه لا يُعرَف، بسبب تناقض المصلحة، أي كأنه نسي نفسه، كما قال تعالى (نسوا الله فأنساهم أنفسهم) .

وعلامة التوجه السليم هو أنه كلما يمر الوقت كلما تجمع اختيارات أكثر تتواءم مع اختيارك هذا. إذا اخترت لباس معين مثلا فهذا اللباس لا يستطيع أن يجعل كل الاختيارات تتجمع حوله, أو من يتعصب لمدينة معينة مثلا لا يستطيع أن يجمع الاختيارات حول هذا التعصب, فستجده يأخذ أشياء من مدينة أخرى ، وكذلك أي تعصب آخر لا يستطيع الإنسان أن يجعله مركزا لكل اختياراته، لكن الإيمان بالله يستطيع أن يجعل اختياراتك تتمركز حوله, وهذا من الخيوط الدالة على وجود الله و على سعة الإيمان وأنه هو القادر على استيعاب الحياة كلها, فاختر أي تعصب معين ستجد أنه لا يمكن أن يستوعب كل حياتك,  لكن الإيمان بالله يستطيع أن يستوعب كل اختياراتك أي كل حياتك.

النقطة السابعة :

قصة الإلحاد : رغبة .. و تحايلٌ لأجلها .. وإذا لم ينفع العقل فليُضرب به عرض الحائط ، المهم هو الرغبة .  و إذا رمي العقل بعرض الحائط ، بان للعاقل أن الله شديد المحال ، وأنه لا يمكن إنكار وجوده إلا بالتضحية بالعقل ، و أي شيء يتوقف إنكار وجوده على التضحية بالعقل ، هو أكبر دليل على وجود ذلك الشيء .. وهذا من الخيوط الدالة على وجود الله.

النقطة الثامنة :

الأصل في الإنسان هو الوئام و التبعية الطبيعية الواعية الاختيارية لمن يستحقها ، هذا هو جوهر الإنسان .. الإنسان في أعماقه لا يحب أن يكون غالبا و لا مغلوبا ، و يكره عقيدة الصراع .. الصراع يُفرض على الناس ، و ليس من طبيعتهم ..

إذا لم تكن إلا الأسنة مركبٌ .. فما حيلة المضطر إلا ركوبها ..

فطبيعتهم هي الطاعة - في الأساس - ، ولهذا كلمة "نعم" بشكل عام ، أسهل عندهم من كلمة "لا" .. و توجد بعض الكتب التي تعلّم كيف يقول الإنسان : لا ، ولكن لا توجد كتب تعلّم كيف يقول الإنسان : نعم .. مما يدل على أن الإنسان مطيع بطبعه ، وهذا يشير إلى العبودية لله ، وهو من الخيوط الدالة عليه.

النقطة التاسعة :

كل الأفكار والفلسفات التي في العالم الآن غير متكاملة, فلا أحد يملك فلسفة متكاملة لما يعمل ويقول, والمفترض أن لا يمشي الإنسان إلا بنور ووضوح رؤية، لكن أكثر البشرية آثرت العمى على الهدى، وقالوا سنجرب حتى نجد شيئا يصلُح. والفكر البشري والأساليب البشرية والتاريخ يعيد نفسه، لأن الأفكار البشرية تعيد نفسها مع بعض التعديلات وليس فيها جديد, كالديمقراطية مثلا أصلها فكرة يونانية قديمة تم تعديلها، ومثلها العلمانية ونظرية التطور، كذلك الشيوعية فكرتها قديمة كما نجد بذورها عند الصعاليك في العصر الجاهلي مثلا، وهكذا. كذلك تعامل البشر مع الأديان منذ وجد البشر وإلى الآن تجده نفس التعامل، إما تعامل مادي أو تعامل معنوي صوفي, فإذا زادت المادية في البشر اتجهوا للصوفية، ثم يعودون للمادية مرة أخرى ، والمسيحية هي ثورة على مادية اليهود، والبوذية ثورة على الجمود في الهندوسية، والبروتستانتية ثورة على ميوعة الكاثوليكية، وهكذا. تماما مثل الطير المحبوس في قفص، سيظل يضرب نفسه بشباكه ولا يستطيع أن يقدّم حلاًّ لمشكلته حتى يتدخل عقل الإنسان ويخرجه منه، وبالمثل فالإنسان بحاجة إلى من هو أكبر منه حتى يخرجه من دورانه حول أفكاره المكررة على مر التاريخ.

إن كل رجعة لفكر قديم ومجرّب هي دليل على الدوران في الحلقة المفرغة، فالبشر لا يستطيعون أن ينقذوا أنفسهم إلا بتدخل إلهي، كالقرآن. وهذا من الخيوط المؤدية إلى الإيمان بالله, لأننا أمام مشكلة فلسفية، بل مشكلة الفلسفة كلها، ليس لها حل إلا بإتباع القرآن. لهذا الإنسان بحاجة إلى نور إلهي يرشده، وإلا فهو لا يستطيع أن يعرف شيئا لوحده، ولا يستطيع أن يتولى أمر نفسه بنفسه، لا فلسفيا ولا أخلاقيا، لأنه خلق ليكون عبدا لله. القرآن يعطي بصائر للناس يمشون عليها : (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) . فمثلا لو تأملت القرآن حين يقول أن أكثر الناس لا يؤمنون ، تراها صحيحة في الواقع , وحين يقول {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} ، تجد أنه لا صداقة ولا محبة دائمة إلا إذا جمعتها محبة الله, لكن لو أننا سرنا على أفكارنا البشرية فسندور في حلقة مفرغة، مثل الموديلات والموضات، تتكرر مع بعض التعديلات الغير أساسية، حتى يقال أنها جديدة وهي ليست جديدة.

النقطة العاشرة :

من قوانين الشعور التحلية, و التحلية تكون لما لم يكن أكثر من لما هو كائن, وهذا خيط من الخيوط الدالة على وجود الله والآخرة والجنة. وهذا يدل على وجود الحلو الكامل، فبما أنه غير موجود في الدنيا، إذن هو موجود في الآخرة، لأن الشعور رائد صاحبه، والرائد لا يكذب أبداً. مثله مثل رغبة الإنسان بالكمال، وهذا شيء محال في الدنيا، فهو يريد الكمال في العدل وفي الأخلاق وفي الجمال وغير ذلك، ويتمنى أن كل الناس طيبين ويحبون بعضهم، وهذا غير متاح في الدنيا، فما فائدة هذه الأمنية إن لم تكن مصحوبة بإيمان بالآخرة وبعدل إلهي وكمال إلهي؟ فالإنسان ناقصٌ معلّقٌ بالكمال. وهذا الدافع الشعوري للكمال هو الذي ألهم أفلاطون وغيره لتخيّل وجود عالم المثل والمدينة الفاضلة. وهو ألهم الأدباء والروائيين والشعراء والفنانين، لكن أفلاطون فشل في بناء مدينته الفاضلة، إذن هي موجودة في الأذهان ولكنها لا يمكن أن توجد في الحيز والمكان في هذه الدنيا، إذن هي موجودة في الآخرة، وإلا لما ألحّ عليها الشعور كل هذا الإلحاح، والمنطق يفترض ذلك. نحن نعرف وجود الله بالعقل وبالإحساس وبالواقع وبالعلم وبالنبوات، ليس بدليل واحد فقط، بل بأدلة لا تنتهي، ومع ذلك تبقى إيمانا وليس علما يقينا، لكنه إيمانٌ مُحفّز بعلامات ثابتة عقليا وشعوريا وواقعيا، لمن شاء أن يستقيم، لكن الله لا يُرى في هذه الدنيا.

النقطة الحادية عشرة :

مشكلة الأيديولوجيات دائما هي الضيق, فهي عبارة عن انتقاء من الواقع، والجزء لا يستوعب الكل, مثلما يفعل الماديون حينما يحاولون أن يعمّموا فكرة أن دوافع الإنسان كلها من أجل المصلحة.

من يهوى أيديولوجية معينة سينتقي أجزاء من الواقع فقط ويعممها على الواقع كله. وكل الأيديولوجيات البشرية منتقاة من الواقع وليست كل الواقع، لهذا يقول الفلاسفة وخصوصا الماديون أن الفلسفة تؤخذ من الواقع.

لا يستطيع أحد في داخل الواقع أن ينتج نظرية تستوعب الواقع كله، لأنه يجب أن يكون هذا الشخص أو هذه الجهة استوعب كل صور الواقع، وهذا مستحيل, فالتاريخ لا يعود حتى تدرسه كله, إذاً البشر بحاجة إلى نظرية من خارج واقعهم، أي ممن خلقهم وأوجدهم, والمنطق يقتضي هذا, وهذا خيط من الخيوط التي تدل على وجود الله ووحدانيته.

النقطة الثانية عشرة :

أي شعور يتحرك بداخلك لا بد له من متلقـّي, فإذا حزنت تجد نفسك بحاجة إلى من يحس بحزنك، وإذا غضبت من شيء تريد أن تشتم أحدا، وإذا أعجبت بجمال شيء قلت يا الله، وإذا خفت تريد من ينقذك. لاحظ عندما تتكلم مع غيرك، تجد لشعورك المُرسَل منك من يستقبله, مع أن هذا غير كافي, ولكن في الأمور التي لا علاقة لها بالناس من سيتلقى شعورك ؟ إن كل شعور يريد أن يرتبط بثابت واعي ومدرك, أي يريد أن يرتبط بربه, وهذا من الأدلة على وجود الله ومن الخيوط الدالة على وجوده. ولهذا الإنسان بحاجة إلى رب. وقد بيّن الله ذلك في كتابه بقوله : {وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} ، فعندما يفلس العقل هنا يتحرك الشعور ويرتبط بربه, وهذا يفسر انتشار حاجة العبودية بين الشعوب.

النقطة الثالثة عشرة :

ثنائية الثقة في الله أو الثقة في المادة هي واحدة من الثنائيات الكثيرة الموجودة في الحياة، والسبب الذي جعل الإنسان ينخدع بالمادة ويظن أنها ملجأ آمن هو أنه يستعملها في الوجه الذي يفيده هو ، ولا يحسّب وينتبه لوجوهها الأخرى الضارة، فالسكين التي تقطّع فيها الخضار من الممكن أن تقتلك, والنار التي تمدك بالدفء من الممكن أن تحرق العالم كله, فأي شيء من المادة من الممكن أن يقضي عليك, مهما كان صغيرا أو يبدو تافها. الموت نفسه كله من أسباب مادية، وهي تلك التي تثق بها ، ولا احد مات إلا بسبب مادي. ومن هنا هم مخدوعون بالمادة لأنهم رأوها بشكلها الحسن.

حتى ما يُعرف عنه انه نعمة ، قد يكون قاتلاً ، كالسيول مثلاً, والكثير من الناس ماتوا بسبب الطعام والشراب ، الذي هو أساسا ما يحفظ الحياة للإنسان. الإنسان لا يريد مفارقة الحياة، فيقف مع أي شيء يقف معه في وجه الزوال من أجل البقاء, ويضع ثقته كلها به, من الممكن أن يحب إنسانٌ أعداؤه إذا هم وقفوا معه وساندوه. الإنسان دائما معني بمحبة أي شيء يفيده أو يسانده ، وعلى قدر قلة الضرر واستمرار الفائدة تزداد المحبة لذلك الشيء .

لن ينفعك ولن يقف معك إلا المعنوي، فالمادة أثبتت بنفسها أنها غدّارة مهما حرصت على حسن استعمالها في الوجه الذي تفيدك فيه, وبعض الناس يصبغون المحبة المعنوية لأشياء مادية، فيحب مثلا سيارته ويشعر أنها مخلصة له. لدى الإنسان إحساس دائم بالحاجة إلى من يحس به، ولا يكتفي بالمادة لأنه يعلم أنها لا تحس به وطالما آذته من دون رحمة، وهذه من الخيوط الدالة على وجود الله ، لأنك تحتاج لمن يحس بك في جميع مشاكلك ، و أنت تعلم أنه لا يستطيع بشر أن يقوم بذلك ، هذا إن وجد ، ولو أحس بك لا يستطيع أن يفعل شيئاً إزاءك . أنت بحاجة لأحد يقف معك ضد المادة وتقلباتها . الطبيب لا يستطيع أن يمنع عنك الشيخوخة والموت، وعدم وجود هذا الشيء سيجعلك في قلق وخوف. الإنسان يعلم أن المادة تتعامل معه بلا إحساس ، وهذا الإحساس يدل على وجود الله ، وعدم لجوءك لله سيرميك في القلق.

النقطة الرابعة عشرة :

لماذا يستغرب الناس أن الماضي إذا ذهب لا يعود ؟ هذا دليل على أن الحياة اختبار، فلا قيمة لدى إحساس الإنسان بوجود الماضي، أي كأن الإنسان يعيش في اللحظة فقط، بمعنى أن الماضي من الناحية الشعورية ليس له علاقة بالحاضر، فشبَعُك بالأمس لا يستطيع أن ينفعك في جوعك الآن، لا تستطيع أن تستمتع في الحاضر بمتعة ماضية , فكل شيء في وقته ، أي اختبارات، فأين الذين يقولون أن الحياة تطوُّر؟ نحن نرى أن كل شيء يكون في وقته ثم يذهب، حتى الشاب المتعلم سيذهب كل علمه {لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً}. تماما مثل ماكينة تعبئة الوقود، فبعد كل تعبئة يُصفّر العداد (يرجع إلى الصفر) ، كأنك تـُصفّر ويُعاد امتحانك من جديد في كل موقف. تجد أنك دائما مجرد من التراكمات ، أي لوحدك ، مثل الطالب الذي يدخل الاختبار ويمتحن بدون الكتاب , هذا يعني أن الإنسان يُختبر في لحظته، و ينفي فكرة أن الإنسان ابن ظروفه , ويثبت أن الإنسان ابن لحظته , فسعادة الشهر الماضي ليس لها علاقة بوضعك الآن، فالظروف ليس لها دور في ذلك, فالطالب الذي يأخذ إجازة طويلة لا يعني هذا أنه سيأتي في يوم الدراسة الأول وهو مرتاح بالرغم من طول الإجازة , هذه الفكرة من الخيوط الدالة على وجود الله , وهذه عدالة في الاختبار.

النقطة الخامسة عشرة :

القدر ليس فقط الأشياء المفاجئة والغير مألوفة للعقل, فكل شيء هو قدر، حتى الأشياء المألوفة, فكل ما لا نفهمه تماما هو قدر، ونحن لا نفهم أي شيء تماما، إذاً كل شيء قدر. وما يفهمه العقل هو ما يمكن تفسيره من هذا القدر, فالعقل ليس كل شيء، والدليل هو أن كل شيء لا يمكن تفسيره عقليا تفسيرا كاملا, وإذا ملكت عقلا يفسّر كل شيء بالكامل فحينها يحق لك أن تنحّي القدر, والقوانين الطبيعية هي قدر مقدور, ومقدور أي ثابت ما شاء الله ثبوته.

اكتشاف البنسلين مثلا هو علم، لكنه حدث بقدر، فلماذا هذا الشخص بالذات هو من اكتشفه، ولماذا ليس قبل أو بعد، وتستمر الأسئلة.. العقل لا يستطيع أن يفسر هذا. إن العقل لم يجب ولا على سؤال واحد بشكل كامل ولو كان صغيرا, فكيف سيجيب عن الأسئلة التي لا نهاية لها وهو لم ينهي إجابة سؤال واحد؟

العقل جيد في الوصف أكثر من التفسير, وهو لا يستطيع أن يفسر شيئا بالكامل, لهذا كل شيء هو قدر, والعقل لا يفسّر القدر, فالقدر إرادة حرّة لله, وهذا خيط من الخيوط الدالة على وجود الله. إذن العقل ليس قادرا على فهم شيء واحد، فما بالك بترشيحه لفهم كل شيء؟ هذا يعني أننا نعيش داخل قدر الله ، ولسنا نعيش داخل الصدف العمياء كما يقول الماديون. وما اضطرهم للعدمية والعمى إلا فقدان النور، ومعرفتهم أن فلسفتهم تقف عند حد العدم، وهذه ليست هداية ولا رشد، أن تُوقِف الإنسانية على حد العدم والعمى و اللاشيء. الفلسفات المادية عدمية و حتمية العدم، وفلسفة الإيمان ممتدة ومزهرة وتضع النقط على الحروف، فأيهما أهدى؟ والتوقف على العدمية علامة ضعف وانكسار. إذن هناك حاجة فلسفية ملحّة لنظرة إيمانية، وما دام أن كل شيء لا يكتمل ولا حتى العقل والفلسفة إلا بوجود الله، إذن الله موجود. وهذا من الخيوط.

النقطة السادسة عشرة :

الماديون يصورون لنا أننا عبارة عن أجسام تجمعت وتركبت من المادة فقط، ومنها نتج التفكير والعواطف والأحاسيس, لكن الواقع هو العكس, فأنا أتألم من جسمي والناس تتألم والمرضى يتألمون, فجسمي سبّب لي مرضا, فأنا خائف من جسمي فهو من سيميتني, الذي تقولون أنه بناني ! شخص لديه حساسية في الجهاز التنفسي مثلا، تجده خائف من أن ينقطع نفسه, هو خائف من جسمه و ردود أفعاله ! وآخر لديه سرطان، تجده خائف من جسمه ! ألسنا أجساما فقط كما يقولون؟ فلماذا أنا خائف من جسمي وأقاومه؟ إذن جسمي من العالم المادي وليس هو أنا. لماذا لا أقبل قوانين جسمي الذي هو مادة ؟ إذن أنا روح أودعت في هذا الجسم وأُلبست هذا اللباس الغريب عليها أصلا. (أرواحنا في وحشة من جسومنا). نحن خائفين من أجسامنا لكن أجسامنا ليست خائفة، أجسامنا تستجيب لقوانين المادة, لكن في داخلنا شيء لا يستجيب لتلك القوانين, لو كانت أرواحنا هي أجسامنا لكان جسمنا هو من يقاوم ولا يستسلم لقوانين المادة, فأنا عند الخطر أهرب بجسمي، أما هو فلن يهرب. ولو كنت فاقدا للوعي وبجانبي نار لأكلت النار جسمي دون أن يفعل شيئا, فكيف أكون أنا جسمي؟ أنا لا أتأثر بجسمي، فجسمي يشيخ لكن روحي لا تشيخ، وجسمي يمرض وأنا لا أمرض ! إذن جسمي يموت وأنا لا أموت، بل خالد. إذن لا علاقة لهذا الجسم بي ، إذن الروح مُلبَسَة على هذا الجسم، اللباس يبلى ما لا يبلى اللابس، وهذا يشير إلى وجود حياة آخرة. إذن أنا لست جسما, إذن أنا روح, وهذا يثبت وجود الروح, الكيان المادي يستجيب للمادة ولا يعاندها, وأنا لست دماغا، فلو كنتُ دماغا لما قاومت المادة, أليس الدماغ نفسه يموت؟ أليس إذا أثّرَت به مواد سامة يتأثر؟ إذن هو مادة.

ما بعد هذا دليل أن الإنسان ليس من المادة بأنه عدوٌّ للمادة ! إذن إلى ماذا تنتمي الحياة هذه التي تقاوم عالم المادة بينما ترى العالم كله مادي ؟ إذن أنت لم تأتي من كل العالم المادي, إذن الحياة هبة من خارج العالم المادي ، منطقيا ، وهذا خيط من الخيوط الدالة على وجود الله الخالق. وعلى هذا صار التفكير المادي ضد الحياة.

النقطة السابعة عشرة :

أحيانا تكون سارح الفكر في حالة استرخاء وأنت جالس بقرب النار ويراك الآخر كأنك تحدّق في النار, وأنت في الحقيقة لا تحدق في النار بل تكون عينك بشيء بجانبها والنار تكون كأنها خلفية، مثل من يتكلم بوجود خلفية موسيقية، هو لا يركز على الموسيقى, ونفس الشيء لمن يحدق في النار. والدنيا كلها صالحة لأن تكون خلفية و خط ثان، لا أن تكون محور التركيز, أي اجعل الدنيا آخرة والآخرة دنيا {وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} . فأي شيء في الدنيا حلاوته أن يكون خلفية، لأنه لا يوجد شيء يحتمل التركيز الكامل. والدليل أن الشيء الذي تركز عليه يحترق، أنك إذا ركزت على كتاب قرأته أو شاهدت فيلما، لا تستطيع أن ترجع إليه إلا بصعوبة، لأنك قد ركزت عليه وانتهيت. أجمل الأشياء تكون وهي ليست في الصدارة، فلو تأملت الوردة فقط دون الحديقة أو المزرعة وتركّز عليها فقط، ستكون كأنك في رحلة علمية لدراستها وليس لتذوق جمالها.

التركيز مرة واحدة فقط، وهذا من قوانين الشعور, فلا تستطيع أن تصرف تركيزات على هواك, وإذا ابتسرت التركيز مرة ثانية سيكون أقل من المرة الأولى، فالشعور يرفض التركيز مرة أخرى وكذلك التكرار, إلا إن كان يرى نفس الشيء بشكل جديد. وهذا من الخيوط الدالة على عبودية الله, فلا يوجد شيء يحتمل ويستحق التركيز في الدنيا. لا شيء يتحمل إلا الله، لأن الله هو الصمد. فأينما تذهب تعود إليه، وترتاح إذا انتهيت إليه ولا تملّ, فالله تجده في كل شيء، وبالتالي لا ملل هنا. وأما من يضع الاتصال مع الله بشكل السبحة أو طقس معين فهذا تضييق, والله هو الواسع. {أينما تولوا فثم وجه الله} ، لكن لا يوجد شيء أينما تولّي فثمّ وجه ذلك الشيء ؛ ولا حتى وجه الحبيب بالنسبة لعاشقه، لذلك لا شيء يستحق أن نولّيه وجوهنا بالكامل إلا الله. وفي لحظات ذكر الله واستحضاره، الانصراف منها يكون بدافع التعب أو متطلبات الحياة، والتعب لأن محبة الله وذكره تسبب حالة إشباع وثقل جميل ومشبع في حالة السَّبْح. وتتركه ضعفا فيك وليس مللا منه، خشية أن تحترق. قال تعالى : (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا)، لكنه ثقلٌ جميل ومُشْبِع.

النقطة الثامنة عشرة :

إن الإحساس بالقبح (أو التقبيح) سلاح قوي بيد الشعور، وهو بوابة المرض النفسي، فأي مرض نفسي منشؤه وسببه تقبيح شعوري. و تحسيس الشعور لك بأنك قبيح هو من أجل أن تبحث عن جمالك. إن شعور الإنسان ليس ملكا له وإنما ملك لربه، فإذا أعرض الإنسان عن الحق فإن شعوره سيكرِّهه بنفسَه فيرى نفسه قبيحا.

أية محبة تحسها تجاه شخص ليس أساسها ارتباطه بالفضيلة ورضا الله، فهذه محبة زائفة القصد منها اختبار الشخص ومعرفة مدى استجابته للفضيلة، وسوف تتحول إلى كراهية إذا لم يتقبل. وهذه نسميها المحبة الكاذبة. وتأتي لمن لم يُبلّغ بطريق الخير وعالم الفضيلة، فإذا بانت نية الشخص وظهر رفضه واختياره لطريق الشر وعالم الرذيلة هنا تُسحب المحبّة. وهي كلها مسألة شعورية وليست عقلية، تتم في الشعور بدون تدبيرات من خارجه. والمحبة تعتمد على إظهار ميزات, وإذا سُحِبت هذه المحبة فستختفي الميزات وتظهر العيوب, إذاً الميزات والعيوب ليست هي الأساس، فإذا بان اختيار الشخص لطريق الشر والرذيلة يأتيه تقبيح قوي من الشعور حتى يُحرق التزيين الأول كله الذي بناه من أجل أن يتم تبليغه بطريق الخير والفضيلة.

الشعور يعمل بشكل عكسي لعالم الرذيلة, فكلما يزيدك عالم الشر والرذيلة من المغريات كلما يزيدك شعورك تعبا, وهذه من نعم الله على عباده أن يكون في داخلك من يهديك ويجعلك تترك الباطل لقبحه وتذهب للخير لجماله, مهما كانت عزيمتك وإرادتك لن تفعل شيئا بقدر ما يفعل التقبيح الذي يأتي من شعورك لطريق الشر وعالم الرذيلة, و أنت تعرف أن طريق الشر الذي كنتَ تحبه سابقا وكَرهَك به شعورك لن تعود وتحبه أبدا. هذا الرعب الذي يأتي فجأة من طريق الشر والرذيلة هو من  الخيوط الدالة على وجود الله ولطفه بعباده، فالشعور الفطري بمثابة النبي الثاني لنا، (فطرة الله التي فطر الناس عليها) ، (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة).

النقطة التاسعة عشرة :

الناس يهابون كل من يعرفون أنه مختار للخير وعبد لله , وهذه الهيبة هيبة احترام وليست خوفا، مهما كانوا مختلفين عن طريقه، و في داخلهم احترام له ورغبة في خدمته ويحسون أنه أجمل منهم، وكلهم يحسون بذلك ولكن بعضهم يُزكّي هذا الأمر وبعضهم يدسّيه ويحاول إظهار العكس، لكنه يظل مُردَّدا على لسانه، وكذلك لا يستطيعون نسيانه. وهذا دليل على وجود الله ومن الخيوط الدالة عليه، فهيبة عبد الله والملتزم بالفضيلة من هيبة الله في شعورات البشر، ومن يحترم شعوره له الاحترام دائما، لأن الشعور يؤدي إلى خالقه. كل ما يتعلق بالله له هيبة ووقار ، ما أكثر من يلبسون شرورهم بلباس ديني، أو لباس من الفضيلة، لماذا ؟ الدين والفضيلة وجهان لعملة واحدة. لماذا الكل يتملقها ؟ الصادق وغير الصادق؟  

النقطة العشرون :

لا تستطيع أن تتأكد من حب الشخص إلا إذا تأكدت أنه يحب ما تحب، فيكون بينكم رابط خارجي مشترك. وهذا من الخيوط التي تؤدي إلى الإيمان بالله، لأن الله هو الرابط الوحيد الذي يستطيع أن يجمع كل الناس حتى يحبوا بعضهم. وعلى هذا لا يوجد "حب لشيء" ، بل "حب في شيء". وهذا معنى الحب في الله.

"الحب في الشيء" أضمن وأصح من "حب الشيء" (قانون) ، فأن تحب أحدا في الله أضمن وأدوم وأنفع من أن تحبه هو في ذاته، لأنك تعرف الشخص وتضمنه من معرفة ما تعرف، وتقيس انحرافه عنك بانحرافه عن الوجهة فلا تُفاجأ. إذا كانت المحبة في شيء منقفل وغير ممتد، فالاجتماع على محبة هذا الشيء يعني الحسد والصراع، لأن الشيء لا يستوعب إلا واحدا. أما إذا كان المحبوب يستطيع ان يعطي أكثر من واحد، فسيكون هناك وئام ومحبة. فمن يَرِدون النهر ألطف تعاملا ممن يَرِدون البئر. إن الله يستطيع أن يحب و يرزق ويساعد الجميع، إذاً لا خصام على محبة الله، وبالتالي لا حسد, بل تعارف و ثقة وحسن تعامل. المحبة للشيء متعبة ومرهقة وتتطلب الكثير من العطاء، أما المحبة في الشيء تزداد دون أن ترهقك، وكلما ازداد إخلاص الشخص للشيء المشترك بينكم كلما ازداد حبك له دون أن يقدّم لك شيئا, وكثيرا ما يقدّم لك شخص شيئا ومع ذلك تكرهه، وشخصٌ لا يقدم لك شيئا ومع ذلك تحبه أكثر، وهذا من الخيوط المؤدية إلى الإيمان بالله. لأنه لا أحد يستوعب أن يحبه الجميع بلا تحاسد إلا الله.

النقطة الحادية والعشرون :

اعلم أنه لست وحدك من يتكلم في داخلك، بل هناك غيرك من يلقي عليك الكلام و الأفكار، وهو الشيطان. فرويد نسب الأفكار الخبيثة التي يلقيها الشيطان في روعنا إلى العقل الباطن, وعلى هذه المغالطة الخطيرة بنى علم النفس، وهي مغالطة أن الشيطان هو أنت ! لهذا يجب أن تفرق بين كلامك وكلام الشيطان, فمثلما يلقي عليك إنسان أفكار لا تعجبك ويوسوس لك بها، كذلك يفعل الشيطان, بدليل أنك تكافحها ولا تريدها أن تخطر على بالك لكنها تأتي, مثلما قال أحد الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ اللهِ إني أُحَدِّثُ نفسي بالشيْءِ لأنَّ أَخِرَّ من السماءِ أحبُّ إليَّ من أن أتكلَّمَ بهِ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : (الحمدُ للهِ الذي رَدَّ كيدَهُ إلى الوسوسةِ), فيأتيهم الشيطان ويقول مثلا: من خلق الله؟ أنت لا تريد هذه الفكرة لكنها تأتيك وتلح عليك, فواضح أنها ليست منك وترى أنها عكس ما تريد, فأنت تريد الخير للناس والسعادة و تأتيك أفكار تقول : اضرب هذا أو خرب ذاك ! أنت لا تريد هذا ولو كنت تريد لفعلت ذلك, فيأتيك كلام عن أشياء تعلم أن الموت خير لك من أن تفعلها, إذن لماذا يأتي هذا الكلام ؟! لو كان منك لكنت فعلتها مادامت مهمة عندك, إذن هو مهم عند غيرك, كأن يأتيك كلام يقول احرق هذا المبنى أو اسرق, وأنت تعلم أنك مهما شعرت بالجوع لن تسرق, والتجربة خير برهان فقد مررت بفرص كثيرة للسرقة ولم تفعل, وأعجبت بنفسك ولم تندم، فكيف يكون هذا الكلام من العقل الباطن وأن هذا الكلام مكبوت فيه و يظهر على شكل أحلام و من ترسبات الطفولة لكن الحضارة هي التي تلطّفه كما يقول فرويد ؟! إذن لماذا لم تلطّف الجميع ؟ والحضارة تشمل الجميع.

أحيانا يأتيك كلام قبيح جدا عن الناس وتعلم أنك لا يمكن أن تفعله ولا تحب أن تفكر هكذا, ولكن فرويد يقول أنك لن تفعله لأن المجتمع علمك ألا تفعل هذه الأشياء وإلا لو تُرِكت على طبيعتك لفعلته ! لا يا أخي لن نفعله ! لدرجة أنه يأتينا كلام عن أشياء ليس لنا بها أي فائدة, فلماذا أبذل مجهود وأتعرض لخطر لكي أؤذي وأخرب وبلا أي فائدة ؟! ومع ذلك تأتي الفكرة ! إذن المصدر ليس أنا وليس عقلي الباطن ولا الظاهر, وبهذا عرفنا أنه ليس هناك شيء اسمه العقل الباطن، بل هناك شيطان باطن, و فرويد سمى الشيطان بالعقل الباطن, ونسب وسوسة الشيطان إلى العقل الباطن وقال: هذا هو أصلك وهذا هو أنت الحقيقي! بداخلك شر تكبته الحضارة ! وهذا غير صحيح، فمن قال أن الحضارة تكبت الشر؟ بل الحضارة تفتح الباب للشر، فها هي فتحت الباب لدور دعارة وقمار و رأسمالية واستغلال و ربا ومسكرات ومخدرات وصناعة أسلحة فتاكة وأسلحة جرثومية تدمر البشرية. الحضارة تشجع للشر. أليست قائمة على الصراع؟ إذن كلام فرويد غير صحيح أن الحضارة و المجتمع يكبت الشر، بل العكس، أفكار المجتمع في أكثرها تدعو للشر ولا تدعو للخير.

والأسوأ من هذا أن فرويد نسب الأمراض النفسية والعقلية إلى هذا الكبت! وكأنه يقول : فلان أصيب باختلال عقلي لأنه كبت الشر "عقله الباطن" الذي في داخله ! لذلك يُرجع الأمراض الذهانية و العصابية لما يسميه الكبت.

لو طلب منك أحد دليل يقيني على وجود الله، فلا يوجد أقوى من دليل وسوسة الشيطان. تجدك تشعر أن هناك من يملي عليك كلاما سيئا أو تشكيكيا ومختلفا عن ذاتك وطبيعتك بالكامل, و كل شخص يمرّ به هذا، وبعضهم يستجيب له، وتسجّل في الصحف على شكل حوادث غريبة، فشخصٌ يقوم بخنق طفل رضيع حتى الموت، وآخر يحرق كلبا، وثالث يشوّه وجهه، ومن هذا النشاز. مثل هذه الأفعال مرّت في أذهان البقية من الناس، مع أنهم يكرهون هذا الفعل، إذن كيف تمر و هم لا يحبونها وليست في بالهم ولا من اهتماماتهم؟ إذن المُمْلي واحد، وتشابه الإملاءات دليل على ذلك. الشيطان إذن موجود، وهو وسواس خناس. وإذا أردت أن تتأكد هل هذا الكلام من شعورك أم من الشيطان، اذكر الله, إذا لم يهرب فهو من شعورك، وإذا هرب فهو شيطان. إذن كلام الله صحيح ، فهو من أخبرنا عن الشيطان في القرآن, ولم يخبرنا غيره بأن الشيطان عدونا وأنه وسواس خناس وأنه إذا ذكرت الله يهرب. و كل هذا نراه في واقعنا. إذن الشيطان موجود، وبما أنه موجود إذن الله الذي أخبر عنه موجود، وهذا أكبر دليل معاش ومحسوس على وجود الله ومن الخيوط الدالة على وجوده.

السبت، 23 يناير 2016

تقوى الله والخوف منه

أي مؤمن أمامه طريقان : إما طريق جمع الحسنات ، أو طريق اتقاء السيئات، فأيهما الاصح؟

تساؤل آخر : أيهما تحب؟ ابنك الذي يتقرب لك بما تحب لكنه لا يهتم كثيرا بما تكرهه وتحذّره؟ أم ابنك الذي ينطلق من تجنّب ما تكرهه ويعمل لك ما تحبه بحسب استطاعته دون مبالغة ولا تكلف؟

المؤمن الحقيقي يعمل على الخوف من الله والسلامة من النار وعذاب الله ، كخط أساسي هو الأصل، والتقرب إلى الله فرعٌ منه، ولا يُقِيْم حسبته على الجنة وما يقرب لها بنفس الدرجة، لأن هذا سوف يبعده عن غضب الله وسيجعل منه شخصية أخلاقية ومفيدة وقدوة للناس، ومن يحذر يسلم. أما من ينظر للحسبة على أساس العمل الذي يدخل الجنة، فسينظر للأخطاء على أساس تعويضها بأعمال صالحة تزيلها، وبالتالي لن ينتج شخصية قدوة، بل متناقضة بين الخير والشر.

المؤمنون الحقيقيون هم الذين يخافون من العذاب ، و هم المسمَّون بالمتقين، وهي أكثر كلمة وُصف بها المؤمنون في القرآن، وأكثر كلمة ذكرها الله على عباده : (اتقوا الله) أكثر من أن يقول : (اعملوا للجنة).

بطريقة حساب الحسنات فقط دون السيئات، يتحول الناس إلى ما يشبه الليبرالية داخل الدين، بالتالي يستطيع ممارسة سيئات يستطيع محوها بأعمال معينة بسيطة وغير مكلفة في أوقات معينة تمحو كل هذه السيئات، بل تزيد، وهذا يُفقد فائدة الدين ولا ينتج خير أمة أخرجت للناس، وإذا قلنا سيئات فبابها مفتوح من إساءات وسوء أخلاق وظلم وتكبر وخيانة الخ، وربما نجد إساءته للآخرين يعوّضها بأعمال تعبّدية لله وليست لنفع الآخرين. فقط هذا الاتجاه يصنع اهتماما بعبادات معينة في طقوس معينة و أوقات وأماكن معينة وهذا الاتجاه يجعل الإنسان يقف محتارا كيف يصف من يفعل هكذا : (أسمع كلامك أصدقك، أرى أفعالك استغرب)، وهذا ينطبق على أي مجال عندما تأخُذ جانب الرغبات فيه و تُهمِل جانب الحذر.

هذا السلوك هو الذي سلكه أغلب اليهود كما وصفهم القرآن، فكان أغلبهم يتشددون في عبادة الله ، خصوصا في جانبها المادي والتشريعي، ولكنهم لم يكونوا يتقوا الله ويخافوه، و هم من قالوا أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودات (في أسوأ الظروف، بناء على أن الله يحبهم). بينما الله يقول (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين).

إذن الخشية من الله هي أساس العمل الصالح. ولهذا قيل : رأس الحكمة مخافة الله. و قال تعالى (وأما من خاف مقام ربه) وقال (سيتذكر من يخشى) وقال (ويتجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) و لم يقل جنة ربه العالية، فهو يتزكى بدافع الخوف من الله أكثر من الرغبة.

الخوف من الله هو سبب رضا الله أكثر من الطمع . قال تعالى (قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) أي كانوا خائفين من غضب الله وناره، وإذا بهم في جنة يحبرون، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الجنة للمتقين والخائفين، وأن تتّقِ أفضل من أن تطمع ، مثل ما أن توفر أفضل من أن تكسب ، وأن تحرص على السلامة أفضل من أن تحرص على مكسب خَطِر. والوقاية خير من العلاج، وهي من الحكمة وكمال العقل.