الخميس، 6 أغسطس 2020

التعامل مع الله، وغفران الله وعقاب الله

التعامل مع الله يجب أن يكون أخلاقيا، وفي أعلى مستوى من الأخلاق، أعلى من مستوى الأخلاق الذي نسمعه في قصص العرب وروايات شكسبير مثلا، وهذا يتجسد في تعامل الأنبياء مع ربهم، انظر إلى إسماعيل وإبراهيم كيف صدّقا الرؤيا، وتلّ إبراهيم ابنه للجبين ليذبحه برضاه وتسليمه، حينها أحبهم الله وقال لإبراهيم : لقد صدقت الرؤيا ، وقال : وفديناه بذبح عظيم، لأنهما حققا المستوى العالي من الأخلاق الذي يتناسب مع التعامل مع الله الكامل، كل صفات الله كمال وكل ما يصدر منه كمال، الله غفور رحيم والله شديد العقاب، كل ما يأتي منه وما يفعله كامل، والتعامل معه يجب أن يكون كاملا، على الأقل على مستوى النية، لأن الإنسان ضعيف، لذلك الله لا يقبل الشرك ولا التناقض ولا النفاق. قال تعالى : (إلا من أتى الله بقلب سليم).

 

 لو كان الله سبحانه بشرا لما احتجت ان تتعامل معه بهذا المستوى الأخلاقي الراقي، فشخص تحبه أو رجل عظيم مثلا أشار عليك أن تذبح ابنك، فلن تطيعه، فما بالك أن يطيع إبنك أيضا! كذلك النبي سليمان عندما قال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب، اذ تعرض عليه بالعشي الصافنات الجياد، والعشي وقت صلاة، فلكي يكفّر هذه الجريمة الأخلاقية مع الله كما يتصورها هو، قال : رُدّوها علي، فطفق يضرب أفاضل وأحاسن وأجمل الخيل بالسيف، يعقرها ويذبحها بالسيف، لكي لا تنخدش العبودية لله، وحتى لا ينجرح الخيط الأخلاقي بينه وبين الله. لذلك قال تعالى لنبيه : (فبهداهم اقتده).

 

الله لا يقبل الشرك معه في أي شيء، لان الشرك يعني حبُّ شيء وإثارته على الله، وهنا يتخلى الله عنك. المهم أن نفهم أن التعامل مع الله هو في أعلى مستوى أخلاقي نستطيع أن نطيقه، ولن نطيقه بالكامل، ونسأل الله المغفرة. البشر لا نتعامل معهم بهذا المستوى الأخلاقي الحاد جدا، مثل البدوي الذي أراد أن يذبح ابنه للضيوف، هنا تكون رذيلة، لكن أن يذبح إبراهيم ابنه لله فهنا فضيلة، لأنك في الحالة الأولى أعطيت شيئا ثمينا لمن لا يستحقه، فالله هو أهل التقوى بكل صورها ودقتها، وأهل المغفرة لنقصنا في التقوى، لأن هذا المستوى العالي لا احد يستطيع أن يطيقه، لذلك نسأل الله المغفرة، لهذا دعاء المؤمنين : (ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به).

 

لاحظ الابتلاءات التي جاءت الأنبياء، لا يتحملها البشر العادي، إلا من محّص الله قلبه للتقوى وعرف الله حق معرفته، لذلك اصطفى الله الأنبياء، فهم يحبون ما يحب الله. من يصبر كصبر نوح الذي دعا قومه سرا وجهارا لمدة تسعمائة وخمسين سنة، ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا؟ تأتي أجيال وتسخر به، وتأتي بعدها أجيال بنفس الوضع.

 

هذا الكلام يرد على من يقول أن تفعل ما تريد وتقول أن الله غفور رحيم، هذا توجّه إرجائي، نعم الله غفور رحيم لمن تاب وآمن وندم وأحسن عملا. من يتعامل مع الله بأعلى مستوى أخلاقي يستطيعه فليبشر بالخير، لان الله غفور رحيم لمثل هؤلاء، وليس لمثل أولئك المذكورين.

 

الله هو قمة الأخلاق، وعلى هذا الأساس تتعامل معه، فإن كان فيك تكبّر فلن يحبك، وإن لم يحبك فلن يغفر لك، لأن مغفرته تابعة لحبه، والله لا يحب الخائنين إلا إن تابوا وآمنوا وأصلحوا ما أفسدوه. الله لا يحب الظالمين ولا يحب المفسدين ولا يحب كل مختال فخور، ولا يحب المتكبرين ولا يحب الظالمين ولا يحب الفرحين، إلا إذا تابوا وأصلحوا.

 

هناك علاقة بين المغفرة والحب، قال تعالى: (أرضيتم بالحياة الدنيا عن الآخرة)، أي أن الله لا يحب من يتعلق بالحياة الدنيا ويرضى بها، لأنه لا يرجو الله ويحب الدنيا، فكيف يغفر ويعفو عمن لم يحبه ويحب الدنيا أكثر منه؟ هنا هو يؤثِر الباطل على الحق، فكيف يحبه ويغفر له؟

 

لو أن شخصا خانه صاحبه الذي يثق فيه مع أنه أحسن إليه، ثم غفر له ولا كأن شيئا قد حدث، الآن أصبح لدينا مخطئين وليس مخطئ واحد، لأنه لم يتب ولم يعترف بخطئه، إذن مغفرة الله لمن لا يستحق تعتبر صفة نقص وضعف، والله حاشاه أن يكون كذلك. وفي المقابل شخص أخطأ في حقك ولكنه ندم واعترف وحاول أصلاح أخطائه وأحسن سيرته، إذا لم تغفر له وتعفو عنه ستكون أنت المخطئ والأقل أخلاقا، والله لا يُغلب في الأخلاق، لا يعذّب أحدا تاب وندم، وإلا ستكون صفة نقص، والله حاشاه عن النقص الأخلاقي، وعلى هذا نفهم عفو الله ونفهم عقابه الشديد أيضا. يقول تعالى (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون).

 

إرادة الله مربوطة بأخلاق الله، والله ليس بظلام للعبيد، وهو شديد العقاب، وغفار لمن تاب وآمن وأصلح واهتدى.

 

الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إذن لا بد أن تحافظ على الأخلاق بأدق تفاصيلها مع الله، لأنه يعلم ما في قلبك ونظراتك، قال تعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا). حتى ما يدور في قلبك انت مسؤول عنه. قال تعالى: (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء). هكذا الدين الحقيقي يعلّم الأخلاق، لأن الإنسان هكذا سيصبح معتادا على التعامل الأخلاقي في أعلى مستوى، إذن التعامل الأخلاقي مع الناس يعتبر أسهل، لأنهم لا يحتاجون المستوى الأعلى من الأخلاق، وذلك لأنك لست عبدا لهم. وهكذا نفهم أن الدين أخلاق مع الخالق والمخلوقين والمخلوقات.

 

إن الله ربط الرحمة بالإحسان، والله يحب المحسنين، ويغفر لهم، قال تعالى (إن رحمة الله قريب من المحسنين). لاحظ حذف التاء المربوطة في "قريب"، دلالة على شدة القرب.

 

تصوّر الإنسان عن الله يحدد معالم دينه وأخلاقه ونظرته للحياة، لأن الله هو الأول والآخر، هناك ديانات تنظر إلى الله نظرة خاصة، كأنه يحابي فئة دون الفئات الأخرى، وبالتالي يغفر لهم، وهناك فئة تنظر فقط أن الله غفور رحيم، وكأنهم يقولون بطرف خفي: افعل ما تشاء فالله غفور رحيم، وهناك من يتصور ان الله شديد العقاب فقط، فتتحول حياته إلى الشدة والصلافة على نفسه ومن حوله، لكن كيف الجمع بين كون الله شديد العقاب وأنه غفور رحيم؟ لا يمكن فهمها إلا في وضعها في بحر الاخلاق. حينها تستطيع ان تعرف ان الله غفور رحيم وان الله شديد العقاب، شديد الرحمة وشديد العقاب. إذا فهمت هذين النقيضين وأنهما ليسا نقيضين، تكون قد بدأت في معرفة الله، كل ما يفعله الله هو في القمة، فهو يبسط الرزق لمن يشاء بغير حساب، قال تعالى (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها). والجنة قمة النعيم الذي لا نعيم بعده، والنار شدة العذاب الذي لا عذاب بعده. وكلاهما بصفة الخلود، إمعانا في الكمال.

 

لا يوجد نعيم أخف في الجنة ولا عذاب أخف في النار. فالله قوله الفصل، وأحكامه كاملة. من يعرف الله بهذه الصفة، لا بد أن يكون مراقبا لأقواله وافعاله بل حتى نياته، وهي الأهم، لأن الله يعلم السر وأخفى. وهذا هو طريق الإصلاح الحقيقي للنفس، من خلال معرفة الله حق المعرفة كما وصف نفسه في كتابه المحفوظ، ومعرفة الاخلاق البشرية من خلال معرفة الأنبياء كما وصفهم هو، لأنهم بشر، لكنهم أعرف بقدر الله وهذا ما ميزهم عن بقية البشر. إذا قلت الله غفور ورحيم واكتفيت بها، فلم تعرف قدر الله بعد، وإذا قلت أن الله شديد العقاب واكتفيت بها لم تعرف قدر الله.

 

الله هو الكمال المطلق، قال تعالى :(الله نور السموات والأرض)، ليس فقط العبادة كلها له، بل الحياة والممات، ومع ذلك ما قدروا الله حق قدره. قال تعالى (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين). إذا عَرَفَت النفس الله كما هو، اهتدت إلى طريق الصواب والنور. وهذا ليس كمالا متصوفا، بل هو الصراط المستقيم الذي نردده في كل صلواتنا، هذا هو الغاية من الدين. زكاة النفس وطهارة القلب والمشي على هدى وبصيرة من نور الله.                 

الأحد، 19 أبريل 2020

توضيح لمصطلح الفطرة

الفطرة تعني قوانين الخلق، فهي في الفيزياء والطبيعة تسمى قوانين، مثل الماء تزداد كثافته بالبرودة على عكس بقية المواد الأخرى على أنه يصنف من المادة، وفي الحيوان يقصد بها غرائز الحيوان، فعالم الحيوان ليس عالم فوضى، وليس عالم تعليم، بل ان البطة الصغيرة تفقس من البيضة وتنزل الى الماء وتسبح كأنها متعودة من مدة طويلة، ولا يمارس الحيوان الشذوذ الجنسي مثلا، وان كان هناك بعض الذكور من الحيوان يقفز على بعضها بدون ايلاج خصوصا الصغار فهو من باب اللعب والتدريب والا لوجد السحاق عند اناث الحيوان وهذا لا يوجد، الحيوان يعمل بموجب غرائز وظيفية تخدم التوازن العام مثلما يفعل قندس الماء، فتجده يبني سدودا مكلفة لكنه ينفع البيئة لأنه مسخر بإيصال الماء الى مناطق لم يصلها النهر، لأن النهر مع طول الوقت يحفر مجراه.
فالفطرة في الانسان ينبغي أن تسمى قوانين الشعور البشري وهو قوانين موجودة عند الكل بغض النظر عن كبير أو صغير أو ذكر أو انثى، مثل الاعجاب بالفضيلة حتى لو لم يمارسها الانسان أو مارس ضدها، كل شعور انسان يحترم الشجاعة والكرم والإيثار حتى لو مارس ضدها، وكل البشر يكرهون الروائح الكريهه ويحبون الروائح العطرية ويحبون الجمال بغض النظر عن وجهات النظر التفصيلية فيه، ومثل معضلة جدوى الوجود التي هي ظل لحاجته لعبودية الله، وهي من أكبر حوائج الشعور، لهذا ورد على لسان ابراهيم لفظة (الذي فطرني) وليس الذي خلقني، وعموما هي مصطلح، ولا مشاحّة في الأسماء، لكن هذا المصطلح (فطرة) كأنه يفرّق بين الخِلقة والسلوك، فكأن كلمة -فطر- تشير الى القوانين الثابته، وكلمة -خَلَقَ- تشير الى الإيجاد من عدمه، مثل قوله تعالى (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) أي هداه لسلوك فطري ينظم علاقته مع المخلوقات الأخرى، وقال تعالى (ألا له الخلق والأمر).
سلوك المادة كله فطرة، وكذلك النبات، أما سلوك الحيوان والانسان ليس شرطا أن كله فطرة، لكن لا يصح أن تنزع الفطرة منه لأنك وجدت مايخالف الفطرة، حتى مايخالف الفطرة تجد أن أساسه من الفطرة لكنه أخطأ في التقدير، سلوك الحيوان أكثره فطري والقليل منه مكتسب، الأسد يفترس لأن الخِلقة زودته بأنياب ومخالب للأفتراس، وافتراسه فطرة، ولو لم يفترس لمات جوعا، وافتراسه هذا يخدم التوازن البيئي وليس هناك أي فوضى في الأمر، وقد يقال أن الطفل قد يعبث ببرازه وهذا ليس فطريا وان كان دافعه فطريا، الفطرة أن يعاف هذه الرائحة وهذا عند كل البشر، الطفل عنده غريزة أخرى هي الرغبة في التعلم من خلال الملامسة ووضع الشيء بالفم، دعه يجرب وسوف يعافه، فتحرك بفطرة وردته فطرة أخرى، فالفطرة مسارات لكن العقل هو الذي يقيّم هذه المسارات، عقل الانسان كله نتيجة فطرة (الشعور)، الحديث يقول كل مولود يولد على الفطرة، وهذا مايؤيده الواقع ، لكنه ليس الفقه أو المذهب، إنما هي الحاجة الى موئل ومرجع ، وإذا قيل أن الطفل لن يصلي إذا ترك لوحده بدون تعليم، لكنه سوف يتسائل الاسئلة الكبرى، من أين جئت؟ ومن أوجدني؟ ...الخ، هذه هي اسئلة الشعور الوجودية التي تحتاج الى اجابة شافيه وإلا لن تكون هناك أي راحة حقيقة أو طمأنينة، وكلما كبر الانسان اتضحت هذه الاسئلة بشكل ملح، وهكذا نجد أن كل الشعوب حتى البدائية منها لها أديان، وما الإلحاد إلا موجة بدأت تثبت وجودها من القرن الثامن عشر مع الشك في إلحاد الملحد نفسه، لأن الانسان بحاجة الى انتماء وهوية وهو من حاجات الشعور الأساسية الفطرية، حتى سلوك السارق له أساس فطري أي شعوري، وهو الرغبة في الاكتفاء والاستغناء عن الآخرين لكنها حرفت وحرفها الشيطان الذي قال لأقعدن لهم كل مرصد، أي يرصد حركات الشعور الفطري كي يزين الزنا بعد الاعجاب الفطري بالجمال، فالشيطان عمله أن يضع الشيء في غير محله.
الشجاعة معتمدة على حسبة عقلية وشعورية، أما التهور فهو جزاف، افترض انك على ارتفاع مترين عن الأرض وعندك مجال للقفز ببعد متر سوف تقفزها بسهولة، لكن إذا كان هذا العمودين على ارتفاع 100 متر من الأرض (نفس البعد الذي قفزته سابقا) فهل ستقفز؟!، إن قفزت فأنت شجاع ولست متهور، وان لم تقفز فأنت جبان، خصوصا إذا كان هناك عمل انساني يتطلب هذه القفزة، لكن أما من يقفز من ذلك العمود المرتفع الى الأرض فهذا عمله مستقبح، لذلك الشجاعة فضيلة، وهي كما قال أرسطو بين رذيلتين، وان كان وصف ارسطو ليس دقيقا، الشجاعة هي عمل مايتاح منطقيا وشعوريا إذا اقتضى الأمر ضرورة فعله لأن هناك مغامرة، والمغامرة تحتاج الى ثمن، والشجاعة تحتاج الى ايمان بالنجاة، هكذا يكون يسمى شجاع ويفرض اعجابه على الكل، أما كلام الناس ليس دائما مقياس، نعم قد يصف متهورا بالشجاعة أو العكس، لكن المطلوب ليس مايقوله الناس، لكن المهم هو فهمه كفضيلة، بل حتى أحيانا قد يسمون الجبان شجاعا وصبورا حسب المراقب، فتحرير المفاهيم ليس مرجعة قول الناس ، بل التحليل المنطقي والفلسفي والأخلاقي.
قفزة فيلكس تعتبر شجاعة لكنها شجاعة ناقصة، ينقصها الغاية النبيلة كإنقاذ أو بحث علمي، إن حملت هذه الغاية فهي شجاعة كاملة، أما من يتسلق ناطحات السحاب فهذا على ماأظن من التهور وليس له غاية لأنه قد ينزلق ولا يضمن الأشياء الذي يستند عليها ويتمسك بها، لكن فيلكس هو مظلي أصلا لكنه زاد في الارتفاع، لاحظ ان الثقافة الغربية تركز على اتقان المهارة وتحقيق الأرقام القياسية بغض النظر عن فائدتها الحقيقية والجدوى منها، وبغض النظر عن كونها شجاعة أو تهور، بل وأحيانا تكون أرقام قياسية بالقذارة ومخالفة الذوق.
ليست الفضيلة والرذيلة نسبيتين، وإلا لكان الخير والشر كذلك، ولما وجد فواصل بين الفضيلة والرذيلة، إذن كيف يحاسب الله الناس  ولا توجد فواصل بين الصح والخطأ والحق والباطل، لا يوجد حساب الا بحدود، وإلا لما وجد شيء اسمه معروف أو منكر بين الناس، فهي على حسب المراقب، هذه نظرة الثقافة المادية للخير والشر، وبالتالي المصلحة هي التي تحكم بفضيلة الفعل أو رذيلته، مع ان المراقب إذا قلت مراقب عليك بالمراقب المحايد وليس بالمستفيد أو المتضرر، لأن آفة الرأي الهوى، ولا تقل مراقب على اطلاقها تحريا للدقة والموضوعية، لأن هناك شيء اسمه منكر تعارف الناس على انكاره، فالسرقة يجمع كل البشر على انكاره، لكن قد تجد من له مصلحة قد يبررها ويغير اسمها الى شجاعة وبراعة وخفة يد، أو قد يبررها بالغضب من الأغنياء وعدم انفاقهم على الفقراء مثلما فعل الصعاليك وروبن هود، الاسراف يجمع كل البشر على انكاره، وكذلك البخل، الكرم هو اعطاء من المزيد لمستفيد على قدر وبقدر، فعلى قدر مايكون الكرم واسع ويشمل أكثر يكون الكرم متحقق، فتذبح 20 ناقة لرجل واحد هذا اسراف، وان تطرد الفقير ولا تعطيه شيئا هذا بخل، وكلاهما رذيلة، والكرم ليس فقط بالطعام، بشاشة الوجه اكرام، والحديث مع الناس كرم، وتنوير الآخرين كرم، وأي عطاء بأي صور للعطاء هو كرم.
أرسطو الذي يقول ان الفضيلة هي بمنزلة بين رذيلتين كلامه غير شامل، لأن العلم فضيلة وهي ليست في منزله بين منزلتين، فكلما زدت علما كان ذلك أفضل، وليس الأفضل أن تكون وسطا بين الجهل والعلم، تعريف ارسطو قد ينطبق على البعض من الفضائل لكن ليس الكل مثل الانفاق والشجاعة، لكن مثلا فضيلة العبودية لله والإيمان فهي ليست وسطا، فالله قال (وزدناهم هدى) (وقل رب زدني علما) والهدى والعلم والإيمان كلها فضائل وليست وسطا بين رذيلتين، بينما قال تعالى (والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) أي تحرّي الحكمة بحيث أن يكرم الضيف ولا يفنى المال.

السبت، 14 مارس 2020

التعصب

التعصب آفة ولا يسلم منه الا من رحم الله, ومن السهل لأي أحد أن يشعل الفتنة في أجواء التعصب, والتعصب يأتي كتعويض عن الانتماء الطبيعي, وإذا وجد هذا الانتماء تغيرت الخارطة, وهو قد أتى أساسا من تحديد موقفك من الثنائيات, فعند الإنسان غريزة تحديد الموقف, وتجد حتى الأطفال يحددون مواقفهم من قضايا عالمية, وإذا لم يعرفوا يسألوا الكبار ليساعدوهم في تحديد الاختيار, وفي اي تنافس او صراع يبحث الانسان تلقائيا (هل انا في هذا الصف او الصف الآخر), ولو تمر ببلد فيه فريقين رياضيين يقتسمان الجمهور, تجد أنك تًخيَّر ذاتيا بدافع غريزة التقييم لتنتمي لأحدهما, (فكلما تخرج ثنائية كلما يحدد الإنسان موقفه منها)(قانون) فالاختيار بين الثنائيات من قوانين الشعور (قانون), حتى لو رفض كلاهما سيبقى هناك تفضيل ومقارنة بينهما في نفسه, وهذا يدل على ان الانسان يملك غريزة قوية وهي التقييم التي هي اهم الغرايز العقلية, ولان اكثر الناس لا تسعفهم غريزتهم في تقييم كل شيء فانهم يلجأون الى من يثقون بهم كقدوة لاجل التقييم والتوجيه وبيان المهم وغير المهم, وأساسها هذه الغريزة أتى التقييم بين الاختيارين اي الخير والشر, ولهذا القضايا التي يُراد أن يحدَد الناس رأيهم فيها يؤتى بها على شكل ثنائية, ولهذا الملاحدة يحاولون أن يجعلوا العلم في ثنائية مع الدين, وهذه نسميها خدعة الثنائية, أي أن يريد أحد أن يجعل ثنائية من شيئين ليسا نقيضين. ولما تعرض للشعور مجموعات فسوف يبحث عن الثنائية, (البحث عن الثنائية من قوانين الشعور), فلو يقدم لك مجموعة لاختيار من متعدد ستجد أنك ستحتار بين خيارين اثنين فقط وفي الأخير ستحدد موقفك.
 إذا لم تنتمي إلى انتماء كبير ستنتمي لانتماءات صغيرة, والإنسان الغير مرتبط بالله سيكون متعصبا حتميا لنفسه ولما حوله من مادي او معنوي ولما يعرف(قانون), وقد يحتقر كل ما لم يدخل في نطاق حياته ومجتمعه, مثل ما هو مشهور عند الرحالة عن نظرة ابناء القبائل لمن لا يعرف لغته ولا عاداتهم فإنهم قد يحتقرونه, بينما نفس الشخص يكبر في عيونهم كلما عرف لهجتهم وعاداتهم, وهذه علامة التعصب انه يستهين بكل شيء خارج عن نطاق تعصبه, وكل شيء فيه تعصب سواء في الفكر والرياضة والقبيلة والدولة والوطن ..إلخ.
التعصب معناه أنك تحافظ على مجموعة معينة وان ميزاتهم وعيوبهم ستصلك, فعيوب بعض أفراد القبيلة يلحق باقي القبيلة, أما العبودية لله فتجعل كل شخص مسؤول عن سلوكه وليس مسؤولا عن سلوك الآخرين, قال تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى), ونفهم من هذا أن الإسلام ضد التعصب لأنه باب التعميم والظلم, والتعصب يقيد الحرية, إذ لا يوجد حر حقيقي على الأرض إلا من يعبد الله, نحن لسنا ضد المحبة والانتماء للاشياء التي احتك بها الانسان في حياته, ولسنا ضد ان يحب مجتمعه ووطنه, لكننا ضد ان يحتقر ما سوى مجموعته وأن يقف مع مجموعته على الحق أو الباطل, وهذه هي الصفة الثانية في التعصب المذموم,
صفات التعصب:
الصفة الاولى هي احتقار الآخر, اما الصفة الثانية هي تقديم الدعم دون مراجعة للحق والباطل, مثل ما قال الشاعر الجاهلي:
وما أنا الا من غزيَّة ان غوت ...  غويت وان ترشد غزية أرشد
أي تسليم مطلق للتعصب, التعصب يحتاج لشعارات مادية لتميزه عن التعصبات الأخرى, أما عبودية الله ليس فيها شعارات, والتعصب هو من اقوى الاسباب التي انتجت عبادة غير الله مع الله, كما قال تعالى:(مودة بينكم). هذا الطوطم او التمثال او الوثن كرمز خاص للمجموعة, وهكذا كل مجموعة لهم رموز التي يدَّعون انها تقربهم الى الله زلفى, مع انهم واقعيا يفضلونها على الله مع انهم يعترفون ان الله هو الخالق وهو الرازق.
 المشكلة في التعصب هي التعميم (العيب الثالث او الصفة الثالثة للتعصب) بالميزات والسلبيات, فالجهة التي تتعصب لها إذا أحد منهم فعل شيئا حسنا تشعر أنك كسبت, وإذا أخطأ تشعر بأنك خسرت, فتستمر نقاط الضعف موجودة, فبكلا الحالتين أنت ظالم ومظلوم, فأنت تأخذ مكسب ليس بمجهودك وتدخل فيمن يحبون أن يحمدوا بمالم يفعلوا, فإذا فاز نادي رياضي مثلا يشعر المتعصب له أنه كسب وإذا خسر يشعر بالانكسار ويتعرض للسخرية بسبب خطأ غيره. ونقاط الضعف هذه تستغلها التعصبات الأخرى, وأنت تستغل نقاط ضعف التعصب الآخر وتستمر الحكاية صراع وعداوة, وبالتالي لا وجود حقيقي لألفة حقيقية بين البشر في الوقت الذي تنبني حياتهم على تعصبات وبالتالي صراعات, والشيء لا يصنع نقيضه, والصراع لا يصنع وئام, وبما أنه لا يوجد انتماء بشري يستطيع ان يحتوي كل الناس, بالتالي لن يكون الناس في وئام, لهذا قال تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} لأن هذا الحبل هو ما يستطيع أن يجمع كل البشر في نسق أخوي بدون صراع, إذ لا وجود حقيقي للصراع بين من يرتبطون بحبل الله جميعا, فالتسليم لله ينهي كل مشكلة التعصبات ويحولها إلى اختيار وولاء هادئ مبني على فكرة الخير والشر كما أمر الله.
وفكرة الصراع كلها إما صراع مفروض أو مفتعل, المفروض يقف عند حد الدفاع ولا يستمر, والمفتعل أي المرغوب هو الذي يستمر من الأمور الصغيرة إلى الأمور الكبيرة لأنه يغذَى, والمؤمن الحق لا يغذي الصراع لأنه يدفع بالتي هي أحسن ويصبر وإذا عاقب يعاقب بمثل ما عوقب به فقط ولا يتمادى, ويعاقب الجاني وليس عقابا تعصبيا عاما, لان المتعصب عنده مشكلة رابعة وهي أنه يعتقد ان الكل متعصبين مثله (وهذا العيب او الصفة الرابعة للتعصب), بل لا يصدق انه لا يوجد انسان متعصب, وكم من البشر ظلموا نتيجة الباسهم لباس تعصب مضاد قد لا يكونوا يعرفونه.
بعبودية الله تنحسر نار الصراع, فالمؤمن الحق إذاً يًخرج خير الناس أكثر مما يخرج شرورهم ويضطرهم لزيادة الشر.
والتعصب كتطرف وتشدد يأتي من أن هذا الانتماء لا يحتمل الشعور أصلا لانه مليء بالعيوب والاخطاء ولا يوجد كامل, والشعور يريد كامل, فيكون الشخص متوتر ويحاول أن يخفي العيوب, فكل متعصب لايقول العيوب في ما يتعصب له, لكن التعصب (الانتماء) لله لا يسبب توتر لأن منهج الله يتحمل كل شيء والله شديد المحال, والعابد لله اسهل ما عليه ان يقول عيوبه وتقصيره هو, لان مجال العبودية ليس مجال صراع بل مجال خضوع, ولا أحد يستطيع أن ينتقص من انتمائك حقيقة لكن انتماءاتك البشرية ممكن أن ينتقص منها, وهذا فرق بين الانتماء والتعصب, التعصب يصاحبه تشنج وكذب وادعاءات وتطاول الاصوات, والاطول هو الصحيح, لأن هذه الأشياء لا تحتمل الحب الذي قُدم لها, والله هو الذي يحتمل الحب المطلق لأن الله هو الكامل والباقي كله مليء بالعيوب, فأي منهج لا يحتمل الحب الكامل سيؤدي إلى صراع.
وأيضا الشائعات تدخل من خلال التعصبات.
التعميم يسبب ظلم, فمن يسخر من قبيلتك ستسخر من قبيلته كلها ولن تسخر منه هو, فكل متعصب ظالم لأنها ليست مواجهات شخصية بل مواجهة تعصب بتعصب ومجموعة بمجموعة, والمتعصب يدخل أناس في التعصب ليسوا فيه, فالناس كلهم يراهم المتعصب إما مع أوضد.

الأربعاء، 11 مارس 2020

حيلة التقريب عند الإنسان (جدوى التصنيف)

التقريب من الحيل العقلية للفهم عند الإنسان، فالتحوير للأقرب من قوانين العقل , وهناك رغبة بإيجاد الفوارق للتفريق, لكن النتيجة أدبية تقريبية وليست علمية, مثلما يحصل في محاولة التفريق بين الأعراق البشرية أو بين سكان بلد وسكان بلد آخر، لكنها غير دقيقة علميا, وكثيرا ما نفاجأ بخطأ تقييمنا المبني على هذه الفروقات. هذا ما يحصل في تصنيف الأحياء في الطبيعة, كثيرا ما يُفاجأ العلماء بما يخالف القواعد التي بنوا عليها تصنيفاتهم, مما يدل على أنه تصنيف ليس مبنيا على أساس علمي، بل تقريبي مبني على التشابهات الواضحة –وأحيانا المتكلفة- .

جدوى التصنيف ليست للتفريق العلمي, بل لتسهيل المعرفة ولتنحية ما هو ضدها, وهذا من وسائل العقل البشري في التمييز والتصنيف، فإذا قلت أن النعامة من الطيور، فهذا يخرجها من أن تكون من الحشرات أو الفطريات ..إلخ, لكن لا يعني هذا أنك عرّفت النعامة كما هي, بل عرّفتها بضدها، وبضدها تتميز الأِشياء.

كل التصنيفات في الطبيعة حتى في عالم المادة غير علمية, لكن معرفة الخواص دقيقة علميا, أما التصنيف فهو للتقريب ليس إلا. الزئبق مثلا مصنف من ضمن المعادن، لكنه سائل وليس صلبا, والمعدن من صفاته أنه قابل للطرق والسحب، أي صلب. والماء مصنف كسائل مع أنه إذا تجمد تمدد ولم ينكمش, وهم يقولون أن المادة تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة, والماء مادة لكنه يكسر هذه القاعدة التصنيفية. بل المادة نفسها لا يمكن فهمها, فلا شيء يمكن ضبطه في الطبيعة, لكن ضبط الخواص هو العلم, فخواص الذهب لا تكذب أبدا, مثلما أن خواص الدب لا تكذب, إذن نحن نعرف الأشياء من خواصها وليس من ذواتها, فضلا عن أنسابها كما يدعي التطوريون!

نحن لا نفهم إلا من خلال الصفات التي يعمل عليها تمييزنا, هذا هو علمنا البشري, لهذا علمنا قاصر مع أنه علم, قال تعالى:{وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}. لذلك المنهج العلمي الوصفي هو المنهج المحترم، وهو المنهج العلمي الحقيقي، والخروج عنه يبعدك عن العلم ويؤدي للخرافة والوهم العلمي. العالِم المحترم هو من يصف الظاهرة أو الكائن الحي ويفسر من خلال الظواهر, محاولا الاستفادة منها، أي ظواهر بظواهر, مثل ما يربط ظاهرة المطر بظاهرة التبخر. هذه هي الدراسة العلمية, كأن يدرس معدن الزنك وأنه ينصهر في درجة حرارة كذا و ناقليته للكهرباء كذا و وزنه كذا..إلخ, هذه دراسة علمية مفيدة, مع أننا لا نعرف ما هي حقيقة الحرارة ولا حقيقة الكهرباء ولا حقيقة الجاذبية ولا حتى حقيقة الزنك ما هي! لماذا صار الزنك زنكا؟ نحن لم نعرف حقيقة ذواتنا ما هي! فكيف نعرف ماهية ما حولنا؟ التصنيف العلمي يجب أن يقوم على معرفة الماهيات، وهذا غير ممكن للإنسان أن يعرف ماهية شيء واحد.

وهذا لا يعني إلغاء كل التصنيفات بل نحن محتاجون لها, لكن لا نسميها "علمية" ، لأن لكل تصنيف ستجد فيه شذوذات واختراقات, وما دام انه اخترق فليس تصنيفا علميا، فلا يصح أن يكون تصنيف ما علميا و له استثناء وشذوذ عن القاعدة في نفس الوقت.

نحن نستطيع أن نصنف ما نصنع نحن، لكن لا نستطيع أن نصنف ما صنعه الله, فنصنّف هذا النوع من الدراجات، أنها دراجات هوائية وتلك دراجات نارية, وذلك النوع سيارات سباق وتلك سيارات نقل وهكذا, هذا تصنيف دقيق علميا لأنه تصنيف لأشياء نحن من صنعها, أما الطبيعة فلم نصنعها نحن حتى نصنفها, والله يقول : {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم} وقال: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} وقال: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}, فمن صنع شيئا فهو أدرى به.

وهذا الكلام ليس تشكيكا في العلم, فالعلم قطعي لكن في مجاله. إن أي تفسير في مجال الطبيعة أو تنسيب (أي يُنسب إلى شيء) فهذا يعتبر تفسير وتنسيب أدبي وليس علمي. الماديون حرفوا العلم عن دراسة الوصف إلى محاولة معرفة الماهية والأًصل, وبالتالي خرجوا عن نطاق العلم, أخذوا الألماس مثلا وانشغلوا بتصنيفه وبكيفية تكونه في الطبيعة وتاريخه, هذه فلسفة وليست علما مفيدا, و هذه الدراسات تفتقر للتجربة, إذا استطاع أحد أن يقوم بتجربة يصنع من خلالها ألماسا فسيكون كلامه علميا. ويبقى العالِم الوصفي هو العالِم الحقيقي الذي أخبرنا عن ميزات هذا المعدن, ومثله العالِم التطبيقي الذي يُدخله في تطبيقات ومبتكرات, أما الثالث (التفسيري) فهو متفلسف وليس عالما. العلم وصفي وتطبيقي وليس تفسيريا في الأصول. التفسيري يكون عالِما إذا أجرى تجربة ناجحة ومكررة, إذ لا علم بلا تجارب. ونظرية التطور كلها في مجال الفلسفة، لأنها ليست لديها تطبيقات ولا يمكن التجريب فيها.

العلم يوصًف الظاهرة كما هي بدون أن يفسّر, ويأتي ليستفيد منها بشكل أو بآخر. لهذا العلم لا يسير إلا بإثباتات وبتجارب وبمشاهدات, وبدونها لا يكون علما، بل ضربا من ضروب الفلسفة. هل من العلم أن تُحيل التجربة إلى ملايين السنين السابقة مثلا كما هي تجارب الداروينيين؟ هذا كلام غير علمي. يجب إعادة العلم إلى نصابه ومساره الحقيقي حتى لا يختلط بالفلسفة والنظريات. يستطيع اي احد ان يقول ان الحياة خرجت من الحديد عبر ملايين السنين، وهيا جرب! وأمامك ملايين السنين!