الأربعاء، 27 أكتوبر 2010

دوركايم و الدين والمجتمع "الرد على إميل دوركايم .. من كتاب ( الأشكال الاساسية للحياة الدينية) .."


الرد على اقتباسات من كتاب "التيارات الأساسية في الفكر الاجتماعي"
تأليف ريموند أرون

اسم الكتاب الإنجليزي:
Main Currents in Sociological Thought
Raymond Aron
.

ترجمة  samird
)
مقالة من الكتاب وليس الكتاب كاملاً)


اقتباس:
الأشكال الأساسية للحياة الدينية" هو الكتاب الثالث لدوركايم وهو بلا شك أكثر كتبه أهمية وعمقا وأصالة، وهو برأيي الكتاب الذي تتجلى فيه روح المؤلف.

في هذا الكتاب يضع دوركايم نصب عينيه هدفا وهو تطوير نظرية عامة عن الدين، والتي تبلورت من خلال تحليل المؤسسات الدينية الأكثر بساطة وبدائية. من هذه الجملة فحسب نتعلم عن أحد الأفكار الرئيسية لدوركايم : من الجائز ومن الممكن أن نطور نظرية عن الأديان المتطورة اعتمادا على دراسة الدين في أشكاله الأساسية والبدائية. فالطوطمية(1) تكشف ماهية الدين. كل استنتاجات دوركايم من أبحاثه عن الطوطمية ترتكز على فرضية أنه من الممكن إدراك ماهية ظاهرة اجتماعية ما بناء على معاينة أشكالها الأساسية.

هناك سبب إضافي للأهمية البالغة للطوطمية في نظرية دوركايم. فهو يعتقد أن العلم، في أيامنا هذه، يحتل مركز السلطة الثقافية والأخلاقية العليا في المجتمعات الفردانية والعقلانية. من الممكن أن نذهب إلى ما هو أبعد من العلم ولكن دون أن نكفر بأهميته أو أن نلغي قيمة الأشياء التي يعلمها. ومع ذلك، فإن المجتمع الذي يحدد ويكوّن ظروفا لانتشار الفردانية والعقلانية، يحتاج، كأي مجتمع آخر، إلى معتقدات جماعية. غير أنه يبدو أن الدين التقليدي، والذي لم يعد يلبي متطلبات الروح العلمية، لن يستطيع تلبية متطلبات هذه المعتقدات والإيمان.

والاستنتاج يبدو بسيطا عند دوركايم بل ومدهشا، إذا سمح لي أن أستخدم هذه الكلمة: أليس العلم ذاته هو من اكتشف أن الدين في أساسه هو تعبير عن المجتمع في صورة أخرى أو لباس آخر؟ وإذا كان صحيحا أن البشر، على مر التاريخ، عندما سجدوا للطوطم أو لله ، فهم قد مجّدوا في الواقع فقط واقعهم الجماعي الذي أخذ شكل الدين، وبذا يمكن الخروج من المتاهة. علم الدين يثبت أنه من الممكن بناء المعتقدات اللازمة للإجماع مجددا، صحيح أن العلم لا يكفي لتوليد إيمان جماعي، ولكنه يبقي فسحة أمل في أن المجتمعات المستقبلية تستطيع أن تكوّن لنفسها آلهة جديدة، حيث أن كل آلهة الماضي لم تكن سوى المجتمع بصورة مغايرة.

بهذا المفهوم يعطي دوركايم في كتابه "الأشكال الأساسية للحياة الدينية" حلا لمشكلة التناقض بين الدين والعلم. فالعلم بحد ذاته، منذ أن اكتشف الماهية الحقيقية للأديان، فهو لا يكوّن دينا جديدا ولكنه يعزز الثقة في قدرة المجتمعات على أن تكوّن لها، في كل عصر، الآلهة التي تحتاج إليها. "المصالح الدينية ليست إلا صورة رمزية للمصالح الاجتماعية والأخلاقية."

الرد: لو كان الدين عبارة عن إيمان جماعي ، لماذا اذا الاختلافات بين المتدينيين واختلاف مستوى ايمانهم والصراع المستمر بينهم ؟ أليس هو صاحب الفكرة في أن العلم اكتشف ان الدين تعبير عن المجتمع ؟ هل هذا يعني أن دوركايم هو العلم ؟ هل هو عالم ام فيلسوف ؟ ومعنى كلامه هو أن الدين جاء بعد تكون المجتمع ، بينما الأديان هي التي كوّنت المجتمعات وبالتالي الحضارة والمدنية ،

اقتباس: 
أود القول أن من بين كل مؤلفات دوركايم، فإن كتابه "الأشكال الأساسية للحياة الدينية" هو منتَج مساوٍ في قيمته ل"أسلوب السياسة الإيجابية" لأوغوست كونت. دوركايم لا يصف دين المجتمع بالطريقة التي وصف فيها "كونت" دينه الإنساني بتفصيل بالغ. بل هو يقول بوضوح أن "كونت" أخطأ في ادعائه بأن فردا واحدا يستطيع إنشاء دين وفرضه. حيث أنه إذا كان الدين إنتاجا جماعيا، فإن الادعاء بأن عالِم اجتماع واحد يقدر أن يكوّن دينا لا يستقيم مع هذه النظرية. ومع ذلك، إذا أراد دوركايم أن يثبت أن موضوع الدين ليس سوى المجتمع بصورة أخرى، من الممكن عندها أن نقارنه ب"كونت"، حيث أراد أن يؤسس دينه المستقبلي، زعم أن الإنسانية، حين قضت على الآلهة الغيبية، فهي تحب نفسها، أو الخير الكامن فيها باسم الإنسانية.

من الممكن بحث "الأشكال الأساسية للحياة الدينية" من خلال ثلاثة نقاط معاينة، حيث أن الكتاب يحوي ثلاثة أنواع بحوث. فهو يحوي وصفا وتحليلا مفصلا عن مجموعة العشائر Clans وعن الطوطمية في داخل بعض القبائل الأسترالية، مع ذكر طفيف للقبائل الأمريكية. وفيه نظرية عن ماهية الدين التي تعتمد على بحوث الطوطمية الأسترالية. وفي النهاية يعطي تفسيرا سوسيوجيا للصور المختلفة للفكر الإنساني، أي مقدمة في علم الاجتماع الإدراكي.

من بين الثلاثة أفكار يحتل الأول أكبر مساحة، وهو البحث الذي يصف مجموعة العشائر والطوطمية. ولكن لن أتعمق فيه زيادة عن اللزوم إذ بالإمكان أن نلخص بإيجاز توصيفات دوركايم عن الموضوع.

الموضوع الثاني، أي تطوير نظرية عامة عن الدين اعتمادا على البحث الذي أجرته عن الطوطمية، هو ما يهمنا هنا. وفي هذا الكتاب يستعمل دوركايم نفس الأسلوب الذي اعتمده في كتبه السابقة، بداية هو يعرّف المشكلة، ثم يقوم بتفنيد النظريات حول نفس الموضوع والمخالفة لنظريته. وفي النهاية تأتي المرحلة الثالثة، والتي يبدي من خلالها الطبيعة الاجتماعية في ماهية الأديان.

حسب دوركايم، ماهية الدين هي تقسيم العالم إلى ظواهر مقدسة وظواهر زمنية دنيوية. لبّ الدين ليس الإيمان بإله غيبي:
فهناك أديان، وحتى متطورة للغاية، دون أي إله. معظم المذاهب البوذية لا تؤمن بإله على هيئة البشر. لا يجدر أيضا تعريف الدين بمفاهيم ومصطلحات غامضة أو فوق-طبيعية،
حيث أن هذه المصطلحات تم تكوينها في مراحل متأخرة جدا. فالفوق-طبيعي ليس له وجود إلا بالنسبة للطبيعي، ولنصل إلى فهم واضح للطبيعي لا بد من منهج تفكير إيجابي وعلمي.
إذن مصطلح الفوق-طبيعي لا يستطيع أن يأتي قبل مصطلح النظام الطبيعي، والذي بحد ذاته مصطلح تطور في فترة متأخرة جدا.

العموم الديني مبني على تقسيم العالم إلى قسمين: المقدس والدنيوي. والمقدس مكون من مجموعة اشياء، من عقائد وطقوس. وإذا كان بين هذه الأمور المقدسة علاقات تنسيق وخضوع،
بحيث تكوّن منظومة موحدة نوعا ما وليست جزءا من أية منظومة أخرى من نوع مشابه، فإن هذا المجموع من العقائد والطقوس يشكّل دينا.
الدين مؤسس على الفرضية القائلة أنه في البدء كان المقدس، وبعد ذلك تم تنظيم العقائد حول المقدس وفي النهاية تأتي الطقوس والعادات، التي تنبع من العقائد بقدر ما من المنطق.
   "
الدين هو مجموعة من العقائد  والعادات التي يوجد بينها علاقات متبادلة، مرتبطة بأشياء مقدسة، أي لأشياء منفردة ومحرمة،
   
العقائد والعادات توحد كل المؤمنين بها تحت قيادة أخلاقية واحدة تسمى كنيسة
"
   (
الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص65)
وبذا تمت إضافة مصطلح جديد لمصطلح المقدس ولمنظومة العقائد لنستطيع تمييز الدين عن السحر الذي لا يحظى بالضرورة إلى الإجماع المتواجد لدى أتباع الكنيسة.

الرد: هل الشيء يكتسب صفة القداسة وهو غير غيبي ؟ ما الذي يجعل نصف العالم مقدس وبدون إله ؟ على العكس تماما مما يقوله دوركايم ..

الفكرة المركزية هي وجود إله غيبي تتفرع من هذه الفكرة الطقوس والعبادات والمعاملات والأخلاق التي تشرف عليها الكنيسة . والبوذية وثنية ، البوذا وسيط عند الإله ، ويقول أنا الحقيقة ، وأصنامه موجودة في المعابد ، وهي مثل اصنام العرب الذين قالوا أنهم يقربونا إلى الله زلفى ، هم اشخاص معظمين لهم اصنام ترمز إليهم . والبوذا يعتقدون أنه خالد ، وأنه أكثر شخص مر بالتناسخ ، أي هو خالد ، وكيف يكون ديناً وهو ليس فيه إله ؟ المقدسات تأخذ قداستها من القوى الغيبية التي تتجلى عليها ، لأن الاشياء الغير مقدسة هي في مقدور الإنسان ولذلك لا يقدسها ، لا دين بدون إله يشع القداسة على الاشياء المقدسة في الدين وتربط به الأخلاق والعبادة ، النظام الإجتماعي لا يتقاطع مع الدين ..

الدين هو الإدانة لله بأن تدين له بكذا ، أي أنت مدين ، والإله دائن ، والإله يدينك بسبب دينك ، هل يوجد مقدس بدون قوى مركزية غيبية ؟ إذا لم يكن هناك إله ، فالظواهر الإجتماعية تسمى عادات وتقاليد ولا تسمى ديناً ، وهي التي ينطبق علها الكلام بأنها هي المجتمع ، وكل مجتمع بشري له عادات وتقاليد وله دين ، والعادات والتقاليد لا تخذ صفة المقدس الديني ، لكنها تأخذ صفة الإعتبار الإجتماعي والخوف من نقد المجتمع ، وهي التي تمثل المجتمع وتاريخ المجتمع ..

والموضوع الديني له بعد مع ميتافيزيقي والخوف والرجاء ، أما التقاليد بعدها إجتماعي ، وخوف ورجاء من المجتمع ، فالبوذية لست عادات وتقاليد لأن لها معابد واصنام مقدسات ، العادات والتقاليد ليس لها مقدسات ، مثل البخور أو قهوة الضيف ، هذه محترمة وليست مقدسة ، أي لا يفعلها بدافع ديني ، وهناك فرق بين الدوافع الدينية والدوافع الاجتماعية . 

اقتباس: بعد أن عرّف دوركايم الدين هكذا، فهو يرفض في المرحلة التالية من دراسته، كل التفسيرات التي سبقته في هذا المضمار، التفسيرات التي تظهر في الفصل الأول من كتابه،
ألا وهي الانيمية animisme والطبعانية naturisme، والتي تظهر المفاهيم الرئيسية في الأديان البدائية.
حسب الأنيمية، فالإيمان الديني معناه الإيمان بالأرواح، والتي هي عبارة عن تجسد الشعور الداخلي الذي يحس فيه الإنسان بطبيعته المزدوجة - الجسد والنفس.
أما الطبعانية فأن المعبودات هي تجسد لقوى الطبيعة.
إن تفسير هذه النظريات ورفضها يأخد مدى طويلا، ولكن هناك فكرة واحدة في أساس نفدهما، وهي أنه لو تبنينا التفسير الأنيمي أو التفسير الطبعاني،
فإن دوركايم يعتقد ان موضوع الإيمان يذوب في هذه التفسيرات دون أن يتم إمساكه. فإذا كان الدين معناه حب الأرواح اللامحسوسة، أو قوى الطبيعة التي لبست شكلا معينا بسبب الخوف البشري،
فإنها أشبه بما يكون هذيانا جماعيا. وحقا: أي علم هذا الذي تكون نتيجته الفورية ذوبان حقيقة موضوع بحثه الأساسي.

بالمقابل، يحاول دوركايم أن ينقذ واقعية الدين بواسطة تفاسيره، إذا كان الإنسان يحب تجسد مجتمعه، فهو بذلك يحب واقعا ملموسا. أي شيء ملموس وواقعي من قوة الجماعية ذاتها؟
فالدين هو شعور داخلي ثابت وأعمق من أن يكون غير متوافق مع واقع ملموس. فإذا لم يكن هذا الواقع الملموس إلها، فيتوجب عليه أن يكون على الأقل واقعا موجودا في الدرجة التي تلي الإله، ألا وهي المجتمع.

إن هدف نظرية دوركايم حول الدين هي تأسيس حقيقة موضوع الإيمان من دون الاعتراف بالمضمون الذهني للأديان التقليدية. فهذه الأخيرة محكومة بالفناء في أعقاب التطور العقلاني والعلمي.
ولكن ذات العقلانية من الممكن ان تنقذ ما يحاول دوركايم هدمه لأول وهلة، فهو يبين أن البشر لم يمجدوا في الواقع شيئا سوى مجتمعهم 
.
الرد: لماذا كان المتقدمين يمجدون مجتمعهم بل ويعبدونه ، بينما المتأخرين يلعنون مجتمعهم ؟ أليس الإنسان هو الإنسان ؟ هل يوجد إنسان راضي عن المجتمع قديما او حديثاً لدرجة العبادة ؟ كل إنسان يرى في فهمه وتفسيره وسلوكه أنه أصح والأصوب في المجتمع ، فكيف يذوب بهذا المجتمع ويهيم به هذا الهيام ؟

أفراد المجتمع متفاوتون ومختلفون في مصالحهم بل ومتضادون ، ولا يجمعهم إلا الخطر ، وإذا كانت العادات والتقاليد ، وهي من إفراز المجتمع ، تشكل دائماًعبأ ثقيلاً على الفرد ، ويتمنى زوال الكثير منها ، فكيف سيؤله المجتمع ؟  

اقتباس: لقد اعتمد دوركايم في بحثه عن الأمينية والطبعانية على مفاهيم تايلور Sir Edward Burnett Tylor وسبانسر Herbert Spencer، الذين كانا الأشهر في عصره.
نقطة الانطلاق في هذه المفاهيم هي ظاهرة الأحلام. ففي الحلم يرى الإنسان نفسه كأنه موجود في مكان لا يتواجد فيه حقيقة؛ فيخيل إليه عندئذ أن لديه شبيه ازدواجي لذاته ولجسمه،
وحينها من السهل عليه أن يتخيل أن هذا الشبيه الازدواجي ينفصل عنه وقت الموت، ليصبح روحا محلقة، أو ملاك طيب أو شرير.
إضافة لذلك فإن من الصعب على الإنسان البدائي أن يفرق بين الأشياء الحية والجمادات، لذا فهم يسكنون أرواح الموتى أو الأرواح المحلقة في أجسام محسوسة وحقيقية.
وبذا تتكون طقوس الأرواح العائلية وعبادة الآباء. من هذه الازدواجية بين الجسد والنفس، والتي مصدرها الحلم، تطور الأديان البدائية خليطا واسعا من الأرواح المحيطة بنا،
والتي تفعل الخير أو الشر.

في تفنيده المفصل، يفند دوركايم هذا التفسير عن طريق مهاجمة مركباته، واحدا تلو الآخر. لماذا يجب إعطاء الحلم هذه الأهمية؟ وإذا فرضنا ان الإنسان يدرك ذاته ككائن مزدوج،
لماذا يجب إضفاء القدسية على هذه الازدواجية؟ لماذا يجب السجود له وإعطاءه أكبر من قيمته؟ عبادة الآباء، حسب دوركايم ليست طقسا بدائيا، وليس صحيحا أن القبائل البدائية تسجد للأموات بشكل خاص.
عبادة الأموات ليست ظاهرة أولية.

بعد أن حدد دوركايم أن ماهية الدين هي المقدس، ليس من الصعب عليه أن يقف على نقاط الضعف للتفسير الأنيمي. هذا التفسير يستطيع أن يشرح تكوّن عالم الأرواح؛ وحقا، عالم الأرواح ليس عالما مقدسا.
الاساس وهو المقدس، يبقى غير مفهوم حسب التفسير الأنيمي. لا الطبيعة ولا عالم الأرواح تكتسب قدسية بذاتها. فقط المجتمع هو واقع مقدس بذاته، فهو ينتمي إلى المنظومة الطبيعية، ولكنه يتسامى فوق الطبيعة.
وهو أيضا المصدر لظاهرة الدين، والتبرير للتفرقة الطبيعية بين المقدس واللامقدس.

هنا يؤسس دوركايم العلم الحقيقي للأديان، والذي يحافظ على موضوع بحثه، على النقيض من العلوم الزائفة التي تميل إلى تذويبه:
   "لا يجدر أن يخطر بالبال أن مجموعات من الافكار مثل الدين، والتي أدت دورا مهما للغاية على مر العصور، وعليها اعتمدت الشعوب في كل الأزمنة لأجل الحصول على القوة المطلوبة لبقائها،
   لا يعقل أن تكون مجرد نسيج من الأوهام. نحن نعرف اليوم أن القضاء والأخلاق وحتى التفكير العلمي تولدت من الدين، وامتزجت به خلال فترة طويلة وبقيت متداخلة فيه.
   كيف يمكن لرؤيا وهمية أن تشكّل بطريقة صلدة ولفترة زمنية طويلة فكر ومعرفة البشر؟
   علم الأديان  يعترف بالطبع بالمبدأ القائل أن الدين لا تعبر عن شيء غير موجود في الطبيعة، لأن العلم ليس إلا للظواهر الطبيعية فحسب.
   السؤال الذي يتوجب الإجابة عليه هو من أي مملكة طبيعية جاءت هذه المحسوسات، ولماذا عبّر عنها البشر في هذه الطريقة المميزة للفكر الديني.
   لذا، كي نستطيع أن نسأل السؤال، يجب أن نتفق أولا أن التعبير هنا عن أشياء ملموسة وحقيقية.

   عندما اعلن فلاسفة القرن الثامن عشر أن الدين هو غلطة كبيرة تولدت في خيال الكهنة، فهم استطاعوا على الأكثر أن يفسروا استمرارية وجودها كمصلحة للكهنة في تضليل الشعوب.
   ولكن إذا كان صحيحا ان الشعوب هي التي صنعت هذا الفكر المغلوط وكانت هي ضحيته، كيف استمر هذا الغش والتضليل أن يتواجد كل هذه الفترة من التاريخ...

   أي علم هذا الذي نتيجته الرئيسية تؤدي إلى إلغاء الموضوع الذي يبحث فيه؟"
   (الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص98-99)

هذه جملة رائعة، ولكن أعتقد أن من ليس بعالم اجتماع أو ليس بعالم اجتماع من المذهب الدوركايمي، كان سيجيب قائلا:
هل علم الدين الذي يسجد فيه الناس للمجتمع، يحافظ على موضوع بحثه أم يؤدي إلى اختفائه؟ دوركايم، كعالم فذ، يعتقد أن علم الدين يبرز اللامحسوسية في الغيبي وفوق-الطبيعي.
ولكن هل يمكن أن نجد واقع الدين بعد أن سلبنا منه غيبيته؟

حسب رأي دوركايم، الطوطمية هي الدين الأكثر بساطة. وهذه الفكرة تلعب دورا مهما للغاية في فكره. فمن هذا الادعاء يتبين الفهم التطوري لتاريخ الدين.
فحسب الفهم اللاتطوري، تعتبر الطوطمية دينا واحدا من بين كثير من الأديان الأخرى ولا شيء غير ذلك. فإذا كان دوركايم يزعم أن الدين -الدين بأل التعريف-
الأكثر بساطة أو الأكثر أساسية، فإنه يقول بشكل غير مباشر أن الدين ينبع من مصدر واحد.

إضافة لذلك، لأجل فهم ماهية الدين حسب هذه الحالة الخاصة والمميزة للطوطمية، يجب تقبل الفكرة القائلة بأن شعورا داخليا واحدا تم اختياره بعناية،
يمكن أن يعبر عن ماهية ظاهرة مشتركة لكل المجتمعات. نظرية دوركايم عن الدين لم تتطور نتاجا لدراسة عدد كبير من الظواهر الدينية.
بل إن ماهية الدين يمكن فهمها بناء على حالة خاصة، تعدّ معبرة عن ماهية وجوهر كل الظواهر المشابهة والتابعة للنوع ذاته.

دوركايم يحلل هذا الدين الأكثر بساطة، عبادة الأوثان، بمساعدة المصطلحات كلان clan وطوطم. الكلان هو مجموعة من الاقارب لا تتصل بصلة الدم بالضرورة.
إنه مجموعة من الناس، وربما كانت الأبسط، تعبر عن هويتها بربط ذاتها بنبتة أو بكائن حي معين. عند القبائل الأسترالية يتم انتقال الطوطم الكلاني،
أي الطوطم المرتبط بالكلان، عن طريق الام بشكل عام. وليس لهذا الانتقال قانونية ثابتة، فعدا عن الطواطم المرتبطة بالكلان هنالك طواطم شخصية
وطواطم لمجموعات أكثر تطورا مثل الفراتريات phratry (مجموعة من الكلانات المرتبطة ببعضها) أو روابط أخرى تتكون بطريق الزواج.

لدى القبائل الأسترالية التي بحثها دوركايم،  لكل طوطم إشارة أو رمز خاص. فتقريبا بكل كلان هنالك أغراض، مثل قطع خشبية أو حجارة مصقولة،
ترمز للطوطم وتحمل جزءا من القداسة المرتبطة به. من السهل علينا فهم هذه الظاهرة. ففي المجتمعات المعاصرة يوجد للعَلَم قيمة مساوية للchuriga عند الأستراليين.
فهو يحمل جزءا من القداسة التي يملكها الوطن. وتدنيسه مرتبط بظواهر معينه يحللها دوركايم في كتبه. الأغراض الطوطمية التي تحمل رمز الطوطم،
يجب أن تثير سلوكا يحمل طابعا دينيا، مثل الفرائض (افعل) أو المحرمات (لا تفعل). ففي حالة النواهي يتوجب على المنتمين للكلان أن يمتنعوا عن أكل الطوطم
أو لمسه أو لمس الأغراض التي تحمل قدسيته. وفي حالة الفرائض عليهم إبداء التبجيل والاحترام للطوطم بطريقة معروفة ومحددة.

وهكذا تكوّن في المجتمعات الأسترالية عالم من المقدسات يشمل أولا النباتات أو الحيوانات التي تشكل طوطما بذاتها، ثم بعد ذلك تأتي الأغراض الرامزة للطوطم.
وفي النهاية تنتقل القدسية لأفراد المجتمع نفسه. ويمكن الإيجاز بالقول، أن الواقع بكليّته ينقسم إلى فرعين أساسيين: الأشياء الدنيوية، تلك التي ننهج تجاهها سلوكا "اقتصاديا"،
حيث أن النشاط الاقتصادي هو نشاط دنيوي بشكل ظاهر؛ وفي المقابل هناك عالم متكامل من الأشياء المقدسة، نباتات، حيوانات، صور هذه النباتات والحيوانات،
وأفراد يرتبطون بهذه المقدسات في أعقاب انتمائهم للكلان. أي أن هذا عالم تم تنظيمه بقدر معين من المنهجية.

لأجل تفسير الطوطمية، يفند دوركايم أولا، كعادته، التفسيرات التي تفسر نشأة الطوطمية من دين أكثر بدائية. فهو يدحض التفسير الزاعم أن الطوطمية تطورت من عبادة الآباء،
أو التفسير الذي يرى في عبادة الحيوانات ظاهرة أكثر قِدَما. كذلك هو يرفض الفكرة القائلة أن عبادة الطوطم الشخصي سبقت عبادة الطوطم الكلاني،
أو الفكرة القائلة أن عبادة الطوطم المحلّي - نسبة الطوطم إلى مكان معين - كانت هي الظاهرة الأولى. فهو يعتقد أن عبادة الطوطم الكلاني كانت هي الدين الأول،
سواء كان ذلك من ناحية تاريخية أو منطقية. هذه الفرضية مهمة جدا، حيث أنها تبين الأسبقية أو الأولوية، للعبادة التي يوليها الأفراد للمجتمع بذاته.
المصدر الأول للطوطمية هو الاعتراف بالمقدس، والمقدس هو قوة مستعارة من المجتمع نفسه وهو أقوى من كل أفراده.

فيما يلي بعضا من نصوص دوركايم، والتي سوف توضح نظريته بشكل أفضل من ملاحظاتي عليها:
    "
الطوطمية ليست دينا لحيوانات معينة، أو لبشر معينين أو أوثان معينة، ولكنه قوة مجهولة غير شخصية، تتواجد في كل واحد من هذه الكائنات،
   
ولكنه لا
يمتزج مع أي منها. ليس هناك من يمسك به بكامله، ولكن كل واحد منهم يشكل جزءا منه. فهو لا يتعلق بالأغراض أو الأفراد التي يتجسد بها،
   
فهو
موجود قبلها، ويبقى بعدها. فالأفراد يموتون؛ والأجيال تتبدل، ولكن القوة تبقى جديدة أبدا، حيوية ومخلصة لذاتها. فهي تحرك جيل اليوم كما حركت
   
جيل الأمس وستحرك جيل الغد. فإذا أدركنا هذه الجملة بمفهومها الأوسع، يمكن القول أن الإله الذي يعبدونه في كل الطقوس الطوطمية،

   
ليس إلا إلها غير شخصي، من دون اسم، ومن دون تاريخ، ينطبع في عالم مشتت ويتواجد في أغراض غير معدودة
."
    (
الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص269)
هذه القطعة، والتي هي غاية في الجمال، تلائم تقريبا كل دين، توضح فكرة دوركايم بشكل مذهل: كل العقائد أو العادات الطوطمية تتشابه في ماهيتها لكل المعتقدات
ولكل العادات الدينية.

يعترف الأستراليون بقوة مجهولة تتواجد خارج العالم الزمني الدنيوي، هذه القوة المجهولة واللاشخصية والتي تتجسد دون تمييز في نبتة أو كائن حي أو في رمز لنبتة أو لكائن حي.
تجاه هذه القوة المجهولة، المنطبعة في العالم والمتواجدة فوقه في ذات الوقت، يتوجه الأستراليون بعبادتهم وعقيدتهم. من السهل إسقاط هذه التعابير على أي دين متطور آخر.
ولكن، هنا يدور الحديث عن الطوطمية، والذي كان شكله الأول، بحسب دوركايم، هو طوطمية الكلان: لكي يكون هناك شيء مقدس، لا بد من أن يميز الفرد بين ما يتبع للدنيا
وبين ما يختلف عنه اختلافا جوهريا في ماهيته، ولذلك يكون مقدسا. هذه التفرقة تلائم الإدراك للإنسان البدائي، حيث أنه كجزء من المجتمع، يحس بوجود شيء ما يقف خارج حدود فردانيتهم.
هذا الشيء هو قوة المجتمع الذي كان موجودا قبل أن يولد الأفراد وسيبقى بعد موتهم، وحتى دون أن يعرفوه فهم يؤدون تجاهه طقوس العبادة.

الرد: الأستراليون يقولون بأنفسهم بقوة مجهولة تتواجد خارج العالم الزمني الدنيوي، هذه القوة المجهولة واللاشخصية والتي تتجسد دون تمييز في نبتة أو كائن حي أو في رمز لنبتة أو لكائن حي ، ودوركايم يريد أن يخبر أصحاب الدين بشكل أفضل عن معرفتهم هم لدينهم ، ويقول : لا.. ليس هذا الاصل ، بل أنتم عبدتم المجتمع ، بسبب القوة التي تشكلها المجموعة ، والتي لا يملكها الفرد ، وهذا نموذج لدين بدائي ، أثبتوا أنهم يعبدون قوة غيبية ، مما يعني أن عبادة الطوطم ليست دليلاً على فكرته التي يصر عليها ..

ولو كان الامر كذلك ، فمن المعروف أن أي تجمع يكون قوة ، سواء في البشر أو قطيع من الحيوانات ، فالطوفان ليس إلا قطرات من الماء تجمعت وشكلت قوة مدمّرة ، إذاً عليهم أن يعبدوا كل تجمّع ، لأن كل تجمع يملك قوة لا يملكها الفرد ، وكلامه سيكون صحيحا لو أن الافراد لا يحسون إلا بقوة واحدة هي قوة المجتمع ، والحقيقة هي أن أقل قوة يمكن ان يدركها المجتمع هي قوته هو ..

فقوى الطبيعة مثلاً لا تقارن بقوة المجتمع ، قوة البركان والفيضان والصاعقة التي تعصف بالمجتمع برمته أحيانا ، هو تصوّر أن الفرد لا يرى إلا قوة المجتمع الغير متمثلة في الفرد ، فعبد قوة المجتمع كأول قوة يصادفها ، مع أن قوة المجتمع لا تحدث إلا قوة العادات والتقاليد والسلطة ..

ودوركايم ربما تأثر بخلفيته اليهودية التي تصر على قوة تماسك المجتمع اليهودي وانغلاقه على نفسه وسيطرته على افراده عبر العصور ، بينما وضع المجتمع اليهودي يشبه وضع المجتمع الغجري في الغرابة والإنكفاء على الذات ، وصعوبة التمازج ، مما يشكل قوة ضاغطة على الأفراد .    



  : اقتباسينتشر لدى شعوب مالينيزيا مصطلح "مانا" mana والمساوي في قيمته للمصطلح "واكن" wakan لدى قبائل "سو" ول"أوريندا" orenda لقبيلة إيروكوي.
   وفيما يلي تعريف كودرينغتون R. H. Codrington :
      الشعب المالينيزي يؤمن بوجود قوة تختلف تماما عن أية قوة محسوسة، تنشط في عدة أشكال، خيّرة أو شريرة،
      ومن الجدير للفرد أن يضع يده على هذه القوة ويسيطر عليها. هذه القوة تسمى "مانا".
      يخيل إلي أنني أدرك مفهوم هذه الكلمة لدى السكان المحليين... هذه القوة هي بمثابة تأثير غير فيزيائي أو حتى فوق-طبيعي؛
      ومع ذلك فهي تتجلى بواسطة قوة فيزيائية، أو بواسطة أي نوع من القوة أو السيطرة؛
      ال"مانا" ليس مرتبطا بغرض معين؛ ومن الممكن نقله لأغراض من أنواع شتى...
      الغاية الوحيدة للدين المالينيزي هي الحصول على "مانا" من أجل استغلاله لأهداف شخصية، أو لكي يستغله الآخرون.
   أليس هذا هو المصطلح ذاته عن القوة المجهولة والمشتتة والتي رأينا بودرها حاليا في الطوطمية الأسترالية؟"
   (الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص277)

في هذه القطعة، المصطلح المركزي في تفسير الدين هو قوة مجهولة ومشتتة أو منتشرة diffuse . المثال مأخوذ من المجتمعات المالينيزية. ولكن مجرد وجود نقاط التقاء في التحليلات
التي أجريت على عدة مجتمعات، يقوّي، برأي دوركابم، نظريته القائلة بأن مصدر الدين هو في التمييز بين المقدس والدنيوي، هذه النظرية تكون فيها القوة المجهولة والمنتشرة، متواجدة
فوق الأفراد، وقريبة منهم في نفس الوقت، وهي القِبلة الذي يتوجهون لها بالعبادة.

ولكن لماذا يتحول المجتمع إلى قِبلة للعبادة ومقصدا للعقائد؟ عن هذا السؤال يجيب دوركايم أن المجتمع، من حيث جوهره، له جانب مقدس.
   "بشكل عام، ليس هتاك شك بأن المجتمع من حيث قوة تأثيره، يلبي كل المتطلبات التي تثير لدى الخلائق الشعور بألوهيته؛ ذلك أن المجتمع بالنسبة لأفراده يشكل ما يشبه الإله للمؤمنين.
   الله قبل كل شيء هو كيان يتخيله الإنسان على أنه أفضل منه بنواح عدة، ويخيل إليه أن هناك علاقة تبعية تربطه به. هذا الإله من الممكن أن يكون شخصية ذات وعي وإدراك مثل
   "زيوس" أو "يهوه" ومن الممكن أن يكون قوى مجردة ومبسطة كما هو الحال في الطوطمية؛ في كل هذه الحالات، يعتقد المؤمن أن عليه أن يسلك سلوكا معينا يفرضه عليه المبدأ
   المقدس الذي يرتبط به. كذلك المجتمع، يثير لدينا إحساسا من علاقة التبعية الأبدية. ولأن له طابعا مختلفا، يختلف عن طبعنا كأفراد، فهو يطمح في أن يحقق غايات خاصة به:
   ولكن، بسبب عدم قدرته على تحقيقها بدون وساطتنا، فهو يطلب بصرامة مساعدتنا. فهو يطلب أن ننسى مصالحنا وأن نصبح خدما له، فيما هو يفرض علينا متاعب وحرمانا وتضحيات،
   بدونها تصبح الحياة المشتركة مستحيلة. ولذا نحن ملزمين بالخضوع لقواعد سلوكية وتفكيرية لم نصنعها ولم نرِدْها، وحتى أنها تتناقض أحيانا مع ميولنا ومع رغباتنا وغرائزنا الأساسية.

   ومع هذا، لو تنازلنا وضحينا لأجل المجتمع بسبب قوة إلزامية من طرفه، من الممكن أن نفكر فقط بوجود قوة فيزيائية يجب الخضوع لها بالضرورة، وليس بفكرة وجود قوة أخلاقية
   كتلك المقصودة في العبادة عند الأديان الأخرى. إن سيطرة وقوة المجتمع لا تتعلق بتفوقه من حيث قوته الفيزيائية التي يستطيع تشغيلها، ولكنها ترتبط بالقوة الأخلاقية التي يملكها.
   فإذا انصعنا لأوامره، فليس ذلك بسبب كونه مسلحا يستطيع التغلب على مقاومتنا، وإنما بسبب احترامنا له."
   (الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص295-296)

يثير المجتمع لدينا شعور الربوبية. فهو يمثل أمرا مفروضا علينا وكذلك واقعا خاصا يقف فوق كل واحد منا، يتتطلب منا الاحترام والإخلاص والخضوع.

المجتمع كذلك يشكل أرضية خصبة لنمو العقائد ، لأن الأفراد المتقاربين والذين يعيشون بتوافق معا، يستطيعون في لحظات التسامي أن يخلقوا الألوهية.

فيما يلي فقرتان مثيرتان للاهتمام، وتظهران المميزات المذكورة آنفا. في إحداها يصف دوركايم مشاهد التسامي التي يحسها الأستراليون المنتمين للمجتمعات البدائية،
وفي الُثانية، يتطرق للثورة الفرنسية كصانعة ممكنة للدين.

الرد: الثورة الفرنسية وعلى مدى ثلاث قرون لم تصنع أي ديانة كما توقع دوركايم ، ولا يبدو أنها ستصنع في المستقبل ،

اقتباس: ها هي الفقرة عن الأستراليين:
   "مع حلول الليل كانوا يقومون بعدة مسيرات، يرقصون ويغنون تحت ضوء المشاعل؛ والحماسة العامة تأخذ بالتعاظم. وفي لحظة ما، يمسك كل من المساعدين الإثني عشر
   شعلة ملتهبة بيده، وأحدهم يمسك شعلته على هيئة حربة، ثم يبدأ بالتحرش بمجموعة من المشاركين. ويتم صد ضرباته بالعصي والرماح. عندها يختلط الحابل بالنابل.
   يقفز الرجال وينتصبون، مطلقين صرخات وحشية؛ الشعلات يخفت ضوءها ثم يتوهج مجددا كلما اصطدمت برؤوسهم وأجسامهم، ويتناثر الشرر في كل اتجاه.
   "الدخان والشعلات الملتهبة، ومطر الشرر المتناثر، والجماهير التي ترقص وتصرخ، كل هذه الأشياء تكوّن مشهدا بريا متوحشا لا يمكن توصيفه بالكلمات"
   على حد قول سبانسر Spencer وغيلن Gillen (باحثي القبائل الأسترالية الذين اعتمد دوركايم على أبحاثهم)

   ليس من الصعوبة بمكان أن نرى كيف أن الإنسان، حين يصل إلى هذه الدرجة من التسامي، لا يعود مدركا لذاته. ذلك أنه يحس أنه مسيّر ومنجرف في أعقاب قوة خارجية،
   تجعله يفكر ويسلك سلوكا غير معتاد، من الواضح أن لديه الانطباع أنه ليس هو ذاته. يخيل إليه أنه كائن جديد: الزينة التي يتزين بها، وأنواع الأقنعة التي يغطي بها وجهه،
   تجسد، بشكل ملموس، هذا التغيير الداخلي الذي يشعر به. وحيث أنه في نفس الموقف، يشعر جميع زملائه ذات الشعور بالتغيير،  ويترجمون إحساسهم لصرخات، حركات
   وسلوك مغاير، لأول وهلة يبدو أن كل شيء يحدث في عالم خاص يختلف بماهيته اختلافا جوهريا عن العالم الذي يحيون فيه على الدوام، وكل ذلك في بيئة حافلة بقوى عظيمة
   جدا تخترقهم وتغيرهم. كيف يمكن لهذه الأحاسيس من هذا القبيل، وخاصة أنها تتكرر لعدة أسابيع، أن لا تزرع فيهم الإيمان بوجود عالمين منفصلين لا يوجد بينهما وجه شبه؟
   الأول هو العالم الذي يدير فيه حياته اليومية. أما العالم الثاني فهولا يستطيع دخوله إلا إذا أقام قبل ذلك اتصالا مع القوى العجيبة التي تثير حماسته إلى حد الجنون. الأول
   هو العالم الدنيوي الزمني، والثاني هو عالم الأشياء المقدسة.
   (الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص311-313)

الرد: دوركايم لم يناقش نقطة لماذا يقدّسون البدائيون تلك المقدسات ؟ أو بمعنى أوضح : لماذا جعلوها مقدّسة ؟ لو كانت المقدسات جميلة مثلاً ، لكان السبب هو الجمال ، أو أنهم قدسوها لأنهم يخافون منها ، لقلنا ان السبب هو الخوف ، أو لأجل المنفعة في أشياء كثيرة غيرها مفيد أيضاً .

اقتباس: يبدو لي أن هذه القطعة هي التعبير القاطع عن وجهة نظر دوركايم. لنتخيل مجموعة كبيرة من الناس يرقصون ويصرخون في الوقت الذي يؤدون فيه طقوسا تشبه العيد أو العبادة، هذه المجموعة
هي مجموعة متقاربة بسبب العادات المشتركة أو الأفعال المتشابهة. الطقوس، والتي هو عبارة عن فعالية جماعية، تجعل كل فرد منهم يخرج من نطاق ذاته. تجعله جزءا من قوة المجموعة.
الطقوس تجعلهم يحسون بوجود شيء ما، ليس له قاسم مشترك مع روتين الحياة اليومية المتعبة والمملة. هذا الشيء الخاص والمميز والذي هو طبيعي وفوق-طبيعي معا، هو ذات القوة الجماعية.

الرد: بل بالعكس ، هو يشعر بأنه هو ذاته ، وأن الشخص العقلاني الذي "هو" غريب عنه ، مثل حالة السكران ، فهو يكون هو على حقيقته ، بدليل أنه يفشي اسراره التي يتحفظ عليها في حالة الصحو ، أي يكون اقرب إلى ذاته ، والعبادة تأتي مع الحب ولا تأتي مع الخوف والكره ، والقوة التي يمثلها المجتمع ، تشكّل قوة كريهة على الفرد ، لا تستحق أن تخلق ديناً ..

وحالة النشوة الجماعية تنتج تقارب مع النفس ومع الآخرين وإنسجاماً مؤقتاً معهم ، وحالما تقف الفرقة مع العزف ترجع الخلافات لأنهم عادوا إلى عقولهم ، وابتعدوا عن شعورهم ، لأن الشعور مشترك ، والرجوع إليه يوحد الناس ، وهذه الحالة متكررة ، ولم يفكر أحد بأن يخلق منها عبادة ، ولا يحس الفرد الفرد أنه تغيّر ، بل يحس أنه اقترب من نفسه أكثر ، لأنه لو كان لديه هذا الإحساس لأستنكر نفسه وخاف منها ، ولم يسر كل هذا السرور ..

ولا أدري كيف خطرت على بال دوركايم هذه الفكرة البعيدة المعتسفة ، والإعتساف ليس له حد ، فتستطيع أن تجعل من أكل الموز أو كسر الجوز مثلاً سراً لوجود الدين ، فهذا الشيء الغريب الذي يشبع الحجر ، عندما كسره البدائي وجد فيه مادة حلوة ، وعندما قشّر الموز الذي كان طعمه مراً وجد حلاوة في داخله ، فقفزت إلى ذهنه أن كل شيء مختفي يحمل مفاجئات سارة ، وبالتالي عبد إلهاً مختفياً لا يزال يدعوه لكي يحصل على المفاجئات السارة ، وهكذا من الموز إلى العبادة التي جعلت لها قوانين وطقوس وكنائس . وربما كلمة mosque أتت من الموز ، وهكذا .
اقتباس :
وهو أيضا شيء مقدس. هذه الظواهر من الانفعال الحماسي هي مثال للعملية النفسية الاجتماعية التي تتولد منها الأديان.

قبل ذلك يورد دوركايم ذكر عبادة الثورة. في فترة الثورة الفرنسية اجتاح الأفراد نوع من الحماس الشبه-ديني. كلمات مثل "أمة" "حرية" و"ثورة"  كانت مشحونة بقيم قداسية، يمكن تشبيهها
في القيمة الموجودة في الchuringa عند الاستراليين.

   "
إن ميل المجتمع لوضع نفسه في مكان الإله أو أن يوجد ألوهية خاصة به، قد ظهرت ببروز إبان السنين الأولى للثورة. في تلك اللحظات من الانجراف الحماسي، تحولت
   
بعض الأشياء، الدنيوية بطبعها، إلى أشياء مقدسةـ وذلك تحت
تأثير الرأي العام؛ والقصد هو للوطن والحرية والحكمة. كل دين يميل لأن يكوّن لنفسه أيديولوجية خاصة به
   
وكذلك رموزا وهياكل وأعياد خاصة
. كانت هناك محاولة لإضفاء صبغة رسمية لهذه التطلعات الطبيعية عن طريق عبادة الفهم والحكمة و الوجود السامي.
   
هذا الدين الجديد صمد لفترة وجيزة
فقط، ولكن الحماس الوطني الذي جرف بدايةً جماهير غفيرة من الناس، أخذ يتضائل شيئا فشيئا. وعندما اختفى السبب، لم تستطع النتيجة
   
أن تصمد
طويلا. ورغم استمراريتها القصيرة، ما زالت هذه التجربة تثير الاهتمام لدى السوسيولوجيين. بالإمكان إيجازها بأننا أدركنا أنه في حالة خاصة تحول المجتمع،
   
مع آرائه ومبادئه الرئيسية، بشكل مباشر ومن دون أن تحدث فيه تغييرات من أي نوع إلى غرض حقيقي للعبادة
"
   (Ibid. pp. 305-306 )
ومع ذلك ستحصل ثورات وانتفاضات جديدة، وسيحين الوقت لتنجرف المجتمعات المعاصرة مرة أخرى في الجنون الديني، لتتكون منه أديان جديدة. (مذكرات طقوس هتلر في نيرنبرغ تجعلنا
نضيف: لسوء الحظ!)

الرد: هذا الكلام ، يثبت أن الإلحاد ليس إلا جنوناً دينياً ، أم أنه سيستثنى من القاعدة ؟ والدين يقتضي الإيمان ، إذاً ليس الإلحاد عقلانياً ولا علمياً ، دوركايم يخلط بين المقدس والمحترم ، المقدس ياتي من الدين ، والدين على نوعين : دين إيجابي ، ودين سلبي .

الديانات ذات المعبودات ديانات ايجابية ، والالحاد ديانة سلبية ، لأن فكرة وجود إله من عدمها فكرة مركزية تنظّم كل الحياة ، فالذي لا يعبد إلها موجوداً فهو يعبد عدم وجود إله وما يقتضيه ذلك ، لأن هذا الإعتقاد سيرتب وينظم حياة المعتقد كلها ، مثلما يفعل الإله مع المعتقد بوجوده ، بعبارة أخرى ، هو يعبد (عكس الإله) الذي هو الشيطان ، واذا كان الإله هو رمز الخير وقد تخلى عنه ، اذاً فهو يعبد عكسه بالضرورة ، لكن أفراد الثورة الفرنسية لهم دين ، قبل الثورة أو بعدها ، وهو المسيحية ، وهذه المبادئ محترمة فقط وليست معبودة أو مقدسة .

وعدم وجود إله يسد فراغات كان يملؤها وجود الإله ، فالإله ووجوده يقتضي أملا بعد الحياة ، وعدم وجوده يقتضي عدم وجود الامل ، مما يعني الإنصباب على الدنيا ، فكل ملحد يحب الدنيا ويخاف من الموت لأنه لا أمل عنده في الآخرة ، ماذا تعني الدنيا عند الملحد ولا غاية من وجوده ، وليس له رسالة يتبناها ، ومصيره التلاشي ، وبلا عودة للحياة ابداً ، ماذا تعني له إلا المتع والشهوات وأكبر قدر منها و اياً كانت .

ولكن بدون أن تسبب أضراراً مباشرة ، فهو يعيش ما دام هناك شيء يستمتع به ، وإلا فالحياة عبث ولا قيمة لوجود الإنسان وليس له قضية ، لكن المتع هي الشيء الوحيد الذي يستطيع العيش لأجله ، وليست الأخلاق التي يعيش من أجلها ، والملحد لا يمكن أن يعيش من أجل الأخلاق ، لأنه لو عاش من اجلها لتعارضت مع المصلحة والمتع ، والمتعة دائماً في تعارض مع الأخلاق وهي شعار الملاحدة المرفوع ، والتي تُلطَّف بكلمة مصالح . وما لا يتعارض مع المصلحة ، فهو يدعمها قطعاً .

 ولو افترضنا وجود شخص بهذا الشكل ، فإذاً لماذا يعيش وقد حيل بينه وبين الشيء الوحيد الذي يعجبه وهو المتع ، مثله مثل المريض الميؤوس منه ، والحياة ليس فيها أي شيء ممتع ؟ فليس له أمل في الشباب ولا في الصحة ولا في الآخرة ، فلماذا يضيّق على نفسه إلا أن ينتحر أو يقتلوه قتلاً رحيماً ، وحياته لها حد والأخلاق ليس لها حد ، إذاً فلا إلتزام بالأخلاق . هذا هو ملخص حياة الملحد .

بينما المؤمن يستطيع العيش من أجل الأخلاق ، ويصبّره الأمل ، والمتعة التي تعطيه إياها الأخلاق لإلتزامه بها ، والمتزايدة مع التقدم في سلم الأخلاق ، والتي لا يعرفها الشخص العادي الذي لم يقتحم سلم الأخلاق . ومنطقياً لا يذوقها الملحد لأن مصلحته تمنعه من الإغراق في سلم الأخلاق .

 وإذا قال الملحد أن الحياة جميلة وتستحق العيش فهو يقصد المتع والمتع فقط ، سواء كانت حسية أو معنوية لا تتعارض مع المصلحة ، لأن إختيار المصلحة حتمي بسبب عدم وجود إله ، وما المصالح إلا التي تجذب المتع والشهوات ، فالمصالح هي وسائل حفظ الشهوات واستمرار تدفقها ، ومن هنا نرى الفكر الإلحادي مصرّ على المصالح ، لأن الدنيا ليس بها ما يزيّنها إلا هي ، فالتحول للمادية حتمي إذا إنعدم وجود الإله ، وبالتالي تنصنع شخصية الملحد ، والتي بخلاف ما كانت عليه عندما كان مؤمناً .

 بمعنى آخر : إن عدم عبادة الله ، تتحول مباشرة وبالضرورة إلى عبادة الطاغوت ،

ووجود إله يحد الطغيان ويلزم بالتوازن ، بينما عدم وجوده يعني عدم إلتزام بالتوازن ،

والأخلاق يُعاقب من يتركها في وجود إله ، وفي عدم وجوده لا يعاقب تارك لأخلاق ، وبالتالي لا يتم الحد من الطغيان ،

وبالايمان بوجود ، فالايمان هو من يتحكم بقرارات الانسان ، وبعدم الإيمان فالمصالح هي من تتحكم به ، والمصلحة لا حد لها ، أي طغيان ،

والشهوات في ظل الايمان منظَّمة ، وبعدم وجوده تكون منفلتة ، أي طغيان ،

الإنسان بوجود إله يعرف أنه عبد لله وليس سيداً أو إلهاً ، وبعدم وجود إله يحل الإنسان محل الإله ، وهذا طغيان ،

لأنه ليس بإله ولا يعرف شيئاً ، وهو لا يعرف نفسه ولا يدرك ما حوله تماماً فكيف يكون إلهاً ؟ سيكون إلهاً أحمق .

وبوجود إله ، الفرد يأخذ ويعطي ، وله حقوق وعليه واجبات ، وعدم وجود إله فهو يأخذ من الطبيعة ولا يعطي ، وهذا طغيان ،

الخروج عن الدين – ايا كان الدين – فهو طغيان ، فهو يعني انطلاق الشهوات وانطلاق الكبرياء المكبوتة .

 ووجود إله يجعلك ترى الكون منظم ، وعدم وجوده يجعلك ترى الكون فوضى وبالتالي تُناط بالإنسان مهمة إصلاحه وترتيبه بموجب مصالحه طبعاً ، وكلٌّ سيرتب في هذا الكون على مصالحه هو ، والمصالح بطبيعتها تتعارض ، وبالتالي تكون عبثية حقاً ، والإنسان عاجز في الحقيقة ، وهذا يثبت أن قضية وجود الله من عدمه قضية مركزية أساسية .

والإيمان يقتضي الطاعة والانقياد للسنن الكونية ، وعدم وجود إله يعني التمرد على الطبيعة وقوانينها ، المادية والمعنوية ، وهي ليست قضية هامشية ، بل هي مسألة المسائل وأهم القضايا . ليس أن تكون مؤمنا بوجود إله أو غير مؤمن ولا تتغير الشخصية، بل ستتغير الشخصية الفردية والمجتمع من خلال وجود إله أو عدم وجوده ، فهي إذاً قضية لها ما بعدها .

والملحد يؤمن بحتمية المصالح عنده ، بينما المؤمن الصادق ليست لديه حتمية للمصالح .

والملحد يرى أنه لا توجد ثوابت ، وبالتالي هذا الإعتقاد يُشعِر بالخوف وعدم الثقة .

والملحد يرى نفسه إلهاً وبالتالي سيتغير وضعه وسيقوم بالتغيير لما حوله من سنن الله وقوانينه ، كما فعل فرعون الملحد ، عندما قال : ( لا أريكم إلا ما أرى ، ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد ) ، وفرعون لا يعبد أحداً ولا يعبد نفسه ، إذاً فهو إله ، كما أعى ذلك نيتشه الملحد ..

باب الألوهية مفتوح عند عدم وجود إله ، وهذا يدل على أنه موجود ، لأن غيابه يترك فراغاً لا بد أن يُملأ ، وغير الموجود لا يترك فراغاً إذا غاب . والملحد اعتبر نفسه إلها وعلى ذلك له ان يتحكم حتى في الخلقة والجينات ويعدل فيها ، وله حق التمرد على كل الثوابت التي كان يثبّتها الدين ، بما فيها الأخلاق ، وهذا ما يفعلونه ، فلا يوجد إله ، وبالتالي يكون هو النائب عن هذا الإله ، أي هو الإله . 

وما دام هو كذلك فلا بد أن بظهر بمظهر العليم الخبير المدبر المهيمن القادر على كل شيء ، وهذا ما يحاولون ان يظهروا عليه ، بأن العلم قادر على كل شيء ، وسوف يتم التحكم من خلال العلم بكل شيء ، ويتم الكشف عن حقيقة كل شيء ،  وهذا لا يزال في إطار الإدعاءات ولا يعني شيئاً ، فقط لسدّ حاجات الإله ، كما إدعى فرعون سابقا أنه عليم بكل شيء ، وأنه لا يهدي الناس إلا إلى سبيل الرشاد ، وإذاً فالإلحاد يصنع الشخصية الفرعونية 

هذا الإله الإنساني يعاني من الجهل والضعف ، لدرجة أنه لا يفهم شيئاً واحداً بصفة شاملة ، ولا يعلم من الغيب ولا نقطة ، ولا يعلم من المستقبل ولا جزئية ، ولا يعلم من اين أتى ، ومع ذلك مصرٌّ على الألوهية .

  ((الملحد هو الذي يقدّس ، مثله مثل الدينيين ، يقدّس المادة ورموزها وشخصيات إلحادية ، والعلم التجريبي ، الملحد يصارع الأديان بعنف ويحاربها جميعاً ، بل حتى لا يفضل بعضها على بعض ، وانهزام الدين وتخطئته هو دائماً شغله الشاغل ، ويفرح اذا تخلى احد عن دينه ، بينما هو لا يستفيد من وراء ذلك شيئاً ، فهو اذاً ينتصر لمن ؟ ويكافح لأجل ماذا ؟ بالرغم من أنه لا يعبد أحداً ؟ 

كل تصرفاته واقواله تعتبر مجهوداً حربيا ً ضد الدين ، ما مصدر هذه الطاقة ؟ كل هذا نصرةً للعلم ؟ كيف ذلك وثلاثة أرباع العلم اقامه المؤمنون في عصرنا هذا ؟ وكل العلم قام به متدينون في عصور ما قبل الإلحاد ؟ فلماذا كل هذا الخوف على العلم إن كان حقاً ؟ 

وهو يمارس الدعوة إلى الإلحاد ، ويفرح الملحد إذا قمت بشيء يخالف الدين ، ويمهد لك أن تكمل البقية ، ويشجعك بأية وسيلة تخالف بها دينك ، ويرفع من قيمتك إذا خالفت الدين ويقربك إليه شخصياً ، ويوسوس إليك عن طريق الافكار التشكيكية ، ويكرهك بالإلتزام الأخلاقي ويقلل من شأن الأخلاق ، ويشجع على ممارسة المتع والشهوات ، بل ويمدح ذكائك وشجاعتك إذا خالفت مبادئك ، ويبتعد عنك بطريقة غامضة إذا التزمت بمبادئك وحاولت كشف نيته ، وبذلك هو يشبه الشيطان .

والشيطان إدّعى الألوهية ، إذا فالديانة الإلحادية نستطيع تسميتها بالديانة الألوهية ، فهو دين إلهي ، أي يحوّلك إلى إله ، أي مثلما فعل الشيطان وفعل فرعون ، وهذا الدين جديد له اصوله القديمة . ))

اقتباس: 
أنري برغسون (Henry Bergson) ينهي كتابه "مصدرا الأخلاق والدين" بهذه الجملة: "الكون هو ماكنة تنتج الآلهة" دوركايم كان سيقول: المجتمعات هي ماكنات تنتج الآلهة، ولكن لكي ينجح
هذا الجهد الإبداعي، من الضروري أن يهرب الأفراد من حياتهم اليومية، ويخرجوا من داخل ذاتهم وينجرفوا في حماسة مصدرها وتعبيرها معا هما تسامي النفس للحياة المشتركة.

التفسير الاجتماعي للدين، كما يراه دوركايم، يلبس إذن صورتين: الأولى تشدد على الفكرة أن الأفراد حسب الطوطمية يسجدون لمجتمعهم، دون معرفة أو لأن المقدس يرتبط قبل كل شيء
بالقوة الجماعية الغير شخصية التي تمثل المجتمع ذاته. حسب التفسير الثاني، تميل المجتمعات لإنتاج الآلهة أو الأديان عندما تكون في حالة تسام تنبع من قوة الحياة المجتمعية.
لدى القبائل الأسترالية، يحدث هذا التسامي أثناء الطقوس التي نستطيع مشاهدتها حتى هذه اللحظة. بينما في المجتمعات المعاصرة، يقول دوركايم، من دون أن يؤطر نظرية محددة،
يحدث هذا التسامي أثناء الأزمات السياسية والاجتماعية.

يطور دوركايم من هذه الأفكار الأساسية تفسيرات لمصطلحات "النفس"، "الروح" و "الله". ويتابع التطورات الذهنية لأشكال التمثيل الديني. الدين يعني مجموعة من العقائد، والعقائد ذاتها
يتم التعبير عنها بالكلمات، أي أنها تأخذ شكل فكر يحوي قدرا ما من المنهجية. دوركايم يبحث عن المدى الذي تصل إليه المنهجية في الطوطمية. فهو يريد أن يبين حدود المنهجية الذهنية في الطوطمية،
إضافة إلى إمكانية الانتقال من الطوطمية إلى الأديان الأكثر حداثة.

يوضح دوركايم أهمية نوعين من الظواهر الاجتماعية: الرموز والطقوس. عادات اجتماعية كثيرة لا تُوجَّه بالضرورة تجاه الأغراض ذاتها وإنما أيضا تجاه رموز هذه الأغراض. في الطوطمية،
لا تقع المحظورات على الحيوانات والنباتات الطوطمية فحسب، وإنما على الأغراض التي رسمت عليها الحيوانات والنباتات أيضا. وبشكل مشابه، لا تتوجه سلوكياتنا الاجتماعية اليومية تجاه
الأشياء ذاتها فقط وإنما على رموز هذه الأشياء أيضا. لقد تطرقت سابقا إلى كون العَلَم رمزا للوطن. الشعلة تحت قوس النصر بباريس هي ايضا رمز. المظاهرات الجمتهيرية مع أو ضد سياسات
معينة هي أيضا أفعال موجهة تجاه الرموز وتجاه الأشياء في آن واحد.

الرد: هذا يعني أن دوركايم جعل من كل شيء إجتماعي ديناً ، واي محبة إجتماعية لشيء يعتبره ديناً ، وحب الوطن وما يرمز إليه من علم وشخصيات واشعار يعتبر ديناً ، وعلى هذا ستكثر الأديان بكثرة الاشياء المشتركة بين الناس ..

الذي ضلل تفكير دوركايم هو رؤيته للناس وهي تعظّم هذه الاشياء ، لأنه يعتقد أن الدين عبارة عن تعظيم فقط ، فلو نقص الماء في العالم لصار مُعظّماً ، وتعظيم الوطن بسبب أن الفرد لو خرج عن وطنه لضاع ، ولما وجد من يحميه ويحفظ حقوقه مثل أهله وقومه..

هذه التعظيمات المرتبطة بالمصالح لا تعني العبادة ، بل تعني الخوف عليها لأنها غير متوفرة بشكل دائم في كل مكان ، فلو ان الفرنسي يعيش في غير فرنسا كما يعيش في فرنسا ، لما عظّم فرنسا ولما عظّم علمها ، ولو ندر الورد في العالم لقُدّست البقايا منه ، ولقلت أن الناس يعبدون الورد ، فهو لم يفهم فكرة الدين كاملة ، بل فهم التعظيم والتقديس فقط ، ولهذا فكل ما رأى الناس تعظم شيئاً ، إعتبره دينا ، ولأنه نابع من المجتمع ..

فتصوّر أن الفرد يعبد المجتمع ، متمثلاً بالاشياء التي عظّمها المجتمع ، فالفرنسي لا يعبد فرنسا بل يعبد المجتمع الفرنسي ، إذا افترضنا معه أنهم يعبدون أساساً .

الدين في حقيقته عبارة عن دَين وعهد وأمانة ومسؤولية وتسليم ، وليس فقط تعظيماً وتقديساً .

اقتباس: لقد طور دوركايم نظرية معقدة عن الطقوس الدينية، يوضح من خلالها أنواعها المختلفة وأدوارها العامة. وهو يفرق بين ثلاثة أنواع من الطقوس: طقوس سلبية وطقوس إيجابية وطقوس يسميها طقوس الكفارة.
تهتم الطقوس السلبية بالممنوعات بشكل رئيسي: حظر الأكل واللمس تتطور كعادة التقاليد الدينية الزاهدة والمتقشفة. بينما الطقوس الإيجابية هي طقوس اتحاد مع الرب، هدفها، مثلا، زيادة الخصوبة.
عادات الأكل تتبع أيضا للطقوس الإيجابية. يبحث دوركايم أيضا في طقوس المحاكاة والتقليد أو التمثيل، وفيها يحاكي المؤمنون أمورا يتمنون حدوثها. كل هذه الطقوس، سواء كانت سلبة أو إيجابية أو طقوس كفارة،
تلعب دورا اجتماعيا مهما. هدفها هو الحفاظ على بقاء المجتمع، وتحديث الشعور بالانتماء للمجموعة والمحافظة على العقيدة والدين. لا وجود للدين ألا بواسطة العادات، والتي هي رموز للعقائد وأيضا وسيلة لتجديدها.

نهاية، يستنتج دوركايم من بحثه عن الطوطمية، نظرية اجتماعية للإدراك. فهو لا يحصر نفسه في محاولة فهم عقائد وعادات القبائل الأسترالية، ولكن أيضا يحاول أن يفهم أنماط التفكير المرتبطة بالعقائد الدينية.
الدين ليس فقط النواة البدائية التي نبتت وتفرعت منها القواعد الأخلاقية والدينية بالمفهوم الضيق للكلمة، ولكنه أيضا النواة التي تتطور منها التفكير العلمي.
هذه النطرية الاجتماعية للإدراك تفترض برأيي ثلاث فرضيات:
1- الأشكال البدائية للتصنيف ترتبط بتصورات دينية عن الكون، نتجت من تمثيلات صنعتها المجتمعات المختلفة لنفسها، ومن ثنائية العالم الزمني الدنيوي والعالم الديني أو المقدس.
دوركايم يؤسس هذه الفرضية بعدة أمثلة.
   "بشكل مجرد، لم يكن ليخطر ببالنا تقسيم الكائنات في العالم إلى مجموعات متجانسة، تسمى أنواعا أو أجناسا، لولا واجهنا المثال عن المجتمعات الإنسانية، ولولا كنا نتطرق إلى الأشياء نفسها كـأنها
   أعضاء في المجتمع الإنساني، حيث لأنه قبل ذلككانت التصنيفات الإنسانية والمنطقية مختلطة ببعضها البعض. من جهة أخرى، هذا التصنيف هو أسلوب للتقسيم إلى مجموعات بترتيب هرمي.
   هناك مجموعات مسيطرة، وهناك مجموعات خاضعة لها؛ تتعلق الأنواع وخصائصها المميزة بالأجناس والصفات التي تعرّفها. بكلمات أخرى تتواجد الأنواع المختلفة من نفس الجنس في المستوى نفسه."
   (الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص210)
بشكل عام، يعتقد دوركايم أنه تم تقسيم العالم إلى مجموعات تسمى أجناسا، لأننا رأينا قبالتنا المثال الذي يقدمه المجتمع الإنساني. في المجتمعات الإنسانية هنالك تقسيم منطقي لمجموعات، يقع بشكل مباشر على الأفراد.
عادة التقسيم هذه، يتم توسيعها لتمتد إلى الظواهر الطبيعية، وذلك لأننا نرى العالم على صورة المجتمع.

التصنيفات لمسيطرين وخاضعين، تتطور من محاكاة الهرمية الموجودة في المجتمع. فكرة الهرمية، الضرورية للتصنيف المنطقي للأجناس والأنواع، كان بالإمكان استعارتها، في الواقع، فقط من المجتمع نفسه.
   "لا منظر الطبيعة المحسوسة، ولا أنظمة التخاطر التفكيري، كان باستطاعتهما إعطاءنا هذه الفكرة. الهرمية هي ظاهرة اجتماعية صرفة. فقط في المجتمع هناك علوي، سفلي ومساوٍ. لذا،
   ورغم أن هذه الحقائق لا يمكن إثباتها، فإن مجرد تحليل هذه المصطلحات يكفي لكشف مصدرها. لقد استعرناها من المجتمع ثم أسقطناها على الصورة التي نرى فيها عالمنا.
   المجتمع هو من زودنا بالخلفية التي تطور بناء عليها الفكر المنطقي."
   (Ibid. p. 211 )

الرد: بل هذا أساسه من العقل والمادة ، فالإنسان الذي عاش بمفرده في الغابة ، يصنف الاشياء كمجموعات على حسب نفعها أو ضررها بناء على الشكل أو التشابه أو الخواص ، فهو يعرف أن الحيوانات الكبيرة مصدر خطر بالنسبة له ، والصغيرة من النوع الذي لا يخيف بشكل عام ، ويعرف أن كل شيء يتحرك بسرعة هو مصدر خطر ، وأن الاشياء شديدة الحرارة هي مصدر خطر ، وكل شيء له رؤوس مدببة هو مصدر خطر ، سواء كان أشواك أو حجارة ..

إذاً هو بموجب عقله يستطيع أن يصنّف ما يراه ، والحقيقة أن تأثير الفرد على المجتمع بشكل عام ، هو أكبر من العكس والذي تبناه دوركايم ، لأن الأفكار السائدة في المجتمع نبتت في راس فرد واحد ..

والإدارة السياسية يقوم بها فرد واحد ، ولو كان المجتمع هو الضاغط والأقوى لما قاده الفرد ، والعادات والتقاليد يسنها افراد ، فيبتلعها المجتمع ، فالمجتمع مثل القطيع الذي يتحكم به الاطفال ، والمجتمع إذا لم يؤثر الفرد فيه ، أثّر فيه ، وكون الأفراد النابهين يتطالولن على المجتمع بشكل مستمر ..

فهذا يعني أن المجتمع غير مقدس ، ولو كان مقدسا لما اجترأ أحد على تغيير ثوابت المجتمع ، ولكن المجال مفتوح دائماً ، وايضاً المجتمع غير محصّن ، ولو كان مقدّساً بالدرجة الكافية لحُصِّن ضد أي تغيير ، لكن الواقع هو غير ذلك .

فالأفراد يُبدؤون ويعيدون ويثبتون ويمسحون في هذا المجتمع بشكل دائم ، مثل مصمم الموضة ، فهو يعلم وهو جالس في غرفته نه سيرى الآلاف من الناس تلبس هذا الموديل الذي يصنعه الآن ، إذاً تحكم الفرد بالمجتمع أكبر من تحكم المجتمع بالفرد ، وكتابات دوركايم بحد ذاتها هي كتابات فرد غيرت فكر المجتمع الغربي ..

وكتابات فرويد جعلت الصور العارية تعلّق في شوارع أوروبا ، فاين هي قوة المجتمع ؟ القوة للفرد وليس للمجتمع ، ولهذا الأمم تبحث عن العباقرة ، ولا تبيع عبقريها بآلاف من الناس العاديين ، وهنا يتم الإختيار : بين الفرد العبقري مقابل عشرة آلاف من الافراد العاديين ، والمجتمع يكون قوياً إذا تحرّك ، ولا يتحرك إلا بفرد ، وهذا قانون ، إذاً فقوة المجتمع مأخوذة من قوة الفرد ، والمجتمع يحركه فرد (قانون) ..

وأي فترة ازدهار لأي مجتمع تجد وراءها فرداً ذكياً ، حتى في السياسة تجد مثلاً حاكماً نابهاً يغيّر البلد ، ثم يأتي بعده حاكم غبي فيبرد الإزدهار ، وعند الرجوع إلى أي حضارة ستجد اسماء افراد منها ولا تجد أسماء المجتمع ، ومن هنا مأخذٌ على الديموقراطية ، لأنها تُحكّم المجتمع في الفرد ، والمجتمع دائماً يبحث عن القواد والعباقرة ومن يكون بعد هذا القائد ،هكذا ..

ولو كان المجتمع قوي لما إعتاز كل هذا العوز للفرد ، وكل مجتمع ينتظر فرداً ليغيّر من واقعه ، فمن ينتظر المسيح ومن ينتظر المهدي ، وهكذا . وغالباً ما تجد المجتمع يخاف من فرد ، ومن هنا جاءت تهم الهرطقة والإحراق للأفراد ، وكون المجتمع يخاف ويرتعد من فرد يفكّر ، لا يثبت قوة المجتمع التي ادعاها دوركايم ، ولم يثبت أن مجتمعاًُ فرض أفكاره على الفرد وهو لا يريدها ، وكل ما حاول المجتمع أن يضغط على الفرد وهو لا يريد ، كلما طور الفرد مضادات وخرج بنظريات غالبا ما تحرف مسار المجتمع كله ..

إذا الفرد بسهولة يضع بصماته على المجتمع بينما المجتمع بصعوبة يضع بصماته على الفرد ، آن الأوان ليوجد علم الفردية مقابل علم الإجتماع . وكل من يتبنى فكر المجتمع دائماً ما يكون ضعيفاً أمام الفرد الحر ، ولم يدعم المجتمع ثقة ذلك الفرد المتبني بنفسه ، بينما الحر الآخر أكثر ثقة بنفسه بالرغم من مخالفته للمجتمع ، والهرمية تعني سيطرة الفرد ، ولم يبنيها المجتمع بل بناها الفرد ، وبكفاحه استطاع أن يضع نفسه على راس الهرم ، وليس المجتمع هو الذي وضعه ، بل بكفاحه وذكاؤه ، والمجتمع عبارة عن ميدان مفتوح للنابهين والاذكياء ليضعوا بصماتهم على المجتمع ، ومن هنا صار حب الشهرة ، لأن المجتمع لا يرشّح أحداً لشيء ..

بل الفرد يفرض نفسه على المجتمع ، فالمجتمع مثل الأرض ، بحسب نشاط من يعمل عليها ، فكأن المجتمع إمرأة والفرد رجل ، والأديان في المجتمعات تبناها أفراد ، وتجد الفكرة المنتشرة بين الملايين تجد مصدرها من راس واحد ، والفرد بالتالي في المجتمعات القديمة هو يعبد فرداً وليس مجتمعاً، وكذلك في المجتمعات المتطورة هو يقدّس أفراد ، فالمجتمع يتجه للفرد ، وليس الفرد يتجه للمجتمع . وما الحضارة التي نعيشها الآن إلا مجهودات أفراد وليست مجهود مجتمعات ..

إذاً فالقوة هي في الفرد وليست في المجتمع ، لأن العباقرة وهم أفراد ، هم من يغيرون مجرى المجتمعات وبالتالي التاريخ ، أما تأثير المجتمع على الفرد ، فهو بشكل عام تأثير كابت ولا يحسّ الفرد بأن المجتمع يفهمه ويعيه ، ومن الصعب أن يفهم المجتمع الفرد ، ولكن العكس ممكن ..

إذاً فالذي يعي أكثر ، يتحكم اكثر ، والمجتمعات كما ترى في مجتمعات الغرب تظل مبهورة واسيرة بعظمة وقوة فرد ، وليست مبهورة بقوة شعب أو مجتمع ، بل تجد الشعب يقف عند لوحة بيكاسو أو المولانيزا ، أي تعظيم مجتمع لأفراد ، ولم تقم أية ثورة أو حركة إجتماعية لا ووراءها فرد ، فهل كانت البروستانتية لولا مارتن لوثر الفرد ؟ وبما في ذلك الأديان ، لأن الاذكياء دائما يؤثرون في الأقل ذكاء ، والأقل ذكاء هم الأكثر في المجتمع ، والأكثر ذكاءً هم الأقل ، إذاً فالمجتمع يتحكم به أفراد . 


-2 : اقتباس  يدعي دوركايم أن فكرة مثل السببية مصدرها هو المجتمع، ولا يمكن أن تطون قد نبتت من مصدر آخر. الإحساس بالحياة الجماعية يولد فكرة القوة. المجتمع هو من يولد في البشر الإدراك
بوجود قوة هي فوق الأفراد.

الرد: وهل بدون المجتمع لن يعرف الإنسان فكرة السببية ؟ هل الاشخاص الذين عاشوا بمفردهم في الغابات ، لم يكونوا يعرفوا السببية ؟ وإذا آلمته يده أو رجله ، فهو حينئذ لا يعرف أن سبب ألمه هو صخرة وطئها أو حشرة لدغته ؟ هذا هراء .

السببية تفرض نفسها وهذا تحايل من دوركايم على العلم والفلسفة ليسقط قانون السببية الذي هو اساس المعرفة . وما كان هذا منه إلا حرباً على الإيمان بالله . الذي يبدأ بقانون السببية . ويكفي الإيمان علمية أنه يبدأ بقانون السببية . 

3-: اقتباس  في النهاية يحاول دوركايم جاهدا أن يثبت أن النظرية الاجتماعية للإدراك، كما يصفها هو، توفر الوسائل المطلوبة للتغلب على نظريات معاكسة مثل الإمبيرية empirism والأبريورية apriorism،
التناقض المشهور الذي يناقشونه في الفلسفة التي تدرس في المدارس، والذي درسه دوركايم في الكلية في مساق الفلسفة، والذي سندرسه لاحقا.

الإمبيرية هي النظرية التي تكون بحسبها الأصناف، والمفاهيم عامة، ناتجة مباشرة من تجربة حسية. بينما حسب الأبريورية، وضعت المصطلحات والأصناف في الروح الإنسانية منذ البدء. ومع هذا، يزعم دوركايم أن الإمبيرية خاطئة لأنه لا يستطيع أن يفسر كيف تنبع الأصناف والمفاهيم من معطيات الحواس، وكذا الأبريورية خاطئة لأنه لا تفسر شيئا، لأنها تضع في الروح الإنسانية، كمعطى أساسي وأولي، ماهية الشيء الواجب تفسيره. الدمج بين الطريقتين يتأتى من خلال تدخل المجتمع.

من الواضح بالنسبة للأبريورية، أن الحواس وحدها غير كافية لتوليد الأصناف أو المفاهيم، وأن هناك أمرا آخر غير الحواس في الروح الإنسانية. ولكن، لم تفهم الإمبيرية ولا الأبريورية أن لهذا الأمر، والذي هو أكثر من معطيات حسيةـ يجب أن يكون له مصدر وتفسير. الحياة الجماعية هي تمكّن من تفسير الأصناف والمفاهيم.
المفاهيم، بحسب النظرية العقلانية، هي تعبيرات غير شخصية، لأنها تعبيرات جماعية. والتفكير الجماعي يختلف بطبعه عن التفكير الفرداني، والمفاهيم هي تعبيرات تفرض نفسها على الأفراد لأنها تعبيرات جماعية. إضافة لذلك، تلبس المفاهيم زيا تعميميا، كونها تعبيرات جماعية. ففي الواقع لا يهتم المجتمع بالأفراد وبالأمور الخاصة. فهو الجهاز الذي تستسلم بواسطته الأفكار للعمومية، وفي الوقت ذاته، تجد الأفكار فيه السلطة النموذجية للمفاهيم والأصناف.
   "
المفاهيم هي الطريقة التي يعبر فيها المجتمع لنفسه عن الأشياء"
   (
الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص626)

للعلم سلطة عليا علينا لأن المجتمع الذي نحيا فيه يريد ذلك.

        "
من الضروري أن تأخذ المفاهيم سلطتها من قيمتها الموضوعية وحسب، حتى حين تكون مبنية على
       
أسس غير علمية. فصحتها غير كافية لتصديقها. إذا لم تكن متلائمة مع العقائد الأخرى، مع الأفكار
       
الأخرى، وباختصار مع مجموع التعبيرات الجماعية، فسيتم رفضها. ولن تقبلها الخلائق،

       
وفي النهاية ستكون كأنها لم تكن. إذا كان اليوم كافيا لتصديق أمر ما، حمله لختم علمي، فهذا لأننا نثق بالعلم
.
       
هذه الثقة لا تختلف بماهيتها عن الإيمان الديني. فالقيمة التي نعطيها للعلم تتعلق في النهاية، بالمفهوم
       
الذي نبنيه لأنفسنا بطريقة جماعية عن طبيعته وعن دوره في الحياة؛ معنى هذا، أن العلم يعبر عن

       
رأي عام معين. بالطبع، من الممكن أن نرى في الرأي العام موضوعا للبحث وأن نحوله إلى علم؛
       
هذا هو أساس اهتمامات السوسيولوجيا. ولكن، علم الرأي العام لا يشكل الرأي العام؛ فهو يستطيع أن
       
يوضحه ويجعله معروفا أكثر، لا غير. يستطيع العلم أن يصنع تغييرا في الرأي العام؛ ولكن العلم سيبقى

       
متعلقا بالرأي العام حتى لو خيّل إليه أنه يملي قوانينه؛ حيث أن العلم يستقي من الرأي العام القوة

       
اللازمة للتأثير عليه
."
        (Ibid. pp. 625-626 )

لو اختفى الإيمان بالعلم، على سبيل المثال، من مجتمع معين، فإن كل الإثباتات العلمية الحالية ستصبح بلا فائدة. هذه حجة مفهومة ضمنا، وسخيفة في نفس الوقت. حيث أنه من الواضح أن الإثباتات العلمية لن تقنع أحدا في اللحظة التي يتوقف الناس عن الإيمان بقيمتها. ولكن الحجج لن تفقد صحتها، حتى لو افترضنا أن الناس قرروا التصديق بكون الأبيض أسود، وكون الأسود أبيض. إذا كان الحديث يدور عن الإيمان كظاهرة نفسية سيكولوجية، فإن دوركايم محق تماما؛ أما إذا ما كان الحديث يدور عن الحقيقة من منظور منطقي أو علمي، فيبدو لي أنه مخطئ تماما.

خلا هذا البحث أكثرت من الاقتباسات، لأنني لم أكن واثقا من نفسي.أجد صعوبة معينة في اختراق نمط تفكير دوركايم، على ما يبدو بسبب انعدام الولع اللازم للفهم.

المجتمع بحسب دوركايم، هو واقعي ومثالي في آن واحد، ويصنع المثال من جوهر ماهيته. عندما أنظر للمجتمع على أنه مجموعة من الأفراد كما هو حال الكلان في المجتمعات الأسترالية – حيث أن المجتمع كواقع محسوس، يمكن إدراكه من الخارج، يتكون من الأفراد ومن الأغراض التي يستخدمونها – في هذه الحالة، أراه غير صحيح أن هذا المجتمع ، الذي هو واقع طبيعي، يمكن أن يكون أرضية خصبة لنمو العقائد. من الصعب أن نجد عادات دينية تكون خاصة بأفراد وحيدين. إضافة لذلك فإن كل الظواهر الإنسانية تعكس بعدا اجتماعيا، ولا يوجد دين معين خارج المجموعات التي ولد بها، أو خارج الجاليات المسماة كنائس. ولكن، إذا أضفنا لذلك كون المجتمع مثاليا عدا كونه واقعيا، وأن الأفراد الذين يعبدونه، فإنهم يسجدون لواقع غيبي، من الصعب علي تقبل ذلك؛ حيث أنه إذا كان محتوى الدين هو حب المجتمع القائم والمحسوس، يبدو لي أن هذا الحب هو نوع عبادة الأوثان، وفي هذه الحالة يكون الدين رؤية وهمية كما هو الحال في التفسير الأنيمي أو الطبعاني.

هناك إمكانيتان:
الإمكانية الأولى: أن المجتمع المتوجه إليه بالعبادة هو مجتمع موجود ومحسوس، يتكون من أفراد، وهو غير كامل لأن أفراده غير كاملين؛ وفي الحالة هذه فإن الأفراد الساجدين له هم ضحايا رؤية وهمية تماما كأولئك الساجدين للأشجار، الحيوانات، الأرواح أو الأنفس. إذا اعتبرنا المجتمع واقعا طبيعيا، فإن هذا التفسير لدوركايم لا "ينقذ" موضوع الدين أكثر من أي تفسر آخر.
الإمكانية الثانية: أن المجتمع كما يراه دوركايم ليس مجتمعا واقعيا، ولكنه مجتمع يختلف عن المجتمع الذي باستطاعتنا معاينته، وبهذه الحالة نترك مجال الطوطمية وندخل مجال الدين الإنساني على هيئة مفهوم أوغست كونت. فالمجتمع المتوجه إليه بالعبادة ليس واقعا محسوسا وإنما واقع مثالي يعبر عن المثال المتحقق بشكل غير كامل في المجتمع الحقيقي. وإذا كان الأمر كذلك، فليس المجتمع هو الذي يفسر تكوّن مفهوم "المقدس"، ولكن مفهوم "المقدس" الذي تكون في الفكر البشري، هو الذي يغير وجه المجتمع، كما يستطيع تغيير وجه كل واقع آخر.

يقول دوركايم أن المجتمع ينتج الدين في الأوقات التي تلتهب فيها الحماسة. هنا نتحدث عن حالة خاصة منفردة. فالأفراد موجودون في حالة نفسية يشعرون من خلالها بقوى غير شخصية، وهي جوهرية وغيبية في آن واحد.هذا التفسير للدين يؤدي إلى تفسير سببي بحسبه يساعد الحماس الاجتماعي بتولد الدين. ولكنهنا يسحب البساط من تحت الفكرة القائلة أن التفسير الاجتماعي للدين يمكّن من إنقاذ موضوع الدين بالقول أن الإنسان يسجد لما هو مستحق للعبادة. أيضا، نحن نخطئ بحديثنا عن المجتمع بصيغة المفرد، حيث أنه بحسب دوركايم نفسه هناك مجتمعات، بصيغة الجمع. إذا كانت العبادة موجهة نحو المجتمعات، فستكون هناك أديان قبلية أو قومية. وفي هذه الحالة تكون ماهية الدين ليست فقط إرساء الإخلاص المتشدد في نفوس الخلائق تجاه مجموعات صغيرة وتوجيه الإخلاص الفردي نحو مجتمعه، ولكن أيضا، توجيه كراهيته نحو المجتمعات الأخرى.

يبدو لي أن ليست هناك إمكانية لتعريف ماهية الدين كعبادة الفرد للمجموعة، فحسب رأيي، السجود للنظام الاجتماعي هو ماهية الكفر بالذات. الزعم بأن الأحاسيس الدينية موجهة نحو المجتمع بهيئة أخرى، هذا الأمر لا يعني إنقاذ التجربة الإنسانية التي تحاول السوسيولوجيا شرحها، ولكنه تقليل من قيمتها.

الرد: هذا أمر غريب ، فتاريخ تكوّن الأديان واضح ، هل المسيحية كانت موجودة قبل عيسى ؟ وهل كان العرب مسلمون قبل وجود محمد الفرد ؟ الم يقاوم المجتمع بقوته عيسى ومحمد ؟ اين قوته ؟ 

فهذا فردٌ عاكس المجتمع وغيّر دينه ومواقع القوة فيه . ثم لماذا هذا التأكيد على الاساس العاطفي للتدين والدين ؟ هذا ما يجعل الماديين يكرهون العواطف كما يثبت دوركايم ، وما تزال الفلسفات الإلحادية المادية تُثبِت العداء للمشاعر الإنسانية وما ينتج عنها ، لأن المال والقوة لا يأتيان عن طريق العواطف . 


العقل هو الذي يفتح الشعور ، ولو سألت أحد الأفراد ممن مر بفترة تدين في حياته ، لقال لك أن أحداً أقنعني ولم يقل أنه بكى عندي أو رقص ، أو أحسسنا بالدين في حالة من الرقص والغناء كما يقول دوركايم . وما يثبت هذا أن ترك التدين يبدأ من فكرة أو أفكار ، وما ينتهي به الشيء يدل على ما بدأ به (قانون) ، مثلما يبدأ القمر بالهلال وينتهي بالهلال . 

الحقيقة أن ما يقوله دوركايم هو ما وقع به ، لأنه يعبد المجتمع ، وهو اساس الديانة الإلحادية ( عبادة قوة المجتمع) . والقرآن يدعو الناس للتفكير والتأمّل العقلي والتدبر في الكون حتى يجعلهم مؤمنين عن طريق العقل . الشعور لا ينفتح إلا بفكرة ، مثلما تجد أناساً يتحدثون بسرور ، ثم يأتي من يحدّثهم بافكار ، فيحوّلهم إلى خائفين ، بل ربما يجعلهم يتركون المكان .

والخطباء مؤثرين في الناس لأن الخطبة تعتمد على الإقناع والتاثير ، والإقناع لا يكون إلا بافكار ، وعلى هذا يكون الإيمان قائم على اساس عقلي وليس عاطفي ، يكفيك أن تعلم بأن كل دين يقوم أول ما يقوم على قانون السببية العقلي : (من أوجد الكون؟) ، ( من خلقني؟) ، (أنا عاقل ، والعاقل لا يخلقه إلا أعقل منه) ، (عندي شعور بالحب والجمال ، وهذا لا يخلقه إلا من هو أجمل منه ) ، (العاقل يقول : المادة لا تخلق حياة تحس وتأكل ، ففاقد الشيء لا يعطيه ، وأنا لم أخلق نفسي) .. هكذا يبدأ التديّن ، يبدأ التديّن من المنطق .

 ولهذا الملاحدة يحاولون أن ينقضوا الدين بالمنطق وليس بالعواطف ، لأنه بناء منطقي . ولأنهم لا يستطيعون أن يهدموا المنطق ، فيبدأون بالبحث عن خطأ في معلومة ذكرها الدين ، ولو كانت جانبية ، مثل خلق الإنسان من طين ، ونظرية التطور التي تحاول نقض الدين من خلالها ، من أجل أن يشككوا بالدين ويفتحوا الباب للمتضايقين من وضع التدين في مجتمعهم ، وايضاً لفئة أخرى تحب الإنفلات والشهوات المادية ، لكي يلحدوا بلا يقين أيضاً ، والداعية الملحد يعلم أن ليس كل الناس سيستجيبون له ، بسبب أنه لا يملك الدحض الكامل للمنطق الديني ..

ويكتفي بمن ينضم إليه من اصحاب الضغوط النفسية وطلاب المتعة المنفلتة . كل خطاب ملحد هو مقال تشكيكي وليس مقالاً علميا داحضا ، وهو يعلم بذلك .

لو كانوا يملكون الأدلة العقلية الكاملة لما اتعبوا انفسهم ونوّعوا في اساليبهم ، لكان يكفي إحالة أي مؤمن إلى كتاب واحد يدحض كل الإيمان علمياً . ذلك الكتاب لم ولن يملكوه ، ويبقى الموضوع إختيارياً ، فالنفوس الخيرة يريحها وجود إله حكيم يكافئ الطيبين ويأخذ حق المظلومين ويحمي الفضائل . والنفوس السيئة تريد أن لا يوجد قيّم على الكون كي يظلموا كيف شاءوا وينتهكوا الأخلاق كما يشتهون ، بدون حساب وجزاء ، على مبدأ ( إذا غاب القط إلعب يا فأر)  . والملحد يستغرب من المؤمن الذي يصرّ على الإلتزام بالدين وبالنظام الأخلاقي ..

ويتساءل : اليس لهذا الإنسان شهوات مثلي ؟ لماذا لا يحب الإستمتاع بالطول والعرض ؟ ويحب أن يقيّد نفسه ؟ ناسياً أن متعة هذا الإنسان معنوية وأخلاقية أكثر من كونها شهوانية ، وهذا هو الإختلاف الوحيد بين البشر . وبموجبه لن تلتقي الفئتان ابداً ، لأن الإنسان روح وجسد ، منهم من يؤثر الروح ومنهم من يؤثر الجسد .