الاثنين، 29 فبراير 2016

فكرة وتعليق : في الرسالات والوحي - توماس بين





تأسستْ كل كنيسةٍ قومية أو ديانةٍ على ادعاء أنّ هناك مهمةً خاصةً أوصلها الرب لأفراد معينين. لليهود موساهم، وللمسيحين يسوعهم ورسلهم وقديسيهم، وللأتراك محمّدهم، وكأنما الطريق للرب ليس متاحًا لكل الأفراد على حد سواء.
لكلٍّ من هذه الكنائس كتبٌ معينة، والتي يسمونها وحيًا أو كلمة الرب. يقول اليهود أن كلمة الرب الخاصة بهم أعطاها الرب لموسى وجهًا لوجه، ويقول المسيحيون أن كلمة الرب الخاصة بهم جاءت بإلهامٍ إلهيّ، ويقول الأتراك أن كلمة الرب الخاصة بهم أُنزلتْ من السماء عن طريق مَلَك. كل واحدةٍ من هذه الكنائس تتهم الأخرى بالكفر، وأنا بدوري أرميهم جميعًا بالكفر.

هذا غير صحيح في حق الإسلام ، فالإسلام الحقيقي يرى أن اليهودية والمسيحية ديانات من الله نفسه، لكنه دخل عليها التحريف البشري العلماني، لأجل الاستمتاع بالحياة الدنيا. (مصدّقا لما بين يديه من التوراة والانجيل) . وما الإسلام إلا تجديد لهذه الديانات، وغيره من الانبياء، لأن رسالة الله ليست فقط اليهودية والمسيحية والاسلام كما يتخيل هذا الكاتب وغيره ، في أن الديانات السماوية ثلاث فقط، هذا غير صحيح، بل كل دين بشري ووضعي اساسه دين سماوي، لكنه تحرّف. (وما من أمة إلا خلا فيها نذير). اذن الديانات كلها أساسها سماوي، فالله هو الذي علّم البشر الدين، وليس الدين اختراعا بشريا، لكن تغييره وتزويره اختراعات بشرية، بدوافع اجتماعية ومصلحية وعاطفية وسياسية.

ولأنّه من الضروري إلصاق الأفكار الصحيحة بالكلمات، فسأقوم قبل الخوض في تفاصيل الموضوع باستعراض بعض الملاحظات على كلمة “وحي”. الوحي في المفهوم الديني يعني أمرًا تم إيصاله مباشرةً من الرب للإنسان.
لا أحد سينكر أو سيجادل في قدرة الرب على الإتيان باتصالٍ كهذا وقتما شاء. لكن لغرض النقاش، فالإقرار بأن أمرًا ما أُوحيَ لفرد معين دون غيره، فذلك يعني أنّه وحيٌ لذاك الفرد وحده. حين يُخبر ذلك الفرد آخرًا، ويخبر الآخر ثالثًا، ويخبر الثالث رابعًا وهكذا، فلا يعني أنّه وحيٌ لكل أولئك الأفراد؛ هو وحيٌ للفرد الأول فقط، ونقلٌ بالنسبة للآخرين. لذلك فهم غير ملزمين بالإيمان به.

إذا كان الكلام صحيحا وذلك الرجل ثقة ومعروف بأمانته وأخلاقه ونزاهته ، فالناس لديهم عقول وأحاسيس ايضا ، أي لديهم انبياء في دواخلهم، واذا اتفق كلام الموثوق به مع الإحساس الفطري ومع العقل السليم، اذن صار مُلزما، وعلى قياس الكاتب الخاطئ ليس ملزما بأن يصدّق الأخبار، لأنها لم تقال له مباشرة، ولا حتى بالقوانين التي تسنها الدولة، لأنها لم تبلغه الدولة شخصيا بها، بل عن طريق النقل من الثقات، وعليه ألا يصدّق أي كتاب في التاريخ ولا أي تجربة علمية، لأنه لم يكن موجودا ولم ير بعينيه. اذن موثوقية التجربة مرتبطة بمن اجراها فقط، والتاريخ بمن شاهده فقط، وليس مُلزما بأن يصدّقهم ! حتى لو كانت الاخبار منشورة في صحيفة، من يضمن له ان رئيس التحرير ليس كذابا ؟ وهكذا . هذا مبدأ فاسد منطقيا ، وهذا الجنون بعينه. هو الذي يعتمد عليه مع الاسف في نقده للوحي. اساس الانتقاد فكرة مجنونة.

من التناقض في اللفظ والفكرة أن يتم تسمية أي شيءٍ يصلنا عن طريق الآخرين (سواءً شفهيًا أو كتابيًا) وحيًا. الوحي بالضرورة محدودٌ بالاتصال الأول، وبعدها يصبح مجرّد خبرٍ بأمرٍ ما يقول ذلك الفرد بأنه أوحي إليه. وعلى الرغم من أنه قد يجد نفسه ملزمًا بالإيمان بالأمر، فلستُ مجبرًا على الإيمان به بالطريقة ذاتها؛ فالأمر لم يوحَ إلي، ولا أمتلك دليلًا على أنه أوحي لذلك الفرد سوى قوله.

إذا الأتباع صدّقوا بما يقوله ، فهو وحي بالنسبة لهم، وليس بالنسبة للكاتب. ويسمونه وحيا، وكلام الكاتب ينطبق حتى على النبي نفسه، اذ ما الذي يضمن له أن الله من اوحى اليه وليس مريضا نفسيا اوان شيطانا يوحي إليه ؟ اذن النبي مؤمن مثل اتباعه ويعتمد على احساسه وعقله. كذلك هذا الفرد لا يملك دليلا على أن الله هو الذي يوحي إليه هذا الكلام. المسألة مسألة إيمان بحق وفضيلة، ليست مسألة تثبُّت بأدلة مادية قضائية.

ومن ناحية منطقية ما دام الكاتب يؤمن بوجود اله لهذا الكون، فمن ناحية منطقية واخلاقية ايضا لا يمكن ان يترك خلقه دون أي توجيه، ولا اختبار، ولا جزاء للمحسن ولا عقاب للمسيء، وهو ذلك الاله العظيم الدقيق في الخلق والحساب والقوانين المادية، كيف يكون منفلتا في القوانين المعنوية بينما هو منضبط بدرجة كاملة في القوانين المادية ؟ اذن من المنطقي جدا ان يرسل للناس من ينذرهم ويخبرهم بالطريق الافضل إليه. وبما أن الناس فيهم نوازع خير وبعضهم فيهم نوازع شر ، وهم في هذه الحياة يعانون، لا بد من انضباط الاله وعدله أن يعزل اصحاب الخير ويجعلهم في الخير المطلق، كذلك يعزل اصحاب الشر ويجعلهم في الشر المطلق، وهذا يحتاج ان يختبرهم، و احسن طريقة للاختبار أن يبعث رجلا منهم، لا أن يبعث مَلكا إليهم. حتى يجد من لا يحب الخير فرصة ومبررا لكي يرفض الخير بحجة أنه رجل منا، قد يكون كذابا، لكنه لا يسأل نفس السؤال : قد يكون صادقا . وهكذا ينفصل اهل الخير عن اهل الشر استعدادا لفصلهم في الآخرة. لكن لو انه ارسل ملكا مختلفا عن البشر لكان هذا ملزما للجميع، من فيه خير واخلاق ومن ليس فيه خير واخلاق، وبالتالي لن يكون الله عادلا حاشاه سبحانه.

حين أخبر موسى بني إسرائيل بتلقيه لَوحيْ الوصايا من يد الرب، لم يكونوا ملزمين بتصديقه لأنّهم يمتلكوا دليلًا آخر عليها سوى ما أخبره إياهم، وأنا لا أمتلك دليلًا عليها سوى ما أخبرني إياه بعض المؤرخين، فالوصايا لا تحمل في ذاتها أي دليل على إلهيتها، وهي تحتوي قبساتٍ أخلاقيةً حسنة يمكن لأي فرد مؤهلٍ ليكون مشرّعًا أو مقننًا أن يأتي بها دون اللجوء للتدخل الخارق للطبيعة.

مشكلة الكاتب انه يحسب أن مسألة اثبات وجود الله او الوحي يحتاج الى ادلة مادية قضائية، لو شاء الله لبيّن نفسه وانحلت المشكلة، لاحظ ان الكاتب فرح بكلمة "غير ملزم" ويرددها، مع أن الانسان هو المحتاج للدين. مثله مثل من يفرح بعدم وجود نظام لكي يفجر امامه. هو همه ان يكون الشيء ملزما فقط، وهذا يعني أن الشيء مكروه بالنسبة له. هو حدد موقفه وانتهى الامر، وهنا الاختبار الالهي الماهر في كشف ما تخفي النفوس، لكن لو كان ملزما لاحتاج لنفيه مجهودات كبيرة ولآمن وهو كاره، لكن الله لا يحب الكارهين له ان يكونوا مؤمنين به. لهذا فتح لهم طريقا للخروج، بل فتح لهم طرقا كثيرة في نفس مسار الدين لمن شاء ان يخرج منه. منتهى الحرية والحجج، ليهلك من هلك عن بينة.

الانسان صاحب القلب السليم لن يفرح اذا تعثر طريقه الى الله، بل سوف يتألم، فما بال القوم فرحون؟ انهم وجدوا حججا ليتملصوا من تبعات الدين ، هذه الفرحة الجاهلة السطحية بوجود ثغرات غير ملزمة في الدين تكفي عند الله لإدانتهم وكرههم، بل وزيادتهم في الكفر، اي كرهوا لقاء لله فكره الله لقاءهم. فسبحان المبدع في الخلق وفي التعامل مع الخلق. من احب الله واحب طريق الخير سيجد أن المنطق والعقل ليسا ضده بل معه، ومن كره الله و كره طريق الخير، فسوف يقف عند ادنى عثرة او شبهة لكي ينحرف عنها ويتحجج بها ويكبّرها، ويفرح أنه خرج عن طريق الخير. اذن المعيار هو الفرح او الكره، هنا القضية، وكأن الاختبار هو هل تحب الله ام تكره الله .. والباقي تابع لهذين الاصلين. من احب الله فهو محب للخير والعدالة والصلاح، ومن كره الله فهو يكره الاستقامة ويحب الفوضوية وأن يكون البقاء للأقوى هو المعيار، ولا يحب أن يحاسب ولا يراقب. وليس كل من يسمون مؤمنين يحبون الله لهذه الصفات، بل كثير منهم يتخيلونه بما يتناسب مع شرهم ثم يحبونه، ولو تخيلوه كما هو في الفضيلة، لربما تخلوا وسلكوا طريق الكافرين.

هنا الاختبار، أن تكون ماديا او تكون معنويا، أن تؤثر فصك الايمن أو تؤثر فصك الايسر . واي انسان يريد أن يختبر اخلاق انسان اخر، لا بد أن يختفي هو، فالاختبار على الايمان وليس على التأكد، هذه نقطة جوهرية في الموضوع يتجاوزها الطرح الملحد دائما. التأكد عمل عقلي، وملزم لكل من اطلع عليه، سواء كان فيه خير او فيه شر ، لكن الايمان بالخير لا يفعله الا من فيه خير، وليس ملزما على من لا يحب الخير، لأن الحجة موجودة امامه، وهي عدم كفاية الادلة. كأن الاختبار مركَّز على الاحساس اكثر من العقل. الملاحدة يريدون ان يتأكدوا، والله يريد أن يؤمنوا ، وهنا الإشكالية. ويحسبون أن الله يطالبهم بالتأكد، وهو يطالبهم بالإيمان.

(ملاحظة: إن من الضروري استثناء الخطاب القائل بأن الرب يفتقد “ذنوب الآباء في الأبناء الجيل الثالث والرابع” من مبغضيه*، فهذا الخطاب منافٍ لكل مبادئ العدالة الأخلاقية. -الكاتب).
حين يُقال لي أن القرآن كتب في السماء وأنزل على محمّد عن طريق مَلَك، فهذا الخبر في نفس مقام الدليل النقلي والثانوي كالسابق. أنا لم أرَ المَلَكَ بنفسي، ولذلك أملك حقًا بألا أؤمن به.
وكذلك حين يُقال لي أن امرأةً تسمّى مريم العذراء قالت أو أذاعت بأنها أنجبت ابنًا دون أن يمسّها رجل، وبأن خطيبها يوسف يقول بأن مَلكًَا أخبره بذلك، فأنا أملك حقًا بأن أؤمن بما قيل أو لا أؤمن. واقعةٌ كهذه تستلزم دليلًا أقوى من مجرّد كلامهم. لكننا لا نمتلكُ حتى كلمتهم؛ فلا يوسف ولا مريم كتبا هذا الأمر بنفسيهما، ولم تصلنا أقوالهم إلا منقولةً عن آخرين. ما وصلنا هو نقلٌ عن نقل، ولا أختار لنفسي بأن أطمئنّ باعتقادي على دليلٍ كهذا.

ولو كتبا لأمكن الكاتب ان يشكك في صحة النقل عنهما أو في كذبهما هما ، لأن من يعتمد على العقل وحده في التثبت لا يستطيع ان يتثبت عن شيء في امور البشرية والانسانية، فالشك قابل في الدخول في أي قضية انسانية، حتى ما يسمى العلوم الانسانية لا تملك ادلة علمية صارمة كما تمتلك العلوم المادية الطبيعية، فالحقيقة في التاريخ وعلم النفس ليست كالحقيقة في الهندسة والرياضيات، اذن هي قابلة للشك. أما أن للمثلث ثلاث زوايا فهذه غير قابلة للشك. هذا الملحد يريد ان تكون الامور الانسانية ملزمة بمثل إلزام زوايا المثلث الثلاث، وإلا فلن يلتزم بها إلا بما يناسب هواه . وما ناسب هواه سيعتبره ملزما وحقيقة، وما لم يناسب هواه في العلوم الانسانية سيقول انه غير ملزم، فصار الهوى هو المحتكم. إلى هذه الدرجة كرهه للإيمان.

ليس هناك ادلة ملزمة الا في عالم المادة فقط. الكاتب يجري المنهج المادي على الامور الانسانية، وبالتالي كل الامور الانسانية قابلة للشك والنفي عنده وليس فقط الوحي والانبياء. فمن يثبت له ان سقراط قال ما قال سوى النقل؟ والنقل ليس دليلا عنده على الاثبات. اذن لا وجود لسقراط، لكن الكاتب بخبث يستخدم كلمة (غير ملزم) بدلا من كلمة (غير حقيقي) لكي ينتقي ما يغطيه قانونه وما يسمح به، تبعا لهوى النفس، وهنا قُبض عليه وهو متلبس بكره الدين والله، لأنه يعرف انه لو استخدم كلمة (غير موجود) او (غير حقيقي) لاقتضى الامر ان ينفي كل شيء لم يشاهده بعينيه، وهذا سوف يضيّق على حياته ، وهو يعيش لأجل اللذة والمتعة ، فاستخدم كلمة (غير ملزم) ، أي إذا شئت التزم وإذا شئت لا التزم، وهنا خرج الكاتب الى المزاجية بعد ان ترك العقل جانبا.   

لكن ليس من الصعب التعليل للشأن الذي بلغته قصة كون عيسى المسيح ابنًا للرب. ولد المسيح في زمنٍ كانت الأساطير الوثنية رائجة وذائعة في العالم، وقد هيّأت الأساطيرُ الناسَ لأن يؤمنوا بقصة كهذه. وقد أذيع عن كل الرجال الخارقين تقريبًا والذين عاشوا في ظل الأساطير بأنهم أبناءٌ لبعض آلهتهم. لم يكن الإيمانُ بأن رجلًا وُلد إلهيًا أمرًا جديدًا، فالجماع بين الآلهة والنساء كان أمرًا مألوفًا حينها. فبحسب أخبارهم، جامع جوبيتر مئات النساء.لذا فالقصة لم تحتو في ذاتها أمرًا جديدًا أو مذهلًا أو مستهجنًا، بل كانت متوائمةً مع الآراء السائدة عند الأغيار** وعلماء الأساطير، وهم الوحيدون الذين صدقوها. واليهود الذين التزموا بشدة بعقيدتهم القائلة بإلهٍ واحدٍ لا أكثر، والذين طالما رفضوا الأساطير الوثنية، لم يؤمنوا بالقصة.
ومما يثير العجب ملاحظةُ نشوءِ نظريةِ ما يسمى بالكنيسة المسيحية، وهي الناشئة من أذيال الأساطير الوثنية. حدث تزاوجٌ مباشرٌ بينهما [أي بين النظرية المسيحية والأساطير] من البداية، وذلك حين جُعلَ مؤسس الكنيسة مولودًا إلهيًا. الثالوث الإلهيّ الذي تبع ذلك ليس إلا عملية تقليلٍ لتعدد الآلهة السابق، والذين قارب عددهم العشرين أو الثلاثين ألفًا. تمثال مريم العذراء هو خليفة تمثال ديانا الإيفسوسيّة. وقد تحوّل تأليه الأبطال لتطويب القديسين. وبينما كان علماء الأساطير يمتلكون آلهةً لكل شيء، فإن علماء الأساطير المسيحيين يمتلكون قديسين لكل شيء. أصبحت الكنيسة تضجّ بواحدٍ [من القديسين] مثلما كان البانثيون يضج بآخر [من الأبطال]، وروما هي مهوى الاثنين. النظرية المسيحية ليست إلا وثنيّة علماء الأساطير القدماء مكيّفةً لأغراض السلطة والثروة، ويبقى دور العقل والفلسفة في تفنيد هذه المزاعم في البرّ والبحر.

دخول الافكار البشرية على الاديان السماوية ليس بغريب ولا مستغرب، و اي نقد يعتمد على منطق موجه لأي دين أو جزئية في الدين هو في الحقيقة موجه لما دخله من بشرنة ليس إلا . اذن المهم هو تنقية الدين وليس نقد الدين. لكن قل من يحبون الدخول في هذا النوع من التفكير، والسؤال هو لماذا ؟ هل من وجد ثغرة على الدين يفرح ويطير بها إلى صحراء الإلحاد ؟ لماذا لا يتأكد ويعمل على تنقية الدين ؟ هذا القرآن موجود ومحفوظ، لماذا لا تُعرض عليه افكار الديانات والمذاهب لمن اراد أن ينقي دينه الخاص ؟ بدلا من الفرحة وقبول الالحاد بدون أي نقد ولا شك ؟ مع أنه ديانة شريرة معجونة بالشر أصلا . والدين خير دخله شر ، لكن الالحاد شر قد يدخله خير.

السبت، 27 فبراير 2016

بما أن الشعور الإنساني خيّر من أين تأتي دوافع الشر؟


"سؤال: بما أن دوافع الإنسان عبارة عن شعورات، والشعور بفطرته خيّر وليس في الإنسان شعور يحب الشر، اذن من أين تأتي الدوافع لفعل الشر؟ هل عن طريق خداع الشعور؟ فيخدع الشخص الصناعي شعوره بأن هذا عمل فاضل بينما هو رذيلة؟"


كلا الشعور لا يُخدع أبدا وهذا من قوانين الشعور. الشعور هو معيارنا لمعرفة الصواب من الخطأ والحق من الباطل فمن رحمة الله بنا أن حفظ هذا النور في داخلنا من التلاعب والتغيير.

لكن شعور الانسان يعمل بشكل خطوط منفصلة عن بعضها، فحين تكون صائما وترى الأكل أمامك يتحرك شعور الجوع، لكن يمنعك شعور أرقى وهو العبودية لله أن تنقض صيامك. أو حين يكون صديقك بحاجة ماسة لمساعدة و أنت متعب وتريد أن تنام، كلا الشعوران يعملان بشكل منفصل عن الأخر، والإنسان الذي يحترم شعوره يسمح للدوائر الأرقى من الشعور أن تغلب الدوائر الأدنى إذا تعارضا .

من يريد القيام بعمل صناعي سيرفض شعوره هذا العمل، لكنه يعمل حيل نفسية لإسكات هذا الشعور ومنعه من السيطرة، مثل أن ينهي عمله بسرعة، أو يقول سأتوب بعده، أو يماحك عقليا و يقول ما الذي يثبت ويضمن ويؤكد أن هذا الفعل خطأ..الخ من الحيل النفسية. أي أن من يريد القيام بعمل صناعي تجده يحرك شعورات اخرى ويركز عليها لإضعاف الشعور الرافض، مثل إبليس حين قال لآدم {ألا أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى}، أي حرك شعورات أخرى وأهمل الشعور الرافض أن يعصي ربه بالأكل من الشجرة. ومثل شخص يريد أن يسرق، فيقول مثلا أنا انسان فقير وعندي أولاد أريد أن أفرحهم، والأغنياء هؤلاء بخلاء ومخادعين يسرقون أموال الناس، أو يركز على ماذا سيفعل بالمال الذي سيسرقه وكيف سيشبع حاجاته، الخ.

وهكذا يحور مشاعره من أجل أن يجد دوافع لعمله الصناعي، لكنه لم يستطع أن يخدع ذلك الشعور الذي رفض ويقنعه أن السرقة عمل حسن، ولن يستطيع، بل فقط يدس شعور الفضيلة هذا ويخفيه {قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها}, لهذا دائما الانسان الصناعي دوافعه للحياة أضعف من الإنسان الطبيعي، لان الصناعي شعوره يرفض عمله ويتحرك بشعورات محورة.

لهذا، مهما تحايل الصناعي وبرر وعذّر لنفسه لا يستطيع أن يطمئن من الداخل وسيعيش بتعاسة، لأنه أعرض عن شعورات الفضيلة والعبودية في داخله التي ترفض الوضع الذي هو فيه : {ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا}.

وتكمن الصعوبة حينما يتعارض شعوران راقيان تجاه عمل معين، لكن أحدهما أرقى من الآخر، والتي عادة تسمى بالمعضلات الاخلاقية، كأب فقير يرى ابنته الصغيرة تبكي تريد لعبة معينة كقريناتها وهو لا يملك المال لشرائها، مما قد يجعله يفكر بالسرقة أو الرشوة أو الغش... , وهذا وضع يتطلب صبرا ودقة في تحري الخير واحترام الشعور.



السبت، 20 فبراير 2016

صفتي الإيمان والصلاة لله

الايمان من الإستئمان، لهذا الله يقول (سيتذكر من يخشى) لأن هذا الشخص سيؤمن ، وإذا آمن صار ممن لهم الأمن كما وصف القرآن (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن) والله أمان الخائفين، إذن فصفة الله (المؤمن) تعني أنه المؤمّن ، قل تعالى (السلام المؤمن) والسلام والمؤمن بمعنى متقارب.
صفة المتكبر مثلا الله يذمها في القرآن للبشر، وبنفس الوقت يصف نفسه بالمتكبر، هذا يعني أن الصفة لا نفهمها دائما على شكلها البشري، فأي بشر متكبر مذموم، لأنه يدّعي كبرا ليس له، فهو ولد ضعيفا ولا يعرف شيئا وسيموت ضعيفا ولا يعرف شيئا، لكن لله له الكبرياء في السموات والأرض، لأنه ليس إدعاء بل حقيقة.

المشكلة ليست في ذات الصفة، المشكلة في الكذب وإدعاء ما ليس موجودا، لهذا كل صور الفخر عند البشر مذمومة، لكنها على الله ليست مذمومة، (والله لا يحب كل مختال فخور). والله يفتخر في القرآن بنفسه، وهو أهله،. ولذلك عندما يفتخر فارس وشاعر ببطولته، يقول الناس انه يحق له ذلك ما دام انه فعلا اثبت أنه فارس، فإذن الفخر ليس عيبا بذاته، بل العيب في ادعائه وهو غير موجود.، أو الإكثار منه حتى لو كان على حق بدون داعي، كما قال الشاعر الذي يهجو بني تغلب:

ألهى بني تغلبَ عن كل مكرمةٍ .. قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثوم ..

لأن تكرار الإفتخار يسبب توقفا عن فعل المكارم ، والإكتفاء بما حصل. أو في صفة يبطل الفخر فيها، كالفخر بالنسب او العنصر او الشكل او الإقليم الخ .. لأنه لا مجهود له فيها من ناحية، ومن اخرى أن الخير ليس محصوراً فيها، فليس كل الخير في العنصر الفلاني او الشكل الفلاني او البلد الفلاني الخ ..

 الصفة اذا نسبت لله قد يكون لها أحيانا معنى مختلف عن معناها لو نسبت للبشر.

حتى الصلاة من الله على البشر غير صلاة البشر، فهي تعني محبة الله لهدايتهم وأن يختاروا الهداية للطريق الصحيح، لأنهم في اختبار، والله خيّر ، أي يتمنى أن يختاروا الخير. فقد قال تعالى (ولا يرضى لعباده الكفر).

واستعمال هذه الالفاظ بنفسها التي يوصف بها البشر من قبل الله، يدل على رحمته وتوادِّه معنا، فكما أنت تصلي الله يصلي، وكما أنت مؤمن الله مؤمن، وكما انت كريم الله كريم، وكما أنت حكيم الله حكيم. لكن مع مراعاة الفارق. وهذا يُشعِر المؤمن بالتقرب إلى الله. فالله لا يعود مجهولا ، فأنت تعرفه من أحسن ما تحسّه و أحسن ما فيك، وهذا يسبب الطمأنينة، أنك مقبل على اله حكيم عليم عادل خيّر يحب الخير، فيسبب هذا طمأنينة للنفس ومحبة ومعرفة بالله. وهذه الصفات يحبها كل البشر وتشعرهم بالأمن.

الاثنين، 15 فبراير 2016

محاصرة العقل تسبب تراجع الحضارة ، والمنهج العلمي أسسه العرب المسلمون

إذا حوصر العقل، فإن الحضارة تتراجع. والإلحاد الآن مفروض على العلم ويحاصر العقل، إذن سيجعل الحضارة تتراجع.

الآن بصراحة لم يعد علم الغرب محترما كما كان في الماضي، الآن يتم إهمال الظاهرة من أجل أن تمرر الايديولوجية، و بهذا ينطمس العلم وينتهي، اذ لم يعد لهؤلاء الذين يرصدون الظاهرة فقط ويدرسونها ويجرّبونها أي سيادة.

الآن بصراحة : هل تثق بكل ما تقوله ناسا ؟ هل تثق بالأحافير ؟ من الصعب ذلك ، لماذا ؟ لأنهم يريدون خدمة نظريات مبنية على أيديولوجيات، بل على أيديولوجية واحدة، أيديولوجية عدم وجود اله.

وجود ايديولوجية مُقدّمة على العقل أو فارضة لنفسها على العقل وتحاصره، يسبب انحرافا عن طريق الحقيقة، فتدور المجهودات حول نفسها ، ويتقوقع التقدم العلمي الحقيقي، كما دوامة الحلزون.

العجيب أنك تجد عند بعض رجال الدين القول بضعف العقل وأنه لا يقاس عليه ، و تسمع ايضا عند رجال الالحاد القول بأن العقل ليس بمقياس وأن المنطق ليس ثابت. من هنا نجد أنه كلما وجدنا احتقار أو نقد او محاصرة للعقل ، فإن الحضارة تتراجع. لأن قوة الانسان في عقله، فإذا انقمع تراجع إلى ضعفه الاساسي، فتصبح كل المخلوقات اقوى منه، كما قال المتنبي :

لولا العقولُ لكان أدنى ضيغمٍ ،، أدنى الى شرفٍ من الإنسانِ ..

هنا يكون كل ما يحصل عبارة عن أدلجة، و هكذا يبتعد العلم والعقل عن الطبيعة، لأن العقل ممنوع من العمل، فلا يوجد علم بلا عقل، و رويدا رويدا تنحسر ينابيع الإبداع، لأن المنبع هو العقل، فإذا قمعته انتهى الابداع، واذا انقمع فعلى العلم والحضارة السلام.

العجيب في الأيديولوجية الالحادية تقديم النقل على العقل، كتقديم كلام العلماء ونتائج المختبرات على العقل، وهكذا ينتهي العلم بمجرد أن يسيطر أصحاب هذه الأفكار. و كذلك فضائحهم فاحت، فهناك بحوث و أحافير ضدهم و يخفونها.

إذا دخلت المصالح والاهواء على العلم ، فستحرفه عن مساره، وإذا دخلته الايديولوجية فستتحكم به وينقضي الأمر. ولسان حال المؤدلِجِين يقول : "ممنوع ان تخرج أيها العقل ! كل مكتشفاتك ممنوعة و ستُردّ وتُقمع! " .. بالتالي تجف العقول. إن أحسن ما عندك كإنسان هو عقلك، ويحتاج إلى تشجيع، فإذا كان سيُقمع، فما الفائدة ؟ عمل العقل ليس بالسهل، يحتاج الى تشجيع وإبداع و أمن. العقل هو الذي صنع الحضارة، فإذا قُمع العقل فستسقط الحضارة، لأن العقل هو من بناها عندما تحرّر.

وإذا قلنا "تحرر" لا يعني أنه تحرر من الدين ، بل إن الدين من مقتضيات العقل. من مقتضيات العقل أن يوجد إله، فلا توجد فوضى. لكن عندما تفرض الايديولوجيا أو الفكرة السائدة أن الفوضى هي التي صنعت النظام، و تقمع أي احد يفكر بخلاف هذه الأيديولوجيا والفكرة السائدة، فهنا ينقمع العقل، لأن الحقيقة والواقع هي بخلاف هذا الشيء، وإلا فإن المصدّق بذلك يركض في الريح، ويخرج عن مستوى الارتباط بالطبيعة، بل ربما يرفض وقائع وظواهر في الطبيعة ويضطر للتأويل، ويكذب على الطبيعة ويُخفي، ويفعل كل شيء، أي صار إلى الباطل، والباطل لا ينتج حضارة ولا جديد، بل ينتج جموداً وقمعا، وهذا ما يحدث. فالملاحدة مسيطرون على مجال العلم ومجال العقل، ويمارسون القمع والإقصاء، وكل من تكلم بخارج ما يقولون يُحكم عليه بأنه يجب إبعاده عن الجامعات أو النشر، و يقولون ذلك بشكل علني، لأنه يشكّل خطرا على التلاميذ ! تماما مثل قمع الكنيسة سابقا، لم يتغير شيء.

لكن عندما تقول : هيا كلكم فكّروا ، الكل يفكّر ، والكل آمن ، هنا تقوم الحضارة. ويتصادم صاحب الباطل وصاحب الحق، والطبيعة تبقي الأفضل، لكن إذا اصبحت واقفا مع واحد، فهنا لا مجال، وينتهي كل شيء. و ليس في الإمكان أحسن مما كان ، فلا يتكلم احد في العلم أو نشأة الحياة أو أي مجال، لأن داروين و العلماء قالوا كل شيء وقبلت كلامهم الجمعيات العلمية والجامعات وانتهى كل شيء ! وتعتبر حينها مجدفا، ويقال لك : إذهب وأقرا .. ولا تفكر بعقلك، لأن عقلك تجاوزه العلم . كذلك كانت الكنيسة تفعل.

هذا يضيّع على البشرية فرصاً كثيرة، كانت ستتقدم اكثر لولا عمليات القمع الحضاري التي تحدث، كان يمكن لسقراط أن يتقدم أكثر، لكنه قُمِع بسبب مخالفته للفكر السائد والعقيدة السائدة. الحضارة اليونانية ما كانت تستطيع ان تنتج، ولو كانت تحمل بذور الإنتاج لأنتجت، لماذا استمرت 3 آلاف سنة ولم تنتج حضارة ؟ لماذا الحضارة العربية هي التي أنتجت من خلال الأوروبيين الحضارة الحديثة ؟ السبب أن الحضارة اليونانية غير مرتبطة بالمنهج العلمي، بل بأيديولوجيات ,افكرا سائدة تُمثّل عالم المُثل او السوفسطائيين الذين يمنطقون الأشياء ، لذلك اصبح لديهم فلسفة مثالية وفلسفة مادية . الحقيقة انه لم يكن لديهم ولا فلسفة مادية ، كانوا منقسمين إلى اناس مؤمنين وأناس قليلي تدين أو زنادقة و ملاحدة، هم لم يقدموا المنهج الوصفي الاستقرائي الطبيعي. و من يسمونهم العلماء الذريين، ليسوا لأنهم اكتشفوا الذرة، بل بالمنطق فقط، من أن كل شيء له اساس صغير يتكون منه، أي وحدات بناء، مثلما ان للبيت طوبات. و مرة قالوا الماء هو الاساس ، فكل شيء فيه ماء، و مرة قالوا التراب، و مرة قالوا النار، كل هذا بدون تجارب. ثم ظهرت نظرية العناصر الاربعة التي اوقفت التفكير والابداع.

بعبارة أخرى : علميا ، ماذا انتجت الحضارة اليونانية ؟ أنتجت نظرية العناصر الاربعة السخيفة، وأنتجت نظرية أن الأرض مركز الكون، و أن النجوم ثقوب من عالم المثل، هذا ما أنتجته. نظرية بطليموس هذه هي آخر تطور وصلت إليه الثقافة اليونانية في مجال الفلك، وهي التي اعتمدتها الكنيسة، و هي التي ثار عليها كوبرنيكوس الذي اخذ فكرتها من العرب أصلا.

لكن الحضارة اليونانية تقدمت في مجال الفلسفة، على يد فلاسفة كثر ، مثل سقراط وافلاطون و ارسطو وغيرهم ..

بينما في الحضارة العربية تجد علماء يبحثون في الطبيعة و الطب وغيرها ، مثل ابن البيطار الذي قال : نحن نحترم جالينوس ولكن لا بد أن نجرّب، فكانوا يدرسون النباتات ويرسمونها، ويجرّبون خواصها ، هذا منهج علمي. اذن المنهج العلمي من تأسيس العرب أولا، وبدأوا به في علم النحو واللغة والصرف بالذات. هذا هو المنهج العلمي الوصفي بالضبط.

مشكلة النحو بدأت مع انتشار القرآن في أقوام ليسوا عربا، بدأوا يلحنون في قراءته، وهنا جاءت الحاجة لوضع علم. أي ان العرب والمسلمين انطلقوا من أنفسهم لحل المشكلة. ولا يمكن الاستعانة بلغويّ من لغة اخرى لحل المشكلة، لا بد من عربي مسلم يحل المشكلة، ومن هنا بدأ العلم بالظهور، وهكذا بدأ المنهج العلمي عند العرب والمسلمين وتوسع . أصبح الوضع ككرة الثلج، كل اهتمام يجلب اهتماما آخر، حفظ القرآن من الأخطاء وفهمه - مثلا - أدى إلى جمع الشعر العربي، و أدى إلى إيجاد المعاجم اللغوية، و أدى إلى دراسات البلاغة، و أدى إلى دراسة المنطق، و أدى إلى دراسة الشعر، و أدى إلى فقه اللغة. فقه اللغة مُكتشف عربي بالأساس ، وأدى حفظ القرآن وفهمه إلى أمّهات كتب الأدب، مثل الكامل في اللغة والأدب، والأغاني، وهكذا . ثم هذا دفعهم إلى دراسة التاريخ ، وصاروا يكتبون التاريخ لارتباطاته، ثم بدأ الملل من هذه العلوم وقالوا لماذا لا ندرس الطبيعة ، أشياء لا علاقة لها بالإنسانيات، فدرسوها، كالجغرافيا، والفلك لعلاقته بالدين والمواقيت ، وكذلك الطب الذي قاد الى التشريح، وهكذا. بل إن الطب هو الذي قاد الى الكيمياء، فالكيمياء ابن الطب. إذن الدين هو الأساس .

كان اليونان يبحثون في الكيمياء عن اكسير الحياة وحجر الفلاسفة الذي يحول الحجارة الى ذهب - من أجل ان تفهم ان افكارهم ليست واقعية – هكذا كان اساس الكيمياء عندهم . بينما الكيمياء عند العرب أساسها الطب، من أجل العلاج، فمثلا جابر بن حيان كيميائي، وكان صيدلاني، ويلقب بأبي الكيمياء. بل ان الصيدلة نفسها علم عربي بالدرجة الأولى. والآن تشاهد الأدوية كلها كيميائية.

الروح العلمية عند العرب انتقلت من اللغة الى الطبيعة، لأنهم تشبعوا من النحو ، وقد قالوا : طبخ النحو حتى احترق، وهؤلاء علماء لا يريدون التوقف، والناس تريد الكتب الجديدة والموضوعات الجديدة، مثل الجاحظ عندما تقرأ رسائله، تجدها تختلف، كل مرة موضوع مختلف. كأن يؤلف رسالة في الأنساب ، ثم يؤلف رسالة في الصاهل والشاحج، عن الخيل وعن البغال، ثم يؤلف عن العرجان والبرصان ، ثم يؤلف رسالة التربيع والتدوير في الفكاهة، التي استفاد منها ابن زيدون. هذا على ماذا يدل ؟ يدل على ان هناك أناس تريد الجديد. انظر الى تأليفات الثعالبي مثلا، المؤلَّف ابداع بحد ذاته، ونلاحظ عناوين الكتب كيف هي مبتكرة ومسجوعة، من أجل ان تغري القراء ليشتروا النسخ. أي يوجد قراء، والقراء هؤلاء ملّوا ويريدون جديدا. وبعض هؤلاء المؤلفين عاشوا فقراء و ماتوا فقراء، مثل سيبويه ، لم يطلب مالا من أحد، ومثل الخليل بن أحمد ، لم يستفد من أي احد أي شيء ، اللهم الجاحظ اذا احتاج مالا او ضغطت عليه والدته يؤلف رسالة يعطيها لوجيه لكي يكافئه عليها. ولو تقرأ كتاب الحيوان للجاحظ تجده مستغرقا في تفاصيل الحيوان.

وهذه قصة تبين مدى اهتمام العلماء العرب بالمعرفة والعلم : فقد كان لدى الخليفة الهادي الراوية الاصمعي وابو عبيدة ، و تحداهم في الخيل ، و قد كانت لديه فرس، فذهب الخليفة و نام واستيقظ و رجع و هم واقفون عندها، و وجدهم يذكرون كل ما قيل في الحارك، وكل ما قيل في الذيل ، الخ .. لقد كانوا رواة يحفظون ويكتبون.

هذا يدل على وجود قاعدة جماهيرية تريد هذا الشيء، وليس فقط الخليفة. و حتى بين هؤلاء العلماء يوجد تنافسات واختلافات، كأن يختلف مع معلمه او شيخه ، فتجده قد أبتكر نظرية جديدة، مثل الجاحظ عندما ألّف نظرية المعاني بناء على بيت من الشعر سمعه من شيخه وقال عنه شيخه أنه جميل جدا ، بينما كان يرى أنه معنى عادي، فيه أن الإنسان يعيش ثم يموت، فاستغرب الجاحظ و تسائل ما الجديد في ذلك ، و قال الجاحظ : و ذهب الشيخ الى استحسان المعنى، والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العربي والاعجمي، والعامي والمتعلم، ولكن العبرة في النظم .. الخ. فجاء من بعده عبد القاهر الجرجاني و ألّف نظرية النظم الرائعة في البلاغة. ليس كل هذا التحصيل والتأليف من العلماء من اجل الخلفاء، بل يكون بينهم خلافات ونقاشات موضوعية ويبحثون فيها، و ينتج من ذلك كتاب جديد أو علم جديد في مجال لم يكن مطروقا، إنها نهضة . فيها تنافُس بين العلماء وفيها خلفاء يعطون جوائز، ودور وراقة تنسخ وتطبع ، ويوظف الوراق من الصبية اصحاب الخطوط الجميلة ويعملون على نسخها .

العالم الآن ذاهب الى دمار عقلي اكثر و أكثر ، ربما من يأتون بعدنا يعتبرون من في زماننا أنهم عباقرة، لكن ما سر هذه العبقرية عند مثل هؤلاء العلماء ؟ المعري يدخل الى مكتبة دار الحكمة ويقول ما اضافت على ما عندي شيئا ! ولاحظ أنه أعمى ! والمتنبي يوم كان طفلا ذهب الى دكان وراق و وجده الوراق يقرأ في كتاب ، ومضى وقت وهو يقرأ فيه ، فقال الوراق : إما أن تشتري أو تترك الكتاب ، فقال المتنبي : لقد حفظته كله ! فاستغرب الوراق، فقال المتنبي : وإذا حفظته عليك ؟ قال الوراق : اعطيك اياه ، فسمّع المتنبي عليه ما في الكتاب حتى انذهل الوراق ، فقال له : حسبك ! انت سيقتلك عقلك ! خذ الكتاب واذهب !

ايضا مثل عبقرية علي بن ابي طالب عندما قسم الكلام إلى اسم وفعل وحرف ، هذه النقطة التي تعتبر بداية علم النحو كله .. بعد هذا ، ننظر كيف انه بسبب الخوف على القرآن من الخطأ والاختلاط على لسان غير العرب ، انطلقت حضارة عظيمة وكبيرة .

المنهج العلمي التجريبي اذن أسسه العرب إلهاما من القرآن الذي نقل الانسان عن ان يكون ضحية للافكار السائدة ، هذا المنهج الذي تلقّفته أوروبا ، وليس الذي اتى به اليونان ولا من قبلهم ..

القرآن والإسلام الحقيقي صافي من الافكار البشرية وخالص منها، بينما سيطرة الافكار الدينية الخاطئة على اليونان هي التي افسدت طبهم وعلمهم وفلسفتهم، مع وجود استثناءات. لكن الخرافات عند المسلمين ليست أصيلة وليست في صميم الدين نفسه، كتناسخ الأرواح وعالم المثل أو أن الانسان محور الكون وأن الارض مسطحة عند غير المسلمين.

مثلا : تصوّر المسلم للأرض أقرب لأن يتعلم الفلك بالطريقة الصحيحة من تصوّر اليوناني او المسيحي أو أي تابع لدين آخر ، بسبب قلة الخرافات البشرية لديه، ولكثرة الإشارات الموجِّهة للفهم الصحيح عن الارض من خلال القرآن، فالاقل خرافات هو الاقرب للمنهج العلمي. انظر كيف الغرب انصدم بنظرية كوبرنيكوس ، مع ان اساسها نظرية عند العرب. العالم الاسلامي لم ينصدم بنظرية كوبرنيكوس ولم يتصادم المسلمون مع العلم ابدا إلا في حالات قليلة و شاذة، لأن القرآن أسسهم على الطريق الصحيح، فهو اخبرهم مثلا عن كروية الارض ودورانها وتكلم عن الافلاك و أنه (كل في فلك يسبحون) ، وهي نظرية ابن الشاطر اساسا وليست لكوبرنيكوس، الاخير استفاد منها مثلما استفاد ديكارت من غيره. لكن اليونان والغرب المسيحي تصوّر الارض بشكل مسطح ، وأنها مركز الكون. لهذا صدمتهم نظرية كوبرنيكوس وجاليليو.

اذا قلنا منهج علمي، فنحن نقصد في أوسع طرقه ، وإلا فاستعماله بشكل جزئي موجود في كل الحضارات ، وليس فقط عند العرب.

في مجال النظافة مثلا، عانى الغرب معاناة كبيرة حتى يصل لأن يكون نظيفا في لبسه واكله وبيته، لكن العرب والمسلمون وصلوا اليها بسهولة، والسبب هو الحشد الايديولوجي الديني الصحيح الذي يحث على النظافة والغسل (وثيابك فطهر). اذن الدين الاسلامي الصحيح هو الذي اسس للحضارة التي يعيشها البشر اليوم. وقد تميز بالروح المغامرة وقلة الخرافات، والملاحدة ليسوا خالين من الخرافات الاساسية ، وهنا المشكلة عندما تكون الخرافة في الاساس، و هم الأكثر في هذا المجال ، فهم يؤمنون بوجود شيء من لا شيء ، ويؤمنون بوجود الفوضى في الطبيعة، وهذا يقفل باب المنهج العلمي من اساسه، ويقفزون على المنطق العلمي، فيقولون بحدوث الشيء من لا شيء، وبالتطور العشوائي، ومادية الحياة التي افسدت الطب النفسي وكذلك المادي، وغيرها من الافكار الشاطحة عن الواقع، والتي يعيشون تحت تأثيرها أثناء بحثهم العلمي.

اذن منطقية الانسان تبدأ من منطقية دينه، واذا قلنا دينه يدخل في ذلك الالحاد أيضا، لأنه دين ، والدين هو الرؤية للحياة وما بعد الحياة، والملحد لديه رؤية كاملة للحياة وما بعد الحياة، بل حتى لما قبل الحياة.