الاثنين، 29 فبراير 2016

فكرة وتعليق : في الرسالات والوحي - توماس بين





تأسستْ كل كنيسةٍ قومية أو ديانةٍ على ادعاء أنّ هناك مهمةً خاصةً أوصلها الرب لأفراد معينين. لليهود موساهم، وللمسيحين يسوعهم ورسلهم وقديسيهم، وللأتراك محمّدهم، وكأنما الطريق للرب ليس متاحًا لكل الأفراد على حد سواء.
لكلٍّ من هذه الكنائس كتبٌ معينة، والتي يسمونها وحيًا أو كلمة الرب. يقول اليهود أن كلمة الرب الخاصة بهم أعطاها الرب لموسى وجهًا لوجه، ويقول المسيحيون أن كلمة الرب الخاصة بهم جاءت بإلهامٍ إلهيّ، ويقول الأتراك أن كلمة الرب الخاصة بهم أُنزلتْ من السماء عن طريق مَلَك. كل واحدةٍ من هذه الكنائس تتهم الأخرى بالكفر، وأنا بدوري أرميهم جميعًا بالكفر.

هذا غير صحيح في حق الإسلام ، فالإسلام الحقيقي يرى أن اليهودية والمسيحية ديانات من الله نفسه، لكنه دخل عليها التحريف البشري العلماني، لأجل الاستمتاع بالحياة الدنيا. (مصدّقا لما بين يديه من التوراة والانجيل) . وما الإسلام إلا تجديد لهذه الديانات، وغيره من الانبياء، لأن رسالة الله ليست فقط اليهودية والمسيحية والاسلام كما يتخيل هذا الكاتب وغيره ، في أن الديانات السماوية ثلاث فقط، هذا غير صحيح، بل كل دين بشري ووضعي اساسه دين سماوي، لكنه تحرّف. (وما من أمة إلا خلا فيها نذير). اذن الديانات كلها أساسها سماوي، فالله هو الذي علّم البشر الدين، وليس الدين اختراعا بشريا، لكن تغييره وتزويره اختراعات بشرية، بدوافع اجتماعية ومصلحية وعاطفية وسياسية.

ولأنّه من الضروري إلصاق الأفكار الصحيحة بالكلمات، فسأقوم قبل الخوض في تفاصيل الموضوع باستعراض بعض الملاحظات على كلمة “وحي”. الوحي في المفهوم الديني يعني أمرًا تم إيصاله مباشرةً من الرب للإنسان.
لا أحد سينكر أو سيجادل في قدرة الرب على الإتيان باتصالٍ كهذا وقتما شاء. لكن لغرض النقاش، فالإقرار بأن أمرًا ما أُوحيَ لفرد معين دون غيره، فذلك يعني أنّه وحيٌ لذاك الفرد وحده. حين يُخبر ذلك الفرد آخرًا، ويخبر الآخر ثالثًا، ويخبر الثالث رابعًا وهكذا، فلا يعني أنّه وحيٌ لكل أولئك الأفراد؛ هو وحيٌ للفرد الأول فقط، ونقلٌ بالنسبة للآخرين. لذلك فهم غير ملزمين بالإيمان به.

إذا كان الكلام صحيحا وذلك الرجل ثقة ومعروف بأمانته وأخلاقه ونزاهته ، فالناس لديهم عقول وأحاسيس ايضا ، أي لديهم انبياء في دواخلهم، واذا اتفق كلام الموثوق به مع الإحساس الفطري ومع العقل السليم، اذن صار مُلزما، وعلى قياس الكاتب الخاطئ ليس ملزما بأن يصدّق الأخبار، لأنها لم تقال له مباشرة، ولا حتى بالقوانين التي تسنها الدولة، لأنها لم تبلغه الدولة شخصيا بها، بل عن طريق النقل من الثقات، وعليه ألا يصدّق أي كتاب في التاريخ ولا أي تجربة علمية، لأنه لم يكن موجودا ولم ير بعينيه. اذن موثوقية التجربة مرتبطة بمن اجراها فقط، والتاريخ بمن شاهده فقط، وليس مُلزما بأن يصدّقهم ! حتى لو كانت الاخبار منشورة في صحيفة، من يضمن له ان رئيس التحرير ليس كذابا ؟ وهكذا . هذا مبدأ فاسد منطقيا ، وهذا الجنون بعينه. هو الذي يعتمد عليه مع الاسف في نقده للوحي. اساس الانتقاد فكرة مجنونة.

من التناقض في اللفظ والفكرة أن يتم تسمية أي شيءٍ يصلنا عن طريق الآخرين (سواءً شفهيًا أو كتابيًا) وحيًا. الوحي بالضرورة محدودٌ بالاتصال الأول، وبعدها يصبح مجرّد خبرٍ بأمرٍ ما يقول ذلك الفرد بأنه أوحي إليه. وعلى الرغم من أنه قد يجد نفسه ملزمًا بالإيمان بالأمر، فلستُ مجبرًا على الإيمان به بالطريقة ذاتها؛ فالأمر لم يوحَ إلي، ولا أمتلك دليلًا على أنه أوحي لذلك الفرد سوى قوله.

إذا الأتباع صدّقوا بما يقوله ، فهو وحي بالنسبة لهم، وليس بالنسبة للكاتب. ويسمونه وحيا، وكلام الكاتب ينطبق حتى على النبي نفسه، اذ ما الذي يضمن له أن الله من اوحى اليه وليس مريضا نفسيا اوان شيطانا يوحي إليه ؟ اذن النبي مؤمن مثل اتباعه ويعتمد على احساسه وعقله. كذلك هذا الفرد لا يملك دليلا على أن الله هو الذي يوحي إليه هذا الكلام. المسألة مسألة إيمان بحق وفضيلة، ليست مسألة تثبُّت بأدلة مادية قضائية.

ومن ناحية منطقية ما دام الكاتب يؤمن بوجود اله لهذا الكون، فمن ناحية منطقية واخلاقية ايضا لا يمكن ان يترك خلقه دون أي توجيه، ولا اختبار، ولا جزاء للمحسن ولا عقاب للمسيء، وهو ذلك الاله العظيم الدقيق في الخلق والحساب والقوانين المادية، كيف يكون منفلتا في القوانين المعنوية بينما هو منضبط بدرجة كاملة في القوانين المادية ؟ اذن من المنطقي جدا ان يرسل للناس من ينذرهم ويخبرهم بالطريق الافضل إليه. وبما أن الناس فيهم نوازع خير وبعضهم فيهم نوازع شر ، وهم في هذه الحياة يعانون، لا بد من انضباط الاله وعدله أن يعزل اصحاب الخير ويجعلهم في الخير المطلق، كذلك يعزل اصحاب الشر ويجعلهم في الشر المطلق، وهذا يحتاج ان يختبرهم، و احسن طريقة للاختبار أن يبعث رجلا منهم، لا أن يبعث مَلكا إليهم. حتى يجد من لا يحب الخير فرصة ومبررا لكي يرفض الخير بحجة أنه رجل منا، قد يكون كذابا، لكنه لا يسأل نفس السؤال : قد يكون صادقا . وهكذا ينفصل اهل الخير عن اهل الشر استعدادا لفصلهم في الآخرة. لكن لو انه ارسل ملكا مختلفا عن البشر لكان هذا ملزما للجميع، من فيه خير واخلاق ومن ليس فيه خير واخلاق، وبالتالي لن يكون الله عادلا حاشاه سبحانه.

حين أخبر موسى بني إسرائيل بتلقيه لَوحيْ الوصايا من يد الرب، لم يكونوا ملزمين بتصديقه لأنّهم يمتلكوا دليلًا آخر عليها سوى ما أخبره إياهم، وأنا لا أمتلك دليلًا عليها سوى ما أخبرني إياه بعض المؤرخين، فالوصايا لا تحمل في ذاتها أي دليل على إلهيتها، وهي تحتوي قبساتٍ أخلاقيةً حسنة يمكن لأي فرد مؤهلٍ ليكون مشرّعًا أو مقننًا أن يأتي بها دون اللجوء للتدخل الخارق للطبيعة.

مشكلة الكاتب انه يحسب أن مسألة اثبات وجود الله او الوحي يحتاج الى ادلة مادية قضائية، لو شاء الله لبيّن نفسه وانحلت المشكلة، لاحظ ان الكاتب فرح بكلمة "غير ملزم" ويرددها، مع أن الانسان هو المحتاج للدين. مثله مثل من يفرح بعدم وجود نظام لكي يفجر امامه. هو همه ان يكون الشيء ملزما فقط، وهذا يعني أن الشيء مكروه بالنسبة له. هو حدد موقفه وانتهى الامر، وهنا الاختبار الالهي الماهر في كشف ما تخفي النفوس، لكن لو كان ملزما لاحتاج لنفيه مجهودات كبيرة ولآمن وهو كاره، لكن الله لا يحب الكارهين له ان يكونوا مؤمنين به. لهذا فتح لهم طريقا للخروج، بل فتح لهم طرقا كثيرة في نفس مسار الدين لمن شاء ان يخرج منه. منتهى الحرية والحجج، ليهلك من هلك عن بينة.

الانسان صاحب القلب السليم لن يفرح اذا تعثر طريقه الى الله، بل سوف يتألم، فما بال القوم فرحون؟ انهم وجدوا حججا ليتملصوا من تبعات الدين ، هذه الفرحة الجاهلة السطحية بوجود ثغرات غير ملزمة في الدين تكفي عند الله لإدانتهم وكرههم، بل وزيادتهم في الكفر، اي كرهوا لقاء لله فكره الله لقاءهم. فسبحان المبدع في الخلق وفي التعامل مع الخلق. من احب الله واحب طريق الخير سيجد أن المنطق والعقل ليسا ضده بل معه، ومن كره الله و كره طريق الخير، فسوف يقف عند ادنى عثرة او شبهة لكي ينحرف عنها ويتحجج بها ويكبّرها، ويفرح أنه خرج عن طريق الخير. اذن المعيار هو الفرح او الكره، هنا القضية، وكأن الاختبار هو هل تحب الله ام تكره الله .. والباقي تابع لهذين الاصلين. من احب الله فهو محب للخير والعدالة والصلاح، ومن كره الله فهو يكره الاستقامة ويحب الفوضوية وأن يكون البقاء للأقوى هو المعيار، ولا يحب أن يحاسب ولا يراقب. وليس كل من يسمون مؤمنين يحبون الله لهذه الصفات، بل كثير منهم يتخيلونه بما يتناسب مع شرهم ثم يحبونه، ولو تخيلوه كما هو في الفضيلة، لربما تخلوا وسلكوا طريق الكافرين.

هنا الاختبار، أن تكون ماديا او تكون معنويا، أن تؤثر فصك الايمن أو تؤثر فصك الايسر . واي انسان يريد أن يختبر اخلاق انسان اخر، لا بد أن يختفي هو، فالاختبار على الايمان وليس على التأكد، هذه نقطة جوهرية في الموضوع يتجاوزها الطرح الملحد دائما. التأكد عمل عقلي، وملزم لكل من اطلع عليه، سواء كان فيه خير او فيه شر ، لكن الايمان بالخير لا يفعله الا من فيه خير، وليس ملزما على من لا يحب الخير، لأن الحجة موجودة امامه، وهي عدم كفاية الادلة. كأن الاختبار مركَّز على الاحساس اكثر من العقل. الملاحدة يريدون ان يتأكدوا، والله يريد أن يؤمنوا ، وهنا الإشكالية. ويحسبون أن الله يطالبهم بالتأكد، وهو يطالبهم بالإيمان.

(ملاحظة: إن من الضروري استثناء الخطاب القائل بأن الرب يفتقد “ذنوب الآباء في الأبناء الجيل الثالث والرابع” من مبغضيه*، فهذا الخطاب منافٍ لكل مبادئ العدالة الأخلاقية. -الكاتب).
حين يُقال لي أن القرآن كتب في السماء وأنزل على محمّد عن طريق مَلَك، فهذا الخبر في نفس مقام الدليل النقلي والثانوي كالسابق. أنا لم أرَ المَلَكَ بنفسي، ولذلك أملك حقًا بألا أؤمن به.
وكذلك حين يُقال لي أن امرأةً تسمّى مريم العذراء قالت أو أذاعت بأنها أنجبت ابنًا دون أن يمسّها رجل، وبأن خطيبها يوسف يقول بأن مَلكًَا أخبره بذلك، فأنا أملك حقًا بأن أؤمن بما قيل أو لا أؤمن. واقعةٌ كهذه تستلزم دليلًا أقوى من مجرّد كلامهم. لكننا لا نمتلكُ حتى كلمتهم؛ فلا يوسف ولا مريم كتبا هذا الأمر بنفسيهما، ولم تصلنا أقوالهم إلا منقولةً عن آخرين. ما وصلنا هو نقلٌ عن نقل، ولا أختار لنفسي بأن أطمئنّ باعتقادي على دليلٍ كهذا.

ولو كتبا لأمكن الكاتب ان يشكك في صحة النقل عنهما أو في كذبهما هما ، لأن من يعتمد على العقل وحده في التثبت لا يستطيع ان يتثبت عن شيء في امور البشرية والانسانية، فالشك قابل في الدخول في أي قضية انسانية، حتى ما يسمى العلوم الانسانية لا تملك ادلة علمية صارمة كما تمتلك العلوم المادية الطبيعية، فالحقيقة في التاريخ وعلم النفس ليست كالحقيقة في الهندسة والرياضيات، اذن هي قابلة للشك. أما أن للمثلث ثلاث زوايا فهذه غير قابلة للشك. هذا الملحد يريد ان تكون الامور الانسانية ملزمة بمثل إلزام زوايا المثلث الثلاث، وإلا فلن يلتزم بها إلا بما يناسب هواه . وما ناسب هواه سيعتبره ملزما وحقيقة، وما لم يناسب هواه في العلوم الانسانية سيقول انه غير ملزم، فصار الهوى هو المحتكم. إلى هذه الدرجة كرهه للإيمان.

ليس هناك ادلة ملزمة الا في عالم المادة فقط. الكاتب يجري المنهج المادي على الامور الانسانية، وبالتالي كل الامور الانسانية قابلة للشك والنفي عنده وليس فقط الوحي والانبياء. فمن يثبت له ان سقراط قال ما قال سوى النقل؟ والنقل ليس دليلا عنده على الاثبات. اذن لا وجود لسقراط، لكن الكاتب بخبث يستخدم كلمة (غير ملزم) بدلا من كلمة (غير حقيقي) لكي ينتقي ما يغطيه قانونه وما يسمح به، تبعا لهوى النفس، وهنا قُبض عليه وهو متلبس بكره الدين والله، لأنه يعرف انه لو استخدم كلمة (غير موجود) او (غير حقيقي) لاقتضى الامر ان ينفي كل شيء لم يشاهده بعينيه، وهذا سوف يضيّق على حياته ، وهو يعيش لأجل اللذة والمتعة ، فاستخدم كلمة (غير ملزم) ، أي إذا شئت التزم وإذا شئت لا التزم، وهنا خرج الكاتب الى المزاجية بعد ان ترك العقل جانبا.   

لكن ليس من الصعب التعليل للشأن الذي بلغته قصة كون عيسى المسيح ابنًا للرب. ولد المسيح في زمنٍ كانت الأساطير الوثنية رائجة وذائعة في العالم، وقد هيّأت الأساطيرُ الناسَ لأن يؤمنوا بقصة كهذه. وقد أذيع عن كل الرجال الخارقين تقريبًا والذين عاشوا في ظل الأساطير بأنهم أبناءٌ لبعض آلهتهم. لم يكن الإيمانُ بأن رجلًا وُلد إلهيًا أمرًا جديدًا، فالجماع بين الآلهة والنساء كان أمرًا مألوفًا حينها. فبحسب أخبارهم، جامع جوبيتر مئات النساء.لذا فالقصة لم تحتو في ذاتها أمرًا جديدًا أو مذهلًا أو مستهجنًا، بل كانت متوائمةً مع الآراء السائدة عند الأغيار** وعلماء الأساطير، وهم الوحيدون الذين صدقوها. واليهود الذين التزموا بشدة بعقيدتهم القائلة بإلهٍ واحدٍ لا أكثر، والذين طالما رفضوا الأساطير الوثنية، لم يؤمنوا بالقصة.
ومما يثير العجب ملاحظةُ نشوءِ نظريةِ ما يسمى بالكنيسة المسيحية، وهي الناشئة من أذيال الأساطير الوثنية. حدث تزاوجٌ مباشرٌ بينهما [أي بين النظرية المسيحية والأساطير] من البداية، وذلك حين جُعلَ مؤسس الكنيسة مولودًا إلهيًا. الثالوث الإلهيّ الذي تبع ذلك ليس إلا عملية تقليلٍ لتعدد الآلهة السابق، والذين قارب عددهم العشرين أو الثلاثين ألفًا. تمثال مريم العذراء هو خليفة تمثال ديانا الإيفسوسيّة. وقد تحوّل تأليه الأبطال لتطويب القديسين. وبينما كان علماء الأساطير يمتلكون آلهةً لكل شيء، فإن علماء الأساطير المسيحيين يمتلكون قديسين لكل شيء. أصبحت الكنيسة تضجّ بواحدٍ [من القديسين] مثلما كان البانثيون يضج بآخر [من الأبطال]، وروما هي مهوى الاثنين. النظرية المسيحية ليست إلا وثنيّة علماء الأساطير القدماء مكيّفةً لأغراض السلطة والثروة، ويبقى دور العقل والفلسفة في تفنيد هذه المزاعم في البرّ والبحر.

دخول الافكار البشرية على الاديان السماوية ليس بغريب ولا مستغرب، و اي نقد يعتمد على منطق موجه لأي دين أو جزئية في الدين هو في الحقيقة موجه لما دخله من بشرنة ليس إلا . اذن المهم هو تنقية الدين وليس نقد الدين. لكن قل من يحبون الدخول في هذا النوع من التفكير، والسؤال هو لماذا ؟ هل من وجد ثغرة على الدين يفرح ويطير بها إلى صحراء الإلحاد ؟ لماذا لا يتأكد ويعمل على تنقية الدين ؟ هذا القرآن موجود ومحفوظ، لماذا لا تُعرض عليه افكار الديانات والمذاهب لمن اراد أن ينقي دينه الخاص ؟ بدلا من الفرحة وقبول الالحاد بدون أي نقد ولا شك ؟ مع أنه ديانة شريرة معجونة بالشر أصلا . والدين خير دخله شر ، لكن الالحاد شر قد يدخله خير.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق