السبت، 8 نوفمبر 2025

تأملات في سورة العلق

 

ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ (2) ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ (3) ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ (4) عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ (5)

 

قوله تعالى (اقرأ باسم ربك) أي كلام ربك، وقوله (باسم ربك) وردت أيضا في رسالة النبي سليمان لملكة سبأ، في قوله (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم)، فمعنى (بسم الله الرحمن الرحيم) أي أن هذا الأمر منسوبٌ إلى الله، لذلك كتب سليمان أنه من سليمان وإنه بإسم الله وليس بإسم سليمان، وهذا معنى كلمة (بإسم)، ولم يذكر البسملة في الأول كما هو معتادٌ عندنا. وهنا لا يجب أن نجعل بعد إسم الله باطلا، لأننا هكذا ننسب هذا الباطل إلى الله، ونجعله بإسمه!

 

وإن صحت الرواية أنها أول ما نزل من القرآن والله أعلم بذلك، فهذا يعني أن الدين دين العلم والقراءة، إذ أول كلمة فيه هي (إقرأ)، وحتى لو لم تكن اول كلمة نزلت، فقد تكررت مرتين، وقال تعالى (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وهذا في تفضيل العلم على الجهل.

 

والقرآن لقوم يعقلون، أي يعقلون ما يقرأون وما يسمعون. ولاحظ قوله (بإسم ربك الذي خلق) لأن المؤمنين والمشركين على السواء يقرّون أن الله هو الخالق. ثم خصّ بالذكر خلق الإنسان، لأن الكلام موجهٌ للإنسان الذي خلقه الله من علق، وهذا فيه اعجاز علمي، لأن أول ما تندمج البويضة الملقحة، تعلق في جدار الرحم، كأنها علقة. ومن أخبر محمدا ومن أعلمه بهذا؟ هذا إعجاز علمي من الله، بل وردت بالتفصيل: نطفة ثم علقة ثم مضغة.

 

ثم تكررت كلمة (إقرأ) أي إقرأ القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم. وهو الذي قال تعالى عنه (وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه)، اذن هدي النبي محمد بالقرآن، ويعني أن القرآن هو رسالة محمد. والله يقول له (اتّبع ما أنزل إليك من ربك)، أي لا تحيد عنه ولا تخرج، إلا بحكمة الرسول.

 

وقوله (إقرأ وربك الأكرم) فهو الذي خلق سبحنه، وهو الذي رزق وأكرم وأنعم، ومن أكبر نعمه أنّه علّم بالقلم : (الذي علّم بالقلم)، وهذا يدلنا على أن الله هو من علم الانسان الكتابة، وليست اكتشافا بشريا.

 

والظاهر أن الكتابة كانت منذ وجد البشر على الأرض، منذ وجد آدم، لأن الله ينزّل كُتُبه، مثلما تعلم آدم اللغة، فاللغة بموجب القرآن ليست اكتشافا بشريا، بل الله هو من علّم آدم الأسماء كلها. وإذا قلنا (الأسماء) فنحن نتكلم عن اللغة، لأن اللغة في حقيقتها هي علاقة بين أسماء، مثل (ضرب زيدٌ عمرا)، زيد وعمرو اسمان، ما حصل بينهما؟ بالفعل وبالنظام النحوي تبيّن ما علاقتهما ببعضهما، وهكذا.

 

أيضا القرآن أثبت أن الله أنزل على الإنسان الأول عندما نزل الى الأرض لباسا وريشا، قال تعالى (وأنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم)، إذن الله هو من علّم الانسان صناعة النسيج، وهو من علّم نوح صناعة السفينة، وربما تكون أول سفينة صُنعت والله أعلم، وعلّمهم صنعةَ لبوس تقيهم بأسهم، أي الدروع، وما زال الله يعلّمنا، قال تعالى (ويعلّمكم الله).

 

والله هو من أعلمنا عن الدار الآخرة من خلال الأنبياء والكتب، وهو من علمنا الشرائع والأنظمة. بل حتى المكتشفات والمخترعات هي في الآخر معتمدة على الصدفة والتجربة، وكلاهما تعليمٌ من الله. قال تعالى (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون) أي من وسائل النقل. وقال (وألقى في الأرض رواسي ان تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون، وعلامات وبالنجم هم يهتدون) أي وضع العلامات لإسترشاد الأرض، كما قيل (وبضدها تتميز الأشياء).

 

وقال تعالى (علّم الإنسان ما لم يعلم)، فهو سبحانه من بعث غرابا ليري ابن آدم دفن الموتى، من أولِ تكوّنٍ بشري، وهو سبحانه الذي قال أن البيت الحرام هو أول بيت وضع للناس، الذي ببكة، إذن الله هو من علم الانسان الدين وليس اختراعا بشريا، وهذا يبدد فكرة الإنسان الأول وتطوره، وعندما تكلم عن قدم مكة سماها بإسمها الأول (بكة)، وهذا يذكرنا بـ(بعلبك) أي بيت بعل (بعل بكّ)، وبالتالي فهي أقدم قرية على الأرض، وسماها الله أم القرى، أي كل القرى جاءت بعدها، كما تأتي البنات من الأم الأولى.

 

وبالتالي نعرف أن اللغة العربية هي أم اللغات، بدأها الله بتعليم آدم الأسماء، وحتى إسم "آدم" عربي، أي ابن التراب ومن أديم الأرض، وختمها بتعليم القرآن الذي جدد اللغة العربية. ولغتنا العربية من بعد القرآن غيرَ اللغة العربية من قبلِ القرآن، لأن القرآن بعثها على أصولها وغذّاها بمعاني ومفردات وتعابير جديدة، وهذا من أسباب إقرار العرب بأن القرآن كلام الله، لأنه صدمهم بلغة يفهمونها ولم يكونوا يستخدمونها بإطلاقها. فقد عرفوا كلمة "كافر" و"منافق" و "جهنم" و "سِجّين" و "عضين" وغيرها كثير، مع أنها لم تكن تُستخدم في لغتهم قبل القرآن، وهذا كمثال، ولذلك وصفوا القرآن بالسحر. 

 

إن الكعبة ليست بيت إبراهيم، بل بيتُ آدم، جدّده إبراهيم بعدما اندثر بوحي إلهي. قال تعالى (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت) أي أن القواعد كانت موجودة في زمنه، لأنها أول بيت وضع للناس، وإبراهيم ليس أول الأنبياء. مما يعني أن آدم أول ما نزل من الجنة في مكة، وهذه كلها علوم من القرآن، في التاريخ والاجتماع واللغة وعلم الانسان والمنطق، ينبغي أن يتبناها المسلم، لأن الله يعلمنا، والقرآن يعلمنا وما يزال يعلّمنا إلى يوم القيامة.


كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ (6) أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ (7) إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ (8) 

 

بعد تعداد نعم الله على الإنسان، التفت إلى ردة فعل الإنسان تجاه هذه النعم، لذلك قال أنه يطغى أن رآه استغنى، وما استغناؤه هذا إلا بنعم الله، فالخير بيد الله، وليس بقدراتنا ولا بعلمنا، وقارون وفرعون مثالان على ذلك ساقهما الله لنا، هذا طغى بالمال وذاك طغى بالسلطة، وكلاهما "إنسان". وقد ذكر تعالى أنه خلق الانسان، أي ان هذه صفاته، بدليل أنك تراها في الأطفال، فالطفل منوع وجهول وشكاء وبكاء وبخيل وظلوم، وقالوا في الامثال: أبخل من طفل.

 

وكلمة الانسان في القرآن تعني الذي لم يؤمن بالله، أو أن إيمانه ضعيف لا يؤثر في مواقفه وتقييماته وتصرفاته، فالقرآن يكرر من صفات هذا الإنسان : خلق الانسان هلوعا، اذا مسه الشر جزوعا، واذا مسه الخير منوعا، إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، وخلق الانسان من عجل، فأما الإنسان اذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي اكرمن، وأحضرت الأنفس الشح، وغيرها. هذه طبيعة الانسان، وهي التي يكرسها الإنسانيون ويقصدون هذا الإنسان، الظلوم الجهول، ويقولون أن هذه هي الفطرة. لذلك الله استثنى المؤمنين الصادقين المطيعين المصلين، استثناهم من صنف "الإنسان"، ومن هنا نفهم أن الإنسان بفطرته وطبعه أناني غيور ظلوم جهول شحيح قليل الصبر، وقد قال تعالى (الذي يؤتي ماله يتزكى) أي أنه ليس زكيّا بأصله. ونحن نرى أكثر الناس هكذا، إلا من هدى الله ودخل الايمان قلبه، فيبدأ بالتغير والتزكي، قال تعالى (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ)، وعلى هذا نجد أن الأخلاق لا يمكن أن يوصل إليها بدون دين. وعلى هذا: كيف نصف الاعمال الصالحة بأنها أعمال "إنسانية"؟ الإنسان ذكره القرآن أنه ظلوم جهول، إذا افتقر اشتكى واذا اغتنى طغى، إلا الذين آمنوا. وهذا من الاعجاز الاجتماعي في القرآن، أن الإنسان سيء ولكن ليس كل إنسان شرير، فالسيء هو الذي قد يتغير ويتحسن، بينما الشرير يختار الشر والباطل على الحق حتى لو تبيّن له.

 

وقد قال تعالى (كان الناس أمة واحدة) أي أنهم كانوا "إنسانيين"، والله يسوق ذم الإنسان لكي يوضح سبب إرسال الرسل، كما قال تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) أي رحمة من سوء تعاملهم مع الله ومع بعضهم البعض، إذ أن تعاملهم قائم على الأنانية وليس على الاخلاق، لذلك الدين الحق هدفه تحقيق الاخلاق الحقة مع الخالق والمخلوقين، وهو الذي عبّر الله عنه بالقلب السليم، أي الطاهر من الغش والكذب وغيرها من الصفات السيئة، أي القلب الزكي السليم من الامراض، وهذا لا يكون الا للمؤمنين حقا لا إدعاء. وهذا يثبت أن الأخلاق الحقيقية لا يمكن أن تكون لغير المؤمنين حقا. أما نصف الأخلاق وربعها وإدعاؤها فهذا كثير، ويسمى مجاملة، وهذا يدل على أن الأصل ليس جميلا. 

 

أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يَنۡهَىٰ (9) عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰٓ (10) أَرَءَيۡتَ إِن كَانَ عَلَى ٱلۡهُدَىٰٓ (11) أَوۡ أَمَرَ بِٱلتَّقۡوَىٰٓ (12) أَرَءَيۡتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰٓ (13) أَلَمۡ يَعۡلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ (14) 

 

هذا مثال على طغيان الانسان وظلمه، ينهى عبدا ان يصلي لربه! هل هناك من مثال أوضح من هذا؟ هذا العابد الذي يصلي لربه لم يعتدي عليك ولم يضرك بشيء، فلماذا تنهاه عن الصلاة لربه؟ وقوله (أرأيت ان كان على الهدى أو أمر بالتقوى) يعني هل تأملت إن كان فعله هذا عن هدى أو تقوى من الله؟ أم عن ظلم وفساد؟ فهو كذّب بمعنى أنكر، واستخدم كلمة "كذّب" لأنها من جذر الكذب، والكذب خلاف الصدق، أي انه اتهم الرسول بالكذب، وكذلك تولّى، أي أنه مصرّ على موقفه قولا وعملا، فهو غير متأكد، لكنه يبدو كالمتأكد من ظنونه. وقوله (ألم يعلم بأن الله يرى) أي يراك وأنت تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف. والقرآن يستعمل مفردة الكذب بمعنى الإنكار، ويصفهم بالمكذبين، لأن الجذر هو الكذب، أي أن تكذيبهم هذا كذب، وهذه هي الحقيقة. قال تعالى (وجحدوا بها وأستيقنتها أنفسهم)، ولم يصفهم القرآن بالمنكرين، وهذا من الاعجاز البلاغي في القرآن. وإلا فهم منكرون، ولكن سماهم مكذّبين، لأن هذه أوجع لأنفسهم أن يوصفوا بالكذب، وهي حقيقة أمرهم أنهم كذبوا على أنفسهم.

 

كَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٖ كَٰذِبَةٍ خَاطِئَةٖ (16) فَلۡيَدۡعُ نَادِيَهُۥ (17) سَنَدۡعُ ٱلزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب۩ (19)

 

قوله (لنسفعن) السفع هو الجذب بقوة من مقدمة شعر رأسه، كما قال تعالى في آية أخرى (يُعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام) إلى جهنم حمانا الله وإياكم. تلك الناصية الكاذبة الخاطئة. ولاحظ قوله (كاذبة) أي أن المُكَذّب أصبح كاذبا. وقال (فليدع ناديه) والنادي هو من يستطيع ان يناديهم وغالبا ما يكونوا مجتمعين في مكان واحد، وسمي المكان ناديا. والمعنى أنه في يوم القيامة ليدع ناديه، أو أولياؤه أو من يعبدهم من دون الله، إذ كلهم آتٍ الحساب فردا، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وابيه، وقال (سندع الزبانية) والزبانية مأخوذة من الزبن وهو الدفع، ثم أطلقت على الاعوان والشرط. ويقصد بها ملائكة النار التسعة عشر.

 

وقوله تعالى (كلا لا تطعه واسجد واقترب) هذا من حماية الله تعالى لعبيده، ومنهم رسول الله، فالله يدافع عن الذين آمنوا. وحتى لو كان للسورة سبب نزول، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. في المقطع السابق تكررت كلمة أرأيت، وفي المقطع الأخير تكررت كلمة كلا، وكلمة كلا أعطت الكلام قوة، وكلاهما استفتاحية. ولا تجد أجمل من استفتاحات القرآن. مثل أرأيت و كلا و لا اقسم، والحروف المقطعة، كلها تستخدم للاستفتاح ولفت الانتباه. ولاحظ أنه عبّر عن الصلاة بالسجود.