الأحد، 8 يوليو 2018

الحساب الشعوري

هناك حساب شعوري للمخاطر وحساب عقلي، اكثر الناس يهمل الحساب الشعوري، بينما الحساب الشعوري لا يبالي بالحساب العقلي ولا يتأثر به. والشعور هو المؤثر بالانسان اكثر من العقل. 

مخاوف الشعور ممكن أن يقمعها الانسان، لكنها تنطوي في الداخل، وتعمل المخاوف داخله، وقد تسبب أمراضا باطنية أو مستعصية، جسمية أو نفسية، على حسب قيمة ذلك الخوف، لان لكل خوف قيمة، فخوفك من ضياع المفتاح ليس كالخوف من أن طريقك بالحياة خاطئ وتشعر بالضياع. 

خوف الشعور هو الذي يسبب الآلام والأمراض والتعب والسحب. اذن لابد من مراعاة هذا الحساب الشعوري لأنه هو المهم. 

من الممكن إجراء فحوصات للخوف من خلال ذكر أسماء او مواقف على شخص في حالة استرخاء ويخبرنا هل أحس بمغص أو انقباض بالمعدة أو لا، وهذا يساعد في تحديد مصادر الخوف الشعوري والقلق والانقباض. إن هذا الفحص يمكننا اعتباره منبهاً يخبرنا عن مكمن المشاكل والمخاوف، ومع التدريب يزداد وضوحاً. يمكن أن يسمى هذا منبهاً للخطر القريب أو المباشر أو القريب للشعور أو للعقل الوسيط. 

حتى في حالة الحب فذكر الحبيبة يسبب انقباضاً، وهذا بسبب الخوف على المحبوب وليس بسبب الرغبة، لان الانقباض يدل على الخوف. حتى لو أُعلن اسمك فجأة فائزا بجائزة ستشعر بالخوف من خلال هذا الانقباض، وهذا يفسّر لنا دموع الفرح، فهي كأنها خوف من سوء الحالة لو لم يأتي هذا الخبر السعيد، لأنه في الواقع لا علاقة للدموع بالفرح، إلا من هذا التخريج، وعلى من يخالف هذا الرأي ان يقدّم تفسيرا مقنعا يفسّر فيه دموع الفرح عند بعض الناس.

الانسان في الحقيقة ليس له رغبة خارجة عن غرائزه وعن شعوره، لأن الانسان يعاني من النقص، وحل النقص هو الوصول لحالة الكمال أو حالة الانسان الطبيعي مثلما كان في الجنة يوما من الأيام، وهذا النموذج يعرفه الشعور، وهذا الذي استدل به ديكارت على وجود الله، لأنه يقول : أنا أشعر بنقص ولا أستطيع أن أصل إلى الكمال إطلاقا، إذن يوجد إله كامل.

نحن نقول أنه توجد حياة كاملة يعرفها الشعور عندما كان في الجنة، ويطمح للوصول اليها ويضغط على صاحبه كي يقترب منها ولو قليلا، لانها هي النموذج (النيرفانا) الذي يعرفه الشعور. وهذا يفسر الراحة التي يجدها الإنسان عندما يرتبط بربه أكثر، إذ يشعر براحة اكثر، وهذا يقر بوجوده حتى الملاحدة، أي السعادة التي يجلبها الايمان. 

الكساد الاقتصادي العالمي قد لا يسبب لك انقباضاً، لأنه خطر غير مباشر، بينما ذكر اسم شخص أو مكان حصلت فيه مشكلة أو يُتوقع أن يأتي منه مشاكل فهذا قد يسبب إنقباضاً في عضلات المعدة والصدر، وعلى حسب شدة الإنقباض تكون شدة الخوف، وكون تلك المشكلة أو ذلك الخوف تحصل بسببه ردة فعل بهذا الشكل - بمجرد ذكر المشكلة أو الاسماء - فهذا يدل على أن الضحية ستكون الجسم، وهذا المنبه المعنوي انعكس على الجسم وأغلق مدخل المعدة، أي سبّب فقداناً للشهية، ولو زاد الوضع سوءا قد يتحول إلى إسهال أو استفراغ، أي أخراج الطعام من الجسم. والشعور عادةً يتخلص مما في الجهاز الهضمي في حالة الخوف والخطر، حتى الاغنام قد تتوقف عن الاجترار أو الأكل في حالة الخوف.

إن الانسان يعاكس الطبيعة من أجل أن يعيش، فطبيعي أن يُبنى الشعور على المخاوف، لأن حياة الانسان معاكسة لقوانين الطبيعة. فالطبيعة تريد أن تجمّده وهو يقاوم، وتُريد أن تُسقطه وهو يقاوم، وهكذا. كذلك الجراثيم تحيط به من كل الجهات وترسل طلائعها لتكتشف أي خلل فيه حتى تنقض عليه، إما جزئيا أو كليا، لهذا أي جثة تسقط تأتيها الديدان والبكتريا فوراً، فمن أين جاءت؟ إنها موجودة فيه وتراقب ثم تنقض وتتكاثر بسرعة، ولهذا تتكاثر البكتريا بالانقسام، فليس لديها وقت للتزاوج، لأن مهمتها ووظيفتها التنظيف والتحليل العاجل.

إذن الخوف هو الأساس وهو الذي بنى عقل الانسان، وهو الذي بنى الحضارة. لذلك شكل المغرور الفَرِح يبدو تافهاً ونشازاً ومخالفاً لطبيعة الاشياء. قال تعالى: (إن الله لا يحب كل مختال فخور)، وهذا الكلام توجيهٌ للنظرة الى الانسان، وهي على العكس تماما من نظرة الماديين للانسان، لأنهم ينظرون إليه من خلال الجسم، ونحن ننظر إليه من خلال الروح، ونتيجة طبيعية لهذه النظرة المادية أن تكون امراض الجسم بسبب الجسم أو بسبب المادة الخارجية فقط بالنسبة لهم، لأنهم ينكرون وجود الروح، وأن تكون أمراض الجسم بسبب الروح والشعور والخوف بالنسبة لنا، ونحن أثبتنا ان الامراض النفسية، على اختلافها، يوجد بينها قاسم مشترك وهو الخوف، اذن ما الذي يمنع ان تكون الامراض الباطنية - وليس الاصابات - من نفس السبب؟

أساس الرغبات هو دافع الخوف، لماذا يُجمع المال؟ أليس خوفا من الفقر؟ وعلى ذلك فقس .. أو بدافع التطمين، وهذا أساسه خوف أيضاً، كحالات الإدمان مثلاً والتمسك بالعادات والتقاليد، سواءً العامة أو الخاصة بالشخص، بدافع التطمين، و الإدمان عبارة عن خوف من فقدان المُدمَن عليه.

إن الأحياء تنام كي تطمئن أرواحها، فلذّة النوم هي لذة تطمين، لأنك عند النوم فاقدٌ للوعي، فكيف تتلذذ وأنت فاقد للوعي؟ فقبل النوم وبعد النوم انت مستيقظ وواعي، فكيف تشعر بلذّة وانت لاتدركها؟ 

ولماذا لبس الملابس للتدفئة؟ من أجل التطمين خوفا من أن يأتي البرد فجاة، ولو نظرت لكل أدوات الحضارة لوجدتها بدافع الخوف او بدافع التطمين، وهنا إعجاز القران عندما عبّر عن السعادة بالنفس المطمئنة، بل إن اللذة كلها بسبب الخوف من الحرمان من اللذة، لأن الشيء المضمون وجوده ليس له لذة، حتى اللذة هي بدافع الخوف، لهذا تزداد اللذة مع الأشياء الصعب الحصول عليها، وتقلّ كلما صارت متاحة.

الله خلق ارواح البشر خائفة كي يسهل عليها أن تخاف من الله وتبحث عنه بدافع ذلك القلق والخوف. قال تعالى:(أما من جاءك يسعى وهو يخشى) ولم يقل وهو يرغب. والخوف بالنسبة للروح هو أساسها وليس غريبا عليها، لأنها خرجت عن الجنة. 

لاحظ أكثر القصائد تصف الحرمان أو تصف لذة أتت بعد حرمان فصارت عالية، وماسبق يجعلنا نهتم بمخاوف الشعور والحساب الشعوري. 

استجب للخوف وافهمه وحاول أن تحل مشاكله، وليس كما يقال بأن تبتعد عنه وتتجاهله، فكل خوف له رصيد، والعمل والثقة بالله تخفّف من الخوف، فالاغنياء والفقراء يخافون من الفقر، قال تعالى : (وأحضرت الأنفس الشح). أي أن الشح ياتي قبل الكرم، والكريم هو من يتجاوز هذا الخوف إلى خوف أهم ومن دائرة شعورية أعلى. إذن لابد من الموازنات في التعامل تجاه المخاوف، لا أن يكون بالإستجابة المباشرة للخوف، وهنا يسمى الانسان عاقلا.

هناك تعليق واحد :

  1. مقال رائع جداً أستاذ وراق, شكراً لك .

    ردحذف