الثلاثاء، 24 أغسطس 2010

العدمية و الإنسان و القيمة "حوار حول العدمية و قيمة الإنسان - 2"


04-07-2010, 04:04 PM

روبين × الورّاق :

اقتباس: الحديث هنا غارق في مثاليته الفكرية
الرد: بالطبع هو مثالي ، وهذا ثناء على الموضوع بحد ذاته واشكرك عليه ، وما عكس المثالية إلا الدونيّة . ولا أظن أن أحد يفكّر إلا ويبحث عن وضع مثالي ، اي أفضل . 

أما من يفكر ليكرّس الواقع في الوقت ذاته الذي يشكو فيه من سوء الواقع ويفتخر بأنه غير مثالي ، فماذا عساك أن تقول عن قيمة هذا التفكير؟ كيف اصبح البعد عن المثالية مصدراً للفخر في هذا الزمان الرديء ؟ وهل المثالية تعني الخطأ لأنها غير موجودة ، والواقع يعني الصواب لأنه فقط موجود ؟ هل هذا مقياس الصواب والخطأ ؟ أم أن المقياس غير موجود ؟ وهل تستطيع الواقعية أن تجيب عن الاسئلة ؟ إذا كانت الواقعية لم تحل مشاكلها ، فليتها تحل مشاكلها قبل ان تحاول حل مشاكل اكبر واسئلة اضخم .
اقتباس: حين تجريده لمفهوم القيمة من محتواها المادي
الرد: كأنك تريد أن تقول أن اساس القيم الانسانية هو المادة ، وتتخذ قيمتها من المادة ، وليس الشعور الإنساني ، إذاً فلماذا تسمى اسماء متعددة : نزاهة ، مروءة ، شجاعة ، كرم ، صدق ، .. إلخ ؟ لماذا لا تسمّى : مصلحة ؟ لأن المصلحة هي نقطة سيطرة المادة على الانسان ، فالمادي يقبل بسيطرة المادة على قيمه الانسانية والروحية ، فهو يتجرد من القيمة الروحية المتمثلة في الدين ، والقيم الانسانية المتمثلة في الاخلاق ، من اجل المادة ، جاعلاً القيمة للمادة ، كأن يقول : أن أوصف بالمليونير خير من أن أوصف بالرجل الشهم ، ولو وصفت بالمليونير والشهم فهذا جيد ، ما دامت النقود في جيبي ..

وهذه هي البراجماتية ، فقيمة الشهامة عنده مستمدة من قيمة المليونير ، ولهذا السبب المادية تظهر متلونة ومتقلبة وتبرر ذلك التقلب بالبراغماتية والمصلحية ، أي أنها ليست على صراط مستقيم ، إذا قيمة كل شيء مرتبطة بالمادة ، حسب هذا التفكير المادي . بينما الانسان في جوهره ليس مرتبطا بالمادة ، بل مرتبط بانسانيته وما تفرضه من قيم ، بدليل أنه يعسف نفسه لكي يتحول إلى مادي ، وألم تركه للقيم أشد وقعاً من الفرحة الناتجة عند امتلاك المال .

والطفل ايضاً ينبهه أهله لكي لا يمزّق النقود الثمينة عندهم ، مما يعني ان الإرتباط بالمادة مفروض على الانسان . ثم المطلوب منك تقييم الحديث من حيث الخطأ والصواب ، لا من حيث مثاليته وواقعيته ، مع التوضيح . وهذا ما تقتضيه النقاشات الفكرية ، فهي تقتضي الحكم وليس الوصف بقصد التقليل من الشأن .
اقتباس: التي هي اساسا نتاج للوعي الانساني الذي يمثل انعكاسا كليا لصور الحياة المادية للانسان فلا شيء في الوعي خارج اطار المادة
الرد: كيف يكون الحب ؟ هل يكون بلا وعي دامه غير مرتبط بالمادة ؟ الارتباط بالمادة يعني المصلحة ، ولا يعني التضحية ، فالمحب الحقيقي مستعد ان يضحي بمصلحته ، أي بالمادة ، لأجل مبدأ أو شخص يحبه أو ارض يحبها ، ما وصفك لوعي هذا الإنسان ، هل هو بلا وعي إذاً ؟ 


ولماذا نجد صعوبة في التعبير عن المشاعر دامك تقول أنها مرتبطة بالمادة ؟ في الوقت نفسه الذي لا نجد صعوبة في التعبير عن الماديات ؟ فأنت تصف الطريق لأحد يسألك عن شارع أو مكان ، بطريقة سلسة ، لا تتمتع بها عندما تريد ان تشرح أحاسيسك عن شيء لأحد ، وكأنك تريد أن تعبّر بلغة أخرى غير لغتك الأم التي لا تعرف المادة .
اقتباس: فهو الاطار اللغوي للاشياء بمعنى ان القيمة جزء من المعرفة الانسانية التي لم تتشكل دفعة واحدة في لحظة بعينها بل عبر عهود زمنية من التطور الحضاري
الرد: أنت لم ترد على الحديث السابق ، بل تكتفي بنقل وجهة نظر المادية ، وهي معروفة عند الجميع . فهم لا يعترفون باي شيء سوى المادة ، ولا شيء يثبت أن كل القيم تطورت عبر العهود الزمنية ، ومغالطة السلة الواحدة ملازمة للفكر المادي ، فالقيم كلها في سلة واحدة ، والأديان كلها في سلة واحدة ، وتناقش وتعرض مجتمعة ، وهذا نقص في الدقة تسببه المادية ، لأنها نصفيّة النظرة . 

فهي تنقص النصف من قدرة الإنسان على التقييم ، لأنها تنحّي الشعور البشري وتبقي على الإطار المادي ، أي العقل المجرد من الشعور والاحساس ، فهل قيمة الشجاعة مختلفة من بلد لبلد ؟ وهل جرى عليها تطوّر ؟ هل تستطيع أن تثبت ذلك ؟ كل الناس يحبون الشجاع الخيّر ، فهل كانوا في يوم من الايام يحبون الجبان الشرير ، ثم تطوّروا في نظرتهم ؟ 

نعم هناك قيم تتبدّل وتتطوّر ما دمت تحشر كل القيم في سلة واحدة ، فقيمة الالتزام باللباس الروماني في زمنه تغيرت ، فبدلاً من أن يُنتقد لأنه لم يلبس الزي ، أصبح يُنتقد لو لبس زيا رومانيا في مكان أو زمان آخر ، وهذا يكشف مغالطتكم في حشر القيم كلها في سلة واحدة ، بينما رجل روماني جبان وشرير هو مكروه في روما ، ومكروه الآن في روما وأديس ابابا وعدن وباريس وكل مكان ..

ونحن نكره شخصية نيرون كما كرهها الرومان منذ الفي سنة ، مما يثبت أن القيم كلمة عامة ، تجمع لنوعين من القيم ، فهذه هي القيم المادية التي تتبدّل مثل الزي الروماني ، والقيم الانسانية لا تتبدل ولا تتطور ، وارجع لاقدم النصوص والاثار البشرية تجد ان القيم الانسانية هي نفسها ، بل حتى قيما مادية تجدها احيانا نفسها ، فقصيدة شعر فرعونية لا تبتعد كثيرا عن قصائد احمد شوقي في العصر الحديث ، ولا تختلف عنها في القيم المعنوية كالوفاء والعدل وبر الوالدين والرحمة ، مع أنها تختلف في القيم المادية كوصف قوة الفرعون بأنها لا تقهر بينما دبابة واحدة تكفي لتفريق جيش فرعوني كامل..

والقيم المادية كثيرة التحور والتغير ، مثل قيمة البترول والذهب . والكرم عند الرومان غير الكرم عند العرب وغير الكرم عند الهنود الحمر في اساليبهم ، ولكن قيمته المعنوية هي نفسها لا تتغير ، فكأن الاساليب عبارة عن محاولات لتعبير افضل عن الشعور الإنساني الثابت (فضيلة الكرم مثلاً). والفضائل هل المشترك البشري بين الكل ، قديما وحديثاً ، ولولاها لما عاش البشر مع بعضهم . 
اقتباس: و بالتالي فأن محاولة النسج التخيلي لرابط القيمة المادي و الميتافيزي لا مبرر لها لأسبقية المادة على وجود الوعي او المعرفة و هذا يفترض بالتالي عدم ثبات مفهوم القيمة
الرد: الإدعاء بتطور القيم الانسانية ، إدعاء لا يدعمه ولا دليل واحد يثبت أن الرحمة مكروهة في بيئة من البيئات ، أو ينفرون من شخص يعامل والده الهرم معاملة جيدة ، ونظرية التطور تأتي بسلتها الكبيرة محاولة حشر كل شيء فيها ، فإذا أردت أن تكون ملحداً مادياً عليك أن تكثر من السلال الكبيرة ، لتجمع فيها ما تجانس وما لم يتجانس ، فسلال الملحدين تشبه سلال المتسوقين ، فترى السلة الممتلئة من المتناقضات : حفاظات اطفال ، طعام قطط ، خلاطة عصير ، منظف ارضيات ، خبز فرنسي ، كيس بطاطا ، وكلها في سلة واحدة . 




فالتطور في العادات والتقاليد يضيفونه إلى التطور في الفضائل ، ولم يكفيهم التطور والبقاء للأقوى في المجتمع والسياسة ، بل حتى في جسم الإنسان ، فهو متطور من قرد إلى شيء آخر لم نعلمه ، ربما دراكولا في يوم من الايام !! فأدرك إنسانيتك قبل أن تتطور!! فما تملكه من عيون ترمش وأذرع متحركة ، واصابع عشرة قد يدركها قانون البقاء للاقوى فتظل بإبهامين فقط لأنهما أقوى الأصابع !! ، كل هذا قد لا تتمتع به فيما بعد !!

ثم لماذا إذاً هي ثابتة ؟ لماذا توجد على الأقل مجموعة من القيم ثابتة وأزلية ولم تتطور لدى كل البشر ؟ مما يدل على خطأ هذه النظرة للقيمة ، وبالتالي خطأ نظرية التطور (أو نظرية الاصابع ) عامة .


وهذا الكلام القطعي في أسبقية المادة للوعي مبني على نظرية التطور لداروين المنسوجة من الخيال ، بأن الحياة خرجت من مستنقع اسن على شكل خلية انقسمت ، وبعضها اختار ان يكون قرداً ، واختار احد القرود أن يكون انسانا ، وفنيت كل الحلقات المفقودة بينهما وبقي الاقوى والاضعف معاً ( القرد و الانسان) !! ، والبعض الاخر حشرات تتمتع بذكاء اكبر من الانسان ، لانها تستطيع ان تطير وتعيش في اليابسة والماء ، وهكذا ، وكلٌ يقرّر ويتطوّر ، وخرجت الابقار والجواميس ،والحيتان والبطاريق واللقالق والعقاعق ، أليس تصلح قصة للأطفال ؟

زد على ذلك : ربط القيمة بالوعي ، لا شك أنك تقصد بالوعي العقل .. وكأن القيمة من نتاج العقل ، وهذا خطأ فادح ، فالقيمة الاخلاقية ليست من نتاج العقل مثل القيمة السوقية والشرائية ، التي هي فعلاً من نتاج العقل (الوعي) ، فالطفل يولد بلا عقل ولا يملك الوعي الذي يملكه الكبار ، ومع ذلك يملك إحساساً بالقيمة ، بدليل انه يتألم عندما يرى امه تبكي ، ولا يستطيع ان يعبّر باللغة عمّا يحسه ، وأنت تقول ان الوعي مرتبط باللغة !! فالطفل استجاب للقيمة الشعورية ( قيمة التعاطف مع المتألم) ، مع أنه لم يقدَّم له تعريف عنها ولم يدرس إياها ، وطبعاً لا تستطيع أن تقول أنه إكتشفها بعقله الصغير ، لأن هناك أشياء أبسط منها وأقل تجريداً لم يكتشفها عقله الصغير .

إذاً نظرية ربط القيمة بالوعي نظرية خاطئة ، أي أن الإنسان لم يخترع القيمة بالوعي العقلاني ، بل هي تفرض نفسها عليه ، بدافع من الشعور .

تصوّر الجندي الذي قرر ان يقتل الاسير بدافع مصلحي ومنطقي لخدمة وطنه وطاعة لقائده ، ثم لما اراد ان ينفذ ، توقفت يده فجأة ، وأطلق سراحه ، هل القيمة جاءت هنا من عقله الذي قرر ان يقتله ، أو من شعوره الذي ثارت به كوامن الرحمة وتصور اطفاله ، واخذ عقاباً من قائد الجيش ؟ فاين المصلحة هنا واين القرار العقلي ؟ واين الوعي الذي موقفه موقف الضد من القيمة ؟


ولما سأله القائد ، عجز ان يجيب ، ويقول : لا ادري ما الذي انتابني وجعلني ارتبط هذا الخطأ العسكري ، لم يسمح لي بأن ينفّذ ما قررت ، ربما قال عن نفسه أنه ضعيف والجنود الآخرون افضل منه ، فأين القيمة التي يصنعها الإنسان ؟ لاحظ هنا تعارض قيمتين : قيمة مادية كامنة في العقل ، وأخرى انسانية كامنة في الشعور ، في هذه الحكاية انتصرت القيمة الانسانية على المادية . وليس شرطاً أن تنتصر في كل مرة .   

اقتباس: بل ان كل تشكيلة حضارية للانسان انتجت قيمها بما يتناسب و الوعي الاجتماعي و المعرفي المستجد من حيث محتواها او مضامينها الفكرية .
الرد: هذا الكلام غير دقيق وعام ، لماذا يوجد مشترك بين كل المجتمعات البشرية قديما وحديثا في قيمها ؟ من حيث المضمون لا الشكل ؟ فالنظرة النصفية تجعلكم ترون الإختلاف الشكلي ، ناسين أو متناسين الإتفاق الضمني . وعليه تكون المجتمعات متفقة على القيمة ، مختلفة في شكل هذه القيمة ، وهذه هي الحقيقة الواقعية ، فكل المجتمعات التي قلت عنها تتفق على كراهية الكذب ، لماذا لم تختلف ؟


وكلهم يكرهون المغرور والغدر ، وحتى العصابات تكره الغدر ، وشخصية النمام مكروهة عند الجميع ، كلهم يكرهون الإنسان الذليل، ويحترمون من يحترم نفسه ، ويكرهون المتكبر ، وهكذا ، كل الرذائل والفضائل مشتركة ، فاين الإختلاف ؟ فقط في الشكل ؟ إذا كان الكرم في الاسكيمو ان يقدم لك سمكة ، فكيف يقدم لك البدوي السمكة ؟ هنا تنشأ الإختلافات الشكلية للفضيلة ..


بل حتى داخل الشعب الواحد تختلف قيمة الكرم ، عند البدوي مختلفة عن ابن المدينة ، بل حتى بين البدو المختلفي القبائل ، بل حتى تأخذ شكل الرذيلة أحياناً ، فسمعنا عن بعض القبائل أنهم يطلقون الرصاص فوق رأس الضيف إعلانا عن دعوته للعشاء ، فخي تشبه بطاقة الدعوة لإبن المدينة ، و لكن القيمة واحدة. هذه البدوي يطلق رصاصته والمدني يرسل بطاقته ، والفضيلة واحدة .


اقتباس: لا اجد مبررا لجعل ما يدعى العدمية مآلا قسريا للفكر المادي في الوقت الذي نعلم فيه أن العدمية لا تمثل بأي حال منهجا فكريا او فلسفيا متكاملا او مترابطا في تفسير وقائع الكون و الانسان و المجتمع بل و تتناقض مخرجاتها ان وجدت مؤطرة معرفيا مع حقائق علمية كنظرية النشوء و التطور الداروينية و افتقادها لرؤوية خلاقة لكيان المجتمع الاقتصادي و الحضاري و بالتالي يمكن تصنيف العدمية كظاهرة عابرة شكّل الاحباط و الاغتراب الفكري و الجهل المعرفي و التصادم والاقتتال الاجتماعي و الانغلاق الديني و اليأس من حياة عادلة و مسالمة و انسانية عوامل و مبررات لظهورها المنعزل و المتشرذم .
الرد: أولا نظرية داروين ليست بحقيقة علمية ، فأنت تقول أنها نظرية ، وهي من نظريات كل شيء ، أي سلة كبيرة تشدّ من أطرافها لتبتلع أكبر من حجمها .

ثم كيف تقول أنها عابرة وأنت لا تدري هل ستنتهي أم ستبتلع نظرية الإلحاد التي انطلقت منه ؟ المستقبل هو الحكم .

لماذا ظهرت العدمية متوّجة للتطوّر الخلاّق للاقتصاد والحضارة كما وصفت ؟ لماذا لم تظهر قبل ؟ ويكون الفكر المادي لاحقاً وتطوراً لها (لأنك تراه افضل ) بناء على نظريتكم بالبقاء للاصلح والتطور نحو الاصلح ؟ لماذا التطوّر جاء بالعكس هذه المرة ؟  لماذا كان كل العدميين ملحدين سابقين ؟ انخدعوا بالتطور الخلاّق ؟ ثم اكتشفوا خدعة المنتفعين الراسماليين ؟ الذي ينطبق في عالمهم فقط : البقاء للاقوى ؟ والذي ليس موجودا في الطبيعة ، هو موجود فقط في عالمهم الصراعي على المادة ولا وجود لهذا القانون الشرير في الطبيعة ،

ثم من اين جاءت العدمية ؟ اليس من بلاد الراسمالية والالحاد والتطور الخلاق ؟ أتراهم احتاجوا للمثالية التي يحاربها الواقعيون امثالك ؟


اقتباس: للوراق باقة حمراء .

الرد: ولك باقة حمراء مع فلّ متطوّر تمسكها عشرة أصابع.

هناك تعليق واحد :

  1. أستاذ أحمد الورّاق ,

    يقول القدير العلّامة محمود محمد شاكر - رحمه الله :
    " أنبل جهدك أن توقظ إنساناً حتى يحس ّ "

    وهو ما رأيته هنا

    أتمنى دوام نبل جهدك أمنية مغلفة بالشكر الخالص
    حنان آدم

    ردحذف