الخميس، 13 أبريل 2017

الموسوعية والتخصص وعلاقتهما بالإبداع


الإبداع لا يأتي دون إلمام, فحتى تكون مبدعا في مجال ما كالسباكة ­أو الكهرباء مثلا لا بد أن يكون لديك إلمام به أولا, فلا تستطيع أن تبدع في مجال وأنت لا تعرف إلا جزءا منه أو لا تعرف عنه شيئا. وبعد الإلمام يأتي الإحكام والإتقان ومن ثم يأتي بعده الإبداع. وأهل العقول الكبيرة دائما عيونهم على الإحاطة, وبعدها الترابط, أي أن يربط الأشياء التي عرفها مع بعضها, ومن هنا تخرج له أسئلة كثيرة عن علاقات تلك الأشياء وهل هي تناقض بعضها أو لا وهكذا. و أقصد بالإلمام أن الشخص نفسه يحتك بالمجال و يلم بأطرافه, وليس يأخذ معلومات مفككة عنه أو معلومات من بعيد, كما نرى عند بعض الدارسين للمجالات العلمية, فترى خريجا درس الكثير من الكتب العلمية مثلا لكن لو تناقشه لا يستطيع أن يفهمك لأنه هو لم يفهم, أي لم يلم بالمجال الذي هو فيه. الاحتكاك بالشيء من قرب يعطي فرصة للشعور ليحتك بهذا المجال, وحينها يكون الشخص بحاجة للمعلومات النظرية.

الإبداع في مجال ما هو علامة العلم فيه, فإن كان مجالا نظريا صار فيلسوفا وإن كان مجالا عمليا صار عالما.

لا توجد نهضة إلا بوجود موسوعيين, العصر العباسي مثلا كان مليئا بالموسوعيين كالرازي وابن الهيثم والجاحظ وابن النفيس والفارابي, الذين كانوا ملمين بمجالات كثيرة كالموسيقى والطب والفلسفة والفلك وغيرها, الخليل بن أحمد يصنف نحوي لكنه في الحقيقة ليس فقط نحويا بل كان دارسا للرياضيات, وألف عروض الشعر, و ألف أول قاموس عربي على مخارج الصوت. هؤلاء الموسوعيون هضموا علوم عصرهم لهذا استطاعوا أن يتقدموا بعصرهم خطوات أكبر, فلن يسبق الإنسان عصره حتى يفهم عصره وما قبل عصره حتى, فمعرفة التاريخ ضرورية للتقدم, وهذا من أسباب عدم التجديد وتكرار أخطاء الماضي عند البدو المعزولين أنهم لا يعرفون من التاريخ إلا القريب منه فقط.

عصر التنوير في أوروبا أيضا كان عصر موسوعيين مثل ديدرو وموليير وجان جاك روسو مونتيسيكيو وغيرهم, وفي اليونان كان الفلاسفة كأفلاطون وأرسطو يتكلمون في كل المجالات تقريبا حسب ثقافة عصرهم. إذن الموسوعية إذا حلت في مجتمع تكوّن نهضة, وإذا حلت في شخص تتنج استنارة وإبداعا. وهذا العصر هو عصر فقير بالموسوعية إذن هو عصر فقير بالإبداع, لهذا النهضة في الغرب أخذت في الانحسار لتراجع الموسوعية, بسبب التخصص والتشديد على الالتزام بالتخصص, وبسبب الإغراق بالنظريات وقبولها على أنها علم ثابت. الحضارة الغربية سيطرت عليها الرأسمالية, والرأسمالية تحب التخصص وليس الموسوعية, أي رجل واحد لعمل واحد كما قال آدم سميث.

لهذا لا يمكن أن تستغني البشرية عن الموسوعية لأنه لا بد منها من أجل أن يوجد إبداع, وأقصد بالإبداع الذي يقدم جديدا للعصر والحضارة وليس الإبداع الجزئي في مجال متخصص, فهذا تطوير أكثر مما هو إبداع. 



ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق