الكآبة قد تزول
أسبابها ولكنها تبقى كعادة, وهذا نوع غير معروف من المرض النفسي, فشخص قد جاء من
العالم الصناعي وتبنى الحياة الطبيعية وأفكارها ستبقى في عقله الوسيط آثار الكآبة
القديمة فهي قد طُبِعت في شخصيته , فتلاحظ في طريقة كلامه مثلا ومشيه و تعابيره
عليها مسحة كآبة مع أن الشخص لم يعد كئيبا , فهي تحتاج إلى وقت حتى تزول , وهذه
الكآبة تثيرها نفس المثيرات الخارجية القديمة, أي كأنها كآبة متذكرة من الأرشيف,
وهي بهذا تشبه العقدة التي تزول أسبابها وتبقى آثارها, مثلما يكون أحد متعقد ويخاف
من أحد معين وهو قد مات, ولكن يرى أحد يشبهه أو يتكلم نفس كلامه أو يلبس نفس
ملابسه سيخاف منه , مع أن سبب هذا الخوف زائل, وهذه كلها بسبب أعجمية الشعور عن
الواقع, كأن الشعور صمام ذو اتجاه واحد.
المحيط الخارجي
يدخل إلى منطقة العقل الوسيط لكن الشعور نفسه لا يخرج للخارج , فهو لا يَعرفه
بتفاصيله ولا يريد, ومن هنا كل الدخولات إلى العالم الخارجي من الشعور محل شك في
صحتها, وهذا ما تكشف عنه الأحلام نفسها, تأتي لك بمشاعر الخوف والقلق مرتبطة بصور
من العالم الخارجي ولكنها غير مرتبة بمنطقية العالم الخارجي مما يدل على أن الشعور
لا يفهم العالم الخارجي, لكنه اضطر لذلك. تكون الصحة النفسية سليمة إذا كانت
الحياة منطلقة من الشعور وليست من العالم الخارجي, كأن الشعور طفل والعالم الخارجي
عبارة عن أخطار وتحذيرات ومعادلات معقدة لا يستطيع أن يفهمها الطفل لكنه مضطر لها,
هذا حال الشعور, أو كأن الشعور زائر من عالم خارجي يُفرَض عليه نمط الحياة الذي لا
يعرفه ولا ينطلق من نفس منطلقاته ولكنه مجبر على ذلك, لذلك أغلب الأحلام هي مخاوف,
لأن الشعور يعيش على أسلوب حياة وأنظمة لم يقررها هو, الأحلام السعيدة هو من
يقررها وتأتي بحالة الانسجام بين الداخل والخارج من خلال معرفة الصراط المستقيم ,
لهذا لا تشكل رعبا للشعور الحالم, ودائما الأحلام المزعجة تكون مع أناس صناعيين لا
تفهمهم, فلا تحلم حلم مخيف مع أناس تحبهم وتفهمهم, وهذا يدلك أن الصناعي هو سبب
وحشة الشعور وبالتالي وحشة الأحلام , وإن حلمت حلما مخيفا بأحد تحبه فأنت تحلم به
وهو قد أصبح صناعي وهذا بسبب الخوف, فلا تحلم حلما مخيفا بشخص تحبه إلا وأنت
تصورته صناعي في الحلم وهذا نابع من شك .
أعجمية الشعور قضية كبيرة وتدور عليها محاور
كثيرة وهي المدخل الحقيقي لعلم النفس وفهم الإنسان والحياة كلها, وأشياء كثيرة تثبت
أعجمية الشعور , فالطفل الذي تكلمنا عنه لا يعرف اللغة فهو مرمي في بلد لا يعرف
لغته والسبب أن المنطق الذي يسود في البشرية غير طبيعي ولهذا غير مفهوم, ولكن الأخلاق
يفهمها الشعور مباشرة, تقلُّب الآخرين من حب إلى كره حسب المصلحة يعتبره الشعور
رعب ووحشة وهم يسمونه تقلب حسب المصلحة, الكيل بمكيالين بناء على المصلحة والقيمة
المادية التي تُعطى للأشخاص في العالم الصناعي لا يفهمها الشعور أبدا, لذلك لا
يستطيع الشعور أن يفهم لماذا هذا الشخص يُحترَم وهذا الذي بجانبه لا, لمجرد أن
أحدهما غني والآخر فقير, هذا لا يفهمه الشعور, إذن كل مالا يفهمه الشعور هو غير
أخلاقي أي غير طبيعي, ومن هنا نعرف لماذا الشعور عندما يذكرك بشيء فإنه لا يحدده
لك لأنه لا يعرفه كأن تحس بأنك محتاج إلى شيء فتبدأ تقرّب للشعور وتسأله هل هو كذا
؟ أو هل هو كذا ؟ حتى تعرفه , فلا تستطيع أن تحضر هذا الشيء إلا بمجهود عقلي بنظام
آخر, فتشغل النظام المادي في التفكير وليس المعنوي, ومن هنا نفهم أن الإنسان عنده
نظامين للتفكير.
هذه العجمية للشعور
تزول عندما يكون الأمر أخلاقي-حقيقي-طبيعي فيزول الرعب الشعوري والخوف سواء في
الواقع أو في الأحلام, وما يثبت لك وجود النظامين, أن تقول أنا فاهم لكني غير
مطمئن أو تقول أنا مؤمن لكن غير قادر على التوضيح. وممكن أن تُحَج عقليا بقوة
ولكنك لا تقتنع, فهذا يدل أن هنالك نظام آخر أنت تقتنع به, فلو كان الإنسان يَسير بالعقل
فقط لما حصل هذا الموقف لأن العقل اقتنع ولم يجد خطأ في الحجة, العقل المعنوي هو
المرجعية إذا اعتبرنا الإنسان وليس العقل المادي, ولا يحصل أي انسجام إلا إذا تبع
العقل المادي العقل المعنوي, ومع ذلك لن يعرف المعنوي العقل المادي فبينهما جدار
فاصل, فشعورك لا يمكن أن يذكرك لك اسم ولا حتى باب أو نافذة, فقط يقول أن شيئا ما
ناقص أو فارغ أو باقي .. وهكذا, هذا يثبت وجود روح, وهذا أقوى دليل عليها.
الحدس لا يخطئ أبدا,
فكيف يقولون أنه يخطئ ويصيب وكل الأشياء التي يصيب الإنسان فيها هي من الحدس ؟
يقول الماديون أننا
كلنا مادة والعقل مادة, إذا كنا كذلك فلماذا لا نتذكر المادة مباشرة؟ ولا مرة يمكن
ان يتذكر إحساسنا المادة مباشرة و يحددها! هذه تدل على نظامين يعملان في الإنسان معنوي
ومادي, كل تفكير الإنسان مبني على هذا الأساس, فكل التفكير والعقل هو عبارة عن
ومضات معنوية وترجمات مادية (تعريف التفكير), وأغلب تفكير الشخص وهو لوحده سيكون
عن طريق الومضات دون ترجمة , هذا القوي الذكي اللماح بداخلك لا يستطيع أن يخبرك
حتى بأسماء الأشياء! فلا تستطيع أن تقول عنه ضعيف ولا قوي بل تقول أنه من نوع آخر
وعالم آخر, ولا حتى يشبّه لك أشكال الأشياء أو يرسمها لك, وبهذا لا يمكن أن يثبت
أن الأفكار مادية, وتلاحظ أن هذا الذي ينبهك لأشياءك وما عليك أن تقول وما نسيت هو
نفسه ما يشعر بالخوف والحب والقلق على المستقبل ويبحث عن جدوى وجودك, والعقل
المادي ليس إلا جهاز في خدمته, هذا التفكير البائي أو الشعور لا يعرف اللغة ولا
يتعامل بها (قانون), واللغة ترميز صوتي وكتابي للمادة, إذا كل عمليات العقل هي من
جزئيات وليست من جزء واحد, وهذا الجزء الدافع لا يمكن أن يحدد له أي مَعلَم, أنت
تحاول أن تعبر عنه بمثل كلمة أنك نسيت شيئا لكنه لا يقول هكذا, {ويسألونك عن الروح
قل الروح من أمر ربي}, هذا لا يمكن أن يُعلَم ماهيته أبدا, تستطيع أن تعرف غايته
ومنطقه لكن لا تعرف ماهيته, فهم يسألون عن الروح لمعرفتهم انها أساس الحياة لكنهم
لا يعرفون ماهيته, فهو مجهول الماهية لا يُعرف ولا يمكن تحديد مكانه, وهذا إثبات
لعالم الروح, عالم الروح غير مادي وإثباته بإثبات عدم ماديته. وأقصد بالروح العالم
المعنوي الذي يشمل الروح والشعور, والشعور ينقسم إلى الشعور العميق والعقل الوسيط,
فالشعور هو الذي يمكن دراسته ودراسة غاياته لكن دون ماهيته لأنه عقل, والعقل (أ)
أو العقل المرتبط بالمادة امتداد للشعور.
عملية التذكر على مرحلتين وليست مرحلة واحدة, فنتذكر ثم نتذكر, ومن هنا
نفهم أن الشخص الذي استيقظ للتو من النوم والمريض والشيخ لديهم مشاكل فقط في الجزء
المادي من الذاكرة, تلاحظ أننا نتذكر بالشعور أولا ثم بالعقل ثانيا, فنتذكر عن شخص
ما كل شيء يعرفه الشعور عنه كأنه طيب ذكي بارع مرح هادئ, ثم نبذل مجهود حتى نتذكر
اسمه بالعقل الثاني, لاحظ أن (البرنت) كله خرج بالعقل الأول وكله معنوي ولم يضيع
شيء أبدا, ولهذا الذاكرة الشعورية لا تُفقد (قانون), تجد أنك تتذكر المكان ولكن لا
تتذكر اسم المكان , فالعملية المعرفية هي عملية ثنائية, ديالكتيك بين العقل
والشعور, وهذا يفسر كل معارف الإنسان بأنها تخدم شيء في الإنسان, لأن العقل (ب) هو
ما يحدِد بموجب اهتماماته هو, وليست بالدياليكتية التي ذكرها هيغل, هيغل يتصور
الديالكيتيك بين العقل والخارج, لو كان الإنسان تبعا للعقل لابتعد عن طبيعته الإنسانية
وعرف أشياء وأنتجها بعيدة عن طبيعته الإنسانية وليس لها علاقة بالإنسان, وهذا
السبب أن الإنسان لا يستطيع ان يركز عقله وتفكيره كما يشاء مما يثبت أن العقل
المجرد (أ) خادم للعقل العميق وهو الشعور (ب), فالإنسان المصلحي يتعب لماذا لا
يتركز تفكيره فيما يريد ويذهب لأشياء تزعجه, فالجميع يعاني من عدم طاعة عقله له,
إذا من الذي يريد ومن الذي رفض مادام أنه لا يوجد إلا دماغ واحد؟
رائع ما طرحت اخى فلسفى وعميق الى اقصى درجة
ردحذفيعيطك العافية
عافاك الله وبارك فيك أخي الكريم
حذف