الخميس، 2 مارس 2017

الشعور الجائع.. لكن ليس للأكل فقط..



الإنسان عنده أنواع من المجاعات وليس جوع الأكل فقط, فعنده جوع للحياة الاجتماعية وعنده جوع للوحدة, عنده جوع للخيال وجوع للواقع, عنده جوع للموسيقى, عنده جوع للروحانيات والعبادة, جوع للمعرفة والفهم, جوع للطبيعة وأن يرتمي بأحضان الطبيعة الخالصة بعد كثرة العيش بالمدن -وهذا ما يجعل الكثير يسافرون في الإجازات-, وهذه بعض أنواعها وليست كلها . وهذه المجاعات جذورها في الشعور الإنساني و تتكون في العقل الوسيط, الذي هو ملتقى الشعور مع العالم الخارجي (من خلال العقل المرتبط بالحواس).

كل جوع شعوري إذا زاد الضغط عليه يسبب ألم, وإذا أُشبع بشكل زائد يحصل ملل و يظهر جوع معاكس له, فجوع الهزل والمرح مثلا إذا زاد عن حده يظهر جوع للجدية, وإذا أطلت الجلوس يظهر جوع للعمل, وإذا أطلت العمل يظهر جوع للجلوس, وإذا أطلت المادية يظهر جوع للروحانية. لهذا أي ملحد حين يرى مؤمنين وهم يتعبدون بروحانية لابد أن يحس بشيء من الغيرة لكنه يقاومها, بسبب جفاف المادة والجوع الروحاني الذي هو غريزة في الإنسان, قال تعالى : {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مؤمنين}. فكل جوع إذا أُشبع ظهر جوع آخر, وهذه حياة الإنسان العاطفية الداخلية باختصار. إذا أمضيت مدة لم تر صديقا لك سيظهر جوع له, وهذا الجوع ليس للشخص نفسه -إذا دققنا- بل لأشياء معنوية و عاطفية تتجسد عنده.

كلما تزداد فتحات الشعور كلما تزداد هذه المجاعات. وهذا الكلام هو عن الشعور الإيجابي (الحب) أما الخوف فليس له جوع.

حتى في أنواع الأكل هناك أنواع من الجوع, فمرة تشتهي مالحا ومرة تشتهي حلوا, مرة تشتهي عصيرا باردا و مرة تشتاق لحساء ساخن...إلخ.

وقد يظهر الجوع من نفسه وقد يظهر بسبب محفز, بسبب مشاهدة دعاية تلفزيونية مثلا, وهذا سر اهتمام التجارة بالدعاية المغرية. ولهذا نهى القرآن المرأة عن التبرج وإظهار زينتها, لأن هذا من نوع الاستثارة المنشَّطة .

إذا رأيت أنك تشعر بالجوع الحاد لشيء فاعلم أنك مغرِق في ضده, فإذا صرت تشتاق للجلسة في الخلاء فاعلم أنك مغرق في الحياة المدنية, فمللت من السيارات وإشارات المرور ومنظر كثرة الناس والمحلات والبيت و مكان العمل...إلخ, فيقول الشخص: أريد تغييرا, هذا التغيير مبني على الجوع الشعوري.

هذه المجاعات تحصل كثيرا إذا صرت تعيش في بيئة صناعية و تقل في البيئة الطبيعية, لأن البيئة الطبيعية مبنية على الشعور وبالتالي لا يأتي الجوع فيها بشكل صارخ و ضغط شديد. لاحظ أن الجوع يزداد عند الصناعيين و يستغله الشيطان فيتحول مثلا إلى إسراف وصخب وربما أسوأ من ذلك, وهذا من كثرة الضغط, ويظنون هذا الإسراف أو الجنون كأنه تنظيف وتفريغ لهذا الضغط وأن شعورهم بحاجة لمثل هذا الجنون, مع أن الشعور ليس بحاجة له بل بحاجة شيء آخر لكنهم لم يفهموه أو تُرجم لهم بشكل خاطئ. لهذا الناس الطبيعيين لا تأتيهم حاجة صارخة لأن يجمعوا مالهم مثلا ويسافرون للمتعة, لكنهم بحاجة تغيير فبدلا من أن يجلس في المجلس يجلس في السطح أو يعمل قليلا أو يبتكر شيئا...إلخ, وكله ممكن وليس صعبا.

هناك جوع عقلي فكلما تعيش في الروتين كلما تأتيك رغبة في التجديد, سواء روتين أفكار أو روتين حياة. يُفترض أن يعرف كل إنسان بوجود هذا الجوع فيه, حتى التفكير والتفلسف نفسه هو جوع عند الإنسان, سواء كان هو من يفكر أو يقرأ لأحد يفكر, لكن أن تعيش كفيلسوف فقط أو كفنان أو بنّاء...إلخ هنا المشكلة. وأستغرب كيف يقضي بعض الناس حياتهم كلها تقريبا على آلة موسيقية! أو في القراءة والبحث, أو في جمع المال, أو العمل والكدح, أو ملاحقة الطموح, أو غيرها.. هذا مثل من حرم نفسه أًصناف الأكل وصار لا يأكل إلا موزا!

المؤمن المتوكل على الله لا تتحول حياته إلى سعار وإرهاق وكدح شديد وعنت لأجل الدنيا والتفاخر فيها, لأن المؤمن يعلم أن مصيره الموت مهما كان وأن التوفيق والرزق من الله, وهدفه أن يعمل صالحا حسب المستطاع دون عنت ولا تكلف, فانشغل بواجباتك يأتيك رزقك وانشغل بما عليك يكفل الله لك ما هو لك. وهذا معنى قوله تعالى:{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}, وقال عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {عزيز عليه ما عنتم}, أي أنهم قبل الرسول كانوا في عنت, عنت ماذا؟ عنت التفوق والتفاخر والتكاثر والتناحر والتنافر, وهذا لا يأتي بالسهل ولابد أن يكون على حساب حقوق وواجبات أخرى مهملة, والفشل والسقوط سيكون مدويا بل أحيانا يدفع للانتحار. الإسلام دين الرفق, لو أن مثل هذا المجهود على حيوان لرحمناه لكن الإنسان المسكين يُشحن ويشحن يوميا وتعرض له صور ونماذج من حياة من يسمونهم الناجحين ويقال له كن مثل هؤلاء وإلا فلا! وكأن الإنسان يعيش ليجمع ثم يأكل! أي يُوجَّه إلى الطريق الصعب على أساس أنه هو طريق السعادة, بينما السعادة الحقيقية تتبين من أولها, فلا تشتري إلا بعد التذوق. الإنسان مخلوق ضعيف بالأخير لن يستطيع أن يكمل أي شيء بالكامل, والإنسان الطبيعي جهوده تتوزع على حسب شموليته, لذلك لا يكون بارزا في نقطة واحدة فقط بينما في نقاط مقابلة ضعيف جدا وجاهل.

المنهج القرأني يصنع الإنسان المتوازن, والحكمة في التوازن وهي من الاستدارة والإحاطة. انطلاقة المؤمن الذي ينطلق من القرآن تكون بشكل حلزوني تزداد بيسر وسهولة, سواء في علمه أو أخلاقه أو كسبه أو إنفاقه. والإنسان المنطلق من فكر مادي علماني تكون انطلاقته انطلاقة سهم لا ينظر إلى اليمين ولا إلى اليسار المهم هو النجاح! والحقيقة أن كلمة النجاح أوسع من هدفه الذي يركض لأجله, فكيف تكون ناجحا في هدف رسمته لنفسك بينما في البقية فاشل؟! لذلك العلمانية تنتج النجومية, فهذا ملِك العقار وذاك ملك الموسيقى وهذا يكسر الرقم القياسي وهذا أمضى أربعين سنة في ملاحقة حشرة...إلخ.

أنا لست ضد التفوق والنجاح بل ضد العنت والجزئية, فالرفق بالنفس واجب, وكذلك الواجبات الأخرى يجب رعايتها, وهناك الآخرة وهي الأهم وهي الحياة الباقية. يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ما رأيت ثروة موفورة إلا إلى جانبها حق مضيع", كأنه ينتقد الجزئية بجمع المال وإهمال الواجبات الأخرى. المؤمن لا يضع كل بضاعته في سلة واحدة ليكون في الأخير إما يكون أو لا يكون. البركة من الله.. لكن لا تضيع الوقت ولا المجهود في شيء لا ينفع ولا تغامر, اعمل ما تيسر لك دون عنت ومشقة وبدون انقطاع, وأكثِر من لحظات الراحة ثم العودة العمل, كما في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "روحوا القلوب ساعة بعد ساعة", ونوِّع اهتماماتك وخذ من كل شيء طرفا وما تيسر.

المؤمن كيس فطن, عينه على الآخرة وعينه الأخرى على الدنيا, عين على الحقوق وعين على الواجبات, عين على النجاح والتفوق الشخصي وعين على الأهل والأصحاب وحقوقهم. قد لا يحصل على نجاح متطرف لكنه يوفي الحقوق بشكل عادل قدر الإمكان ولم يكلف نفسه ما لا يستطيع, والمؤمن يعلم أن الرزق من الله وليس بمجهوده. وهذا هو النجاح في تجربة الحياة أن تنجح بكل أطرافها وليس بطرف واحد. والمادة ليس لها نهاية أما الإنسان فمحدود, والدنيا ليس لها طرف ولا يمكن لأحد ان يسيطر عليها. قال الشاعر: "ومن ينفق الساعات في جمع ماله ** مخافة فقر فالذي فعل الفقر", أي أنه صار في تلهفه مثل تلهف الفقير.

مثل هؤلاء المتطرفين تظهر عندهم مجاعات صارخة لأشياء حرموا منها, والشيطان يستغل ما يخرج مضغوطا من شعور الإنسان مثلما يستغل الغضب. المفترض ألا يكون هناك ضغط ولا حرمان شعوري بل شمولية, فالحياة الشمولية هي اليسر والراحة, وهي النفس المطمئنة, {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. حتى من يرهقون أنفسهم بالعبادة أو بالزهد يسببون ضغوطات قد تنفجر.

أنا أختلف مع مثل هذا التطرف وهو طريق العنت والمشقة, لكن الكثير يرون أنه هو طريق النجاح, مع أن الله لم يأمرنا بالعنت, والحياة أوسع من هذه القيود الصارمة على الذات والروتينية المتكررة, {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}. مادام أن الله -وهو صاحب الحق الأول علينا- يريد بنا اليسر فكيف نريد العسر لأنفسنا بدنيا زائلة, أو بالأصح زائلون عنها؟ 

فرويد يتصور أن الإشباع من شيء واحد والكبت في شيء واحد وهو الجنس, وهذا كلام سخيف, بل إن التركيز المفرط على هذا المجال يسبب التقزز, لأن الإنسان أشياء كثيرة وليس شيئا واحد حتى تشبعه من شيء واحد, بل هو مناح كثيرة وكلما يتفتح الشعور كلما تخرج حاجات شعورية أو عاطفية جديدة, مثل أن كل إنسان فيه حاجة إلى رعاية طفولة, فمن يعيش في بيئة لا يرى فيها أطفال أبدا ستتعبه هذه الحاجة إلى رؤية الأطفال ورعايتهم, سواء أب أو أم .

كل الحاجات من المفترض أن تأخذ حقها, في ما يرضي الله طبعا بوجود العقل المتحكم. الحب مثلا حاجة مهما حاولت أن تتلهى عنه فأنت محتاج لحب.

لاحظ أن كل الحلول التي تقدم غالبا ما تكون متطرفة, فهناك من ينادي بالعزلة أو بالاجتماعية الكاملة, ومن يقول داوني بالتي كانت هي الداء, هذه تطرفات. الصحة تأتي مع إشباع الحاجات وإعطائها حقها, والصحة الجسمية تابعة للصحة النفسية, والصحة النفسية تتألم من وجود الجوع الدائم.

درجة إشباع الجوع الشعوري تختلف حسب الأهمية عند الشعور, فهناك أشياء الإلمام فيها كافٍ و أشياء يريد الشعور أكثر من مجرد الإلمام, عمل الخير مثلا والجمال والمعرفة ليس منها شبع, لكن الشعور من الأكل يشبع. فهناك فروق بين المجاعات, فمثلا حاجة العبودية -وهي أكبر الحاجات- تصور أحد يعيش بدونها سيكون كأنه هباءة ويشعر بالخواء الداخلي, شيء مخيف أن يكون الإنسان بلا ارتباط, لاحظ الآية: { فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} هذه حياة من لم يرتبط بالله.. كأنه معلق بالهواء. آلام الناس أكثرها من هذا الشيء: حاجات شعورية مهمَلة و متخَم في حاجات أخرى أكثر من اللازم. والتخمة تسبب النفور إلا في الحاجات العليا (قانون), الحاجات العليا لا تسبب نفورا لكن تبدأ الحاجات الأخرى إذا أُهمِلت تنبه عن نفسها, فتكون مثلا تستمع لكلام جميل لكن غلبك النعاس, فأنت لم تشبع من ذلك الكلام ولكن هناك جوع آخر ظهر وهو جوع النوم.

عدم الاهتمام بالحاجات بشكل شمولي والتركيز على إشباع حاجات معينة يسبب نفورا, لهذا نجد أكثر الناس يفرحون بالإجازة ويفرحون بنهاية وقت العمل والدراسة بسبب التركيز المفروض على الذات, بل يُذكَر أن معلمة قالت لطالباتها: يجب أن تركزوا على السبورة دائما حتى لو كانت فارغة! لكن التركيز صعب خصوصا إذا كان على فراغ! لاحظ أن كل الصناعي يحارب الشمولية.


ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق