الخميس، 10 سبتمبر 2015

الغيبة وأخواتها ..


يقول الله تعالى في كتابه :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
 


ليس أي ذكر لأحد غائب بما يكره يكون غيبة ، حتى السارق يكره ان تصفه بأنه سارق، خصوصا ان هناك مبدأ يقول (لا غيبة لفاسق) مع أن الفاسق يكره ذلك. والرسول قال عن ذي الخويصرة التميمي ما قال كما ورد في الحديث بعد أن مضى، فهل يعتبر هذا غيبة ؟

هناك امور يكرهها الشخص وهي حق ، خصوصا لمن يطاله ذلك الخطأ، قال تعالى (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم)، أما من لا يطاله فلا داعي له ان يتكلم، إلا لدافع مفيد آخر إذا وُجد .. لأن بعض الناس يحب الثرثرة بالأخبار السيئة عن الناس مع انه لا مصلحة له في ذلك، مثل ان فلان طلق زوجته أو أن فلان في مشكلة مع والده او اخيه، أو أن فلانة علاقتها سيئة مع أهل زوجها، ونحو ذلك مما لا داعي يستوجب ذكره ، لأنه يدخل في باب التشهير، ويتأذى صاحبه لو وصل له الخبر .

كل صفات الانسان وسلوكه على نوعين : شيء بارادته، وشيء خارج عن ارادته .. مثلا عيب في خلقته او مرض او في اقاربه او من حوله، هذا كله خارج عن ارادته . وهذا الكلام فيه غيبة واستهزاء وسخرية وتشهير. وهذه الاشياء الشخص في الغالب يريد سترها ..

وهناك امور بارادته يفعلها ، وهي على نوعين : نوع يريده ان يظهر ونوع لا يريده ان يظهر . النوع الذي يريد له ان يظهر، فهذا لا غيبة فيه، مثل آراؤه ومواقفه التي يصرح بها، أو الصفات التي عرف أنه لا يتأذى من ذكرها ، بل هو يذكرها عن نفسه، فذكرها عند من يعتقد انها آراء سيئة لا يعتبر غيبة لذلك الرجل، حتى لو كانت من النوع السلبي. المشكلة في الكلام الجارح بحقه والمؤذي.

وأما النوع الثاني مما لا يريده ان يظهر، فالأصل هو الستر، الا من ظُلِم بسببها. ويدخل فيها النقد البناء والحوار لحل المشكلات، وهي مفيدة في الاصلاح، ما دام الامر لك علاقة فيه ويهمك ان ينصلح، مثل ان ينتقد اعضاء الشركة اداء المدير التنفيذي في الشركة ، لأنهم تهمهم شركتهم كلهم ويستطيعون ان يقدموا اقتراحات وبدائل، وهذا حصل مع الرسول نفسه، وهذا لا يسمى غيبة، وإلا فلن يتكلم احد عن أي احد غير موجود، وهذا شيء صعب بل مستحيل. قال تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) ، ولو طُبق هذا الكلام بحذافيره لألغي التاريخ كله ، لأنه كلام عن غير موجودين وأكثره ذكر للأخطاء، لهذا نحن نتعلم من التاريخ لأن أكثره أخطاء.

وقوله تعالى (أيحب احدكم ان يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) هو وصف شامل لكل ما سبق هذه الآية من السخرية والاحتقار والتنابز بالالقاب والتجسس بحثا عن عيوب الناس والظن السيء بلا دليل والغيبة ، أي كأنها قتل للإنسان من خلال التجريح والتقطيع، كأنه جثة هامدة وأنت تأكله بهذه الاعمال والتصرفات، مع أنه أخوك. هذا الوصف البليغ جسّد الصورة، لأن هذه الأفعال كلها في سياق الغيبة غالبا . من الصعب ان تتجسس على احد في وجهه، أو أن تظن به ظنا سيئا وهو أمامك، او حتى تسخر منه وهو أمامك، والتنابز بالالقاب أي بالالقاب السيئة، وليس أي لقب يزعج، بل بعضها يسر صاحبه، واحيانا هو من اختار لنفسه ذلك اللقب، لكن الالقاب السيئة غالبا تكون في امور خارجة عن ارادة الشخص، تشبه الغيبة، مثل ان تصف احدا بالاعرج او القزم او الاسود او السمين ، لغير حاجة، أو أن يكون مُصدّر بأب أو أم ، على شكل كنية ، مثل يا ابن الفاعل يا ابن الفاعلة يا ابن الشحاذ يا ابن الحرامي الخ ، حتى لو كان هذا حدث ، فالشخص لا ذنب له، أو كانت بعمل ابيه او امه، او عيب في ابيه او امه ، وهكذا. لكن اللقب الذي يتقبله صاحبه ولا يجرحه فلا مشكلة ، حتى لو كان اصل هذا اللقب نقداً، فالجاحظ لم يكن يغضب اذا وصف بهذا اللقب، مع أن اساسه جحوظ عينيه، وهو أمر ليس بيده، وكذلك ابن المقفع لم يكن يغضب، وقد سمي بذلك لأن والده ضُرب حتى تقفعت يداه ، و ربما ان لقبه ساهم في شهرته، لأن الألقاب وسيلة للتمييز والتعارف، ولو اعتبرنا ذلك غيبة لاستوجب تغيير اسماء في التاريخ ، وهذا سيسبب اشكالا وحرجا ، والإسلام ليس فيه حرج ولا يسبب حرج ..

لهذا جعل الله الناس شعوبا وقبائل مختلفين ليتعارفوا كما في الآية اللاحقة ، فتعرف ان هذا من قبيلة فلان او من قبيلة فلان ، وهذا ابيض وهذا اسمر وهذا قصير وهذا طويل الخ، لا لأن تفخر عليه وتنبزه ، بل لتتعرف عليه وتميزه عن غيره . فلولا الاختلافات لما امكن التمييز، والشيطان يستغلها للشر، والله ارادها للتعارف ، فعلينا ان نطيع الله ولا نطيع الشيطان ..

إن المقياس في الغيبة هو الجرح والاحساس بالإهانة على حق، حتى لو جاء من غير هذه الأمور، لأنه لا يجوز إيذاء الإنسان ايا كان، فضلا عن المسلم ، لأنه أخ . قال تعالى (إنما المؤمنون اخوة) . هذه تربية الهية عظيمة لتجنّب مثل هذه الأعمال التي تعكّر صفو الأخوة، والتي يحرص الشيطان على اثارتها لكي ينزغ بين الأُخوة.

هذا يعني ان الاختلافات بين البشر الأصل فيها التعارف وليس التفاضل ، فلا يفخر غني على فقير ولا ابيض على اسود فينبزه او يلمزه او يلقبه ، لأن الأكرم عند الله هو الاتقى فقط، هذا هو مقياس الاكرم. ويدخل في هذا نبذ التفاخر القبلي والطائفية بين المسلمين، كل هذه من عوامل التفرقة، فالأكرم هو الاتقى ممن كان وأيا كان، فالتقوى لا تكون جماعية.

أغلب ما تكون هذه التصرفات السيئة في حال غياب الشخص، أما اذا صار موجودا فالمجاملة هي سيدة الموقف بالعادة ، وهذا الوصف البليغ (أكل لحم الميت) جاء بعد ذكر كل ما سبق من صفات سيئة ..

في كل هذه التصرفات المقياس فيها هو نية الخير او الشر ، لأن الصدق احيانا يستعمل للشر، المسألة نية وليست آلية ، لأن الله يحاسب النوايا (يوم تبلى السرائر) .. ما نيتك عندما قلت او فعلت ؟ ان كانت خيرا نجوت ، وإن كانت شرا لن تنفعك آلية عملك

هناك تعليق واحد :