السبت، 19 مايو 2012

بشرية الأنبياء كما ذكرها القرآن ..

النسيان و الشك و الخطأ والعاطفة والضعف وارد عند الانبياء والرسل ، (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ) ، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ، وهذا يعني حرص ابراهيم على ان يطمئن قلبه بالكامل ، مع انه مؤمن ، حتى لا يزعجه الشيطان بوسوسته التي لا تقف عند حد .. (وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ, وقال تعالى عن موسى ورفيقه: { نسيا حوتهما...}

لكن الله لا يسمح لذلك ان يؤثر في صفاء وعصمة رسالاتهم ، فالله ارادهم ان يكونوا بشرا ، و اراد لرسالاته ان تكون معصومة حتى يبلغوها للناس صافية . أي : رسالة صافية يقدمها بشر وليس ملاكا ، حتى يتم الاقتداء بهم ..  

وكلمة شك تعني الوسوسة المزعجة ، وليس بمعنى الشك الذي يصل الى حيز الفعل والتنفيذ , الأنبياء أرفع من هذا المستوى.. اي انها شكوك غير مقبولة ولا مرغوبة من صاحبها ، يثيرها الشيطان .. ولا يؤيدها من تمر بباله ، و ليس المقصود الشك المحيـّر الذي يحرف العقيدة .. أرجو مراعاة الفارق ..

انهم غير معصومين من الشيطان ، بدليل الآية الجامعة لكل الانبياء : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ..) و ورود الشيطان عليهم لا يعني انه يذكّرهم بالخير طبعا .. لكن بقية الآية تثبت ان الله ينقّي رسالته من عيوب بشريتهم : (فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) لاحظ قوله : يحكم آياته .. يعني : يصفـّي رسالته رغم بشرية الرسل وتعرضهم كغيرهم لوسوسة الشيطان .. وقال تعالى لنبيه : (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ) .

و ورود الشيطان على ابراهيم ليوسوس له مثبتٌ بالجمرات التي يرمي الحجاج فيها ، حيث انها مكان ظهور الشيطان لابراهيم و وسوسته له .. و ابليس وسوس لآدم و حواء في الجنة من قبل ..  

و كون الرسول يـُخاطـَب بعبارة شرطية قوية تشبه التهديد في القران : ( ولو تقول علينا بعض الاقاويل ، لأخذنا منه باليمين ، ثم لقطعنا منه الوتين) ، هذا يعني وجود احتمالية ، فإذا جردنا الرسول من ايمانه بالغيب رغم كيد الشيطان ، فنحن نقلل من شأنه و لا نرفعه . اي اذا اعتبرناه مجبرا على اختيار الخير ولم يكلف نفسه في ذلك ..

فالرسول بشر مؤمن و مسلم ، ولولا ذلك لم يصلح لان يكون قدوة ، فإذا صار له طبيعة ملائكية ، فكيف نقتدي بملائكة ونحن بشر ؟ الله امرنا ان نقتدي بالانبياء ، فكيف يقتدي المُخيّر بالمُجبر على النزاهة والمعصوم من اي خطأ ومن اي شيطان ؟ بينما نحن غير معصومين وغير مجبولين على اختيار الخير ؟  

الانبياء نموذج للبشر ، و ليسوا نموذجا للملائكة . والايات كثيرة من مثل (إنما انا بشر مثلكم يوحى الي ..) ، ومثلكم تعني المماثلة في الطبيعة ومتطلبات الحياة وعوارضها ، و الوحي يؤكد له ان ما ياتيه حق ، (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) ، لو لم يكن له فرصة للشك أو الرفض ، لما قيل له هذا ، مع وجود الوحي ، فالشيطان يدخل في كل شيء ..

لاحظ ان القران نهى الرسول عن تحريك اللسان في القران : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به) ، لأن القران سوف يحفظه الله في صدره وعلى الارض الى قيام الساعة ، بدليل ما بعدها : (إن علينا جمعه وقرآنه) ، و قوله تعالى : (سنقرؤك فلا تنسى) .. وقوله تعالى : (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) ، هذا يعني امكانية حضور الشيطان . وقال تعالى : (واعوذ بك رب ان يحضرون) .

من هنا نرى عظمة رسول الله وبقية الرسل .. كيف استطاعوا ان يزكوا انفسهم كل هذه التزكية وأن يصبروا كل هذا الصبر ، رغم ان شياطين الجن والانس تحاول ان تثنيهم وتؤثر فيهم وتخيفهم .. وهكذا يفهم المؤمن عظمة انبياء الله ويجعل طريقتهم نبراسا له في حياته ، وصبرهم شاهدا له ، قال تعالى (فاصبر كما صبر اولو العزم من الرسل) . قال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) ..   

نحن احوج لأن يكون قدوتنا بشرا مثلنا ، يخطئ و يصيب ويتوب كما كان ايوب ، ويبحث عن الحقيقة كما فعل ابراهيم و محمد عليهم السلام ، حتى نحاول ان نقلدهم .. نحن لسنا محتاجين لملائكة ، لاننا لا نستطيع ان نكون مثلهم و لا قريبين منهم ، لهذا أكد الله سبحانه على بشرية الرسول عليه الصلاة والسلام و كل الانبياء ، ولم يذكر لهم خاصية اخرى يتميزون بها عن البشر ، إلا ما اعطاهم الله من علم لم يعطه غيرهم ، و بحثهم و حبهم لله وما والاه ، وتفضيلهم للآخرة على الدنيا ..

فيوسف مع انه صديق نبي و ابن انبياء ، ذكر القرآن انه همت به و هم بها ، و قال عن نفسه ( ولا ابرء نفسي ان النفس لأمّارة بالسوء) ، إنه بشر مثلنا ، و تأتيه نوازع النفس التي يؤثر بها الشيطان ، و لكنه اراد ان يتزكى و يتطهر . اذن نستطيع ان نفعل مثل فعله لو وقعنا في نفس الظرف ، لانه بشر و ليس مَلَك ، ونحن بشر ايضا ، فما الذي يجعلنا لا نفعل مثله ونستعصم بالله كما استعصم ؟ هكذا يكون قدوة ً لنا في رفض الفاحشة و الخيانة ..  

ان الله تعهد بحفظ كتابه ، ولم يكل حفظه الى الرسول فقط ، فإذا كان الانبياء لا يخطئون ولا ينسون ولا يغضبون ولا تأتيهم نوازع النفس او الشيطان ، كيف نستفيد منهم و نقتدي بهم ؟ بل كيف يكونون افضل من الشخص الذي قاوم هذه النوازع و تحمّل حتى يطهّر نفسه ؟ نحن نقتدي بصبرهم ، و الصبر يعني المقاومة ، قال تعالى : (والله يعصمك من الناس) ، ولم يقل من الشيطان ولا من الخطأ ولا من البشرية .. و لهذا مدح الله انبياؤه بسرعة التوبة عند الخطأ : (نعم العبد انه اواب) ..

البشرية تقتضي كل مقتضيات البشرية ، لذلك قال عن عيسى و امه عليهما السلام : (كانا يأكلان الطعام ويمشيان في الاسواق) و اكل الطعام يعني قضاء الحاجة ، مثل بقية البشر .

محاولة جعل الانبياء ذوو تكوين خاص مختلف عن بقية البشر ومجبولين على الخير والفضيلة ، يجعلهم نموذجا فوق البشر ، اي لا يستطيع البشر ان يقلدوهم ويحاكوهم ، وهذا عكس ما جاء الانبياء لأجله ، لم يأتوا لكي يقدّسوا ويمجدّوا ويعظَّموا ، ولم يأتوا ليُعجّزوا البشر بنماذج جـِبـِليّة لا يمكن ان نكون مثلها ، بل جاءوا لتقديم النموذج القائم على الصبر واختيار الافضل .. قال تعالى (فبهداهم اقتده) ، والله لم يصفهم باوصاف التقديس والتمجيد التي يبالغ بها البعض ، بل وصفهم بأنهم بشر و عباد لله ، و مدح فيهم صفاتا انسانية كالحلم والرجوع عند الخطأ والصبر و بر الوالدين وعدم الكبر ، لأننا بحاجة الى مثل هذه الاخلاق ..

وكونهم مصطفين ومهديين ومخلـَصين لا يتعارض مع بشريتهم ، فالله هداهم لانهم استحبوا الهدى على الضلال ، واصطفاهم لانهم اصطفوه ورغبوا فيه وبحثوا عنه ، كذلك يفعل الله مع المؤمنين ايضا ، فالله يهدي من يشاء ، ويضل الذين استحبوا العمى على الهداية ، بل و يزيدهم ضلالا .

انهم رسل الينا و ليسوا كيانا مستقلا يقدّس لوحده .. و هذا يعني ان لنا قيمة عند الله ، و الا لم يرسلهم الينا .. وهذا لا يعني انقاصا لقدرهم العظيم ، بل على العكس ، بل يجعلنا نتصور معاناتهم و مقاومتهم للشيطان ولأنفسهم ومقاومتهم للخوف والحزن والشك والنظرات الحاقدة ، كل هذا لأجل اعلاء كلمة الله ، هكذا نستفيد من هذه النماذج البشرية التي اختارت ان تكون حياتها لخدمة كلمة ربها . فعظمتهم وقيمتهم من عظمة الله وعظمة كلمة الله ، و هم مثلنا في اختبار ، حتى بعد نبوتهم ، ان قلت ان عيسى هداه الله وهو في المهد ، و قال اني عبد الله ، هذا لا يعني انه لن يكون بشرا يتعرض لكل النوازع التي يتعرض لها البشر فيما بعد .

كل الانبياء صابرون ، و هذا يعني انهم بشر ..

(وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، ابتلاه الله بعدم تصديق قومه له ، و لولا ان سبح و تاب ، للبث في بطن الحوت ، و الله عاتب نوحا عندما قال لابنه الكافر : (ان ابني من اهلي وان وعدك الحق) لأن الله قال له (اركب انت واهلك) ، وهو يعلم كفر ابنه ، عندما تحركت عند نوح عاطفة الابوة ، ثم تاب بعد العتاب . فقال تعالى لنوح : (اني اعظك ان تكون من الجاهلين) . انها طبيعة بشرية ، و توبة سريعة صادقة جميلة ، احرى بنا ان نحتذيها .

وفي الحديث ان الرسول عليه الصلاة والسلام : (لا تطروني كما اطرت النصارى عيسى ابن مريم ، ولكن قولوا عبد الله ورسوله ) .. وها نحن نقول انه كان حقا عبد الله ورسوله .. واكثر انحرافات الاديان اتت من فكرة عدم بشرية الانبياء ، وجعلهم نماذج نورانية مختلفة عن البشر ، كذلك انحرفت اديان بتقليل شأن الأنبياء وشأن ايمانهم واعتبارهم بشرا من النوع الآثم ، كما تجد صورة الانبياء في التوراة الموجودة و وصفهم باوصاف وافعال لا تليق بانبياء . كلا التطرفين مذموم ، فالمسيحية جعلت من المسيح الها ، واليهودية جعلت من لوط زانيا وسليمان ساحرا وداوود خائنا ومنتهكا لعرض صديقه ، و ما الى ذلك ..

على المسلم الا يتطرف في اي تصور ، فنحن امة وسط ، لا نكرم النبوة على حساب الالوهية ، ولا نكرم البشرية على حساب النبوة ..


هذه وجهة نظر قابلة للاخذ والرد والاستدراك ..

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق