لو كان لا يدعو الله الا شخص صاف من
الذنوب لم يدعه أحد، كما قال أبو نواس في توبته :
إن كان لا يدعوك الا محسن ،، فبمن
يلوذ ويستجير المذنب؟
وأبواب السموات تفتح بإذن الله ما
دام الله اهم من الدنيا عند المؤمن . فالله يقول (قل يا عبادي الذين اسرفوا على
انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا) لكن لابد من ملاحظة أن ما
يهمّ عباد لله هؤلاء هو أن يَغفر الله لهم، قبل أن يلبي طلباتهم. أي أنهم حريصون
على ترميم علاقتهم مع الله .
إن الجميع يذنبون ، ولا يخلو انسان
من ذنب ، ولو سلم أحد من الذنوب لسلم الأنبياء ، وهناك فرق بين من يريد الذنب ومن
وقع في الذنب ؛ أي لا يبحث عنه ولا يبذل مجهودا لينتقل إلى مكانه او يطلبه، فهذا
من الإصرار .
بصورة أخرى : لا يقع فيه وهو يعرفه
تمام المعرفة، أو يقع فيه بتخطيط مسبق، بل يقع فيه فجأة ، تحت تأثير غضب أو أن يحدث
أمر ما بسرعة أو بسبب تصور خاطئ أو انه اقترب من الفاحشة فجأة أو تعرض لإغراء
مفاجئ ولم يستطع أن يردع نفسه، ثم يتوب ويندم بعد أن اكتشف نفسه واكتشف فظاعة ما
فعل : (إن الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)، هذا يعني
ان البصيرة كانت غائبة وقت فعل ذلك الذنب الفجائي الذي لم يخطط له، ويقدّم هذا
الفعل مشاعر أليمة أكثر من مشاعر اللذة، أي أن عملية الذنب خاسرة مع المؤمن ، لأن
الألم فيها أشد من اللذة، وقد ينبهه ألم الذنب إلى ذنوب أخرى فيحترز منها .
أي أنه إذا تصوّر أن يفعله مرة أخرى
، يتبادر إليه الألم اكثر من اللذة ، أي أن ذنب المؤمن في صالحه، كمنبّه قوي و دافع
للتوبة. من مثل هذا النوع تكون ذنوب الصالحين والمؤمنين الأتقياء، أي غير مُخطّط
لها، ويدفعون من ألم الندم أضعاف ما أخذوا من اللذة ، مثلما حصل للثلاثة الذين
خلفوا عن معركة تبوك ، فالله وصف حالهم من الندم وقال (حتى اذا ضاقت عليهم الأرض
بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم) ، في لحظات عدم إدراك كامل للذنب وعواقبه الغير
مقصودة والتي جاءت من نفسها، بل حتى النبي يوسف ذكر الله أنه همّ بها لولا أن رأى
برهان ربه. لهذا قال : (السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) ، لأن السجن يحفظه من أن
يتعرض لهذه الضغوط من الإغراء، مما يعني أنه يكره الذنب ويخاف ان يقع فيه، فأحبّ
ضده، وهو السجن، تخليّا عن ترف القصور، صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله ان يجمعنا بهذه النماذج
العظيمة من الأنبياء والصالحين والشهداء وأن نتشرف برؤيتها، وحسن أولئك رفيقا.
المؤمن إذا فعل الذنب فهو يكرهه ولا
يريده، بل الظروف دفعته اليه، و نيته اصلا انه يكره الذنب . مثل شخص يريد ان يكون
حليما في التعامل مع الناس ، ثم يأتي ثقيل من الثقلاء في وقت غير مناسب ، قد ينفعل
و تتفلت اعصابه ويقول كلاما يندم ندما شديدا عليه ، ثم يتوب ويعود إلى نيته بأن
يكون حليما مرة أخرى ..
{إنما التوبة على الله للذين يعملون
السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} ، أي أن الذنوب لا تأتي "بسبق إصرار وترصد"
كما يسمى جنائيا، فهذا يسمى إصرار على الفواحش .. وليس هناك معصوم من الذنب ، حتى
الأنبياء ، لكن الرسالة معصومة ومحفوظة، فالنبي بشرٌ رسول ، والبشر يخطئ، لكن
الرسول لا يخطئ، و هما شيء واحد.
والذنوب ليست بدرجة واحدة ، إن ما
أكد عليه القرآن هو الفواحش والظلم والبغي، و كل ما نهى عنه الله فيه كبائر وفيه
صغائر ؛ فظلم الناس مثلا وأخذ حقوقهم او قتل النفس بغير الحق لا يقارن بمثل
التنابز بالألقاب أو دخول منزل أحد دون استئذان مثلا، مع أنها كلها ذنوب. والأخطاء
على النفس ليست بنفس درجة الأخطاء على الغير.
لذلك قال تعالى (إن تجتنبوا كبائر
ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) . اذن التركيز في الاجتناب يجب أن يكون على
الامور الخطيرة والمنهيات الكبيرة، بعكس ما يفعل بعض الناس مع الأسف ، فهم يركزون
على أمور فرعية ويهملون ويتساهلون بأمور كبيرة ومصيرية.
القرآن وضّح لنا محددات لموضوع الذنوب
، يجب أن نتقيد بها ولا نفرض فهمنا البشري على تعامل الله، فعندنا نحن مثلا ؛ التلميذ المتفوق هو من لا يخطئ أبدا في ورقة
الامتحان، ولا نقص عليه ، لكن عند الله الوضع مختلف، فالله ليس محتاج لنا ولا
لأعمالنا ، ولكنه يبلو سرائرنا وقلوبنا. إن العمل يستطيع ان يتقنه ويقوم به
المنافق والمؤمن، لكن النيات لا ، فالله يبلو نياتنا من خلال أعمالنا ، أي ان
التركيز على النية أكثر من التركيز على العمل في حساب الله ، لأنه يبلو السرائر،
ويعلم نقصنا وضعفنا .. {يوم تبلى السرائر} وقال {الا من اتى الله بقلب سليم} ، ولم
يقل : من اتى بعمل سليم ، وقال {ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}
وقال {والذين اذا فعلوا فاحشة أو ظلموا انفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن
يغفر الذنوب الا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} أي أنهم لا يصرون على
الفاحشة او الظلم والكبائر و هم يعلمون ويقدّرون خطورتها وعواقبها، مثل هذا لا
يفعله مؤمن. أما اللمم ، وهو من الإلمام بمعنى الإقتراب - فألمّ بالبلد أي اقترب
منها - فالله استثناه من الذنوب.
المهم أن تكون نيتنا سليمة و خالصة
لله ، ونجتنب كل الفواحش والبغي والظلم ما دمنا نعرف و نميز ونكره ما يكرهه الله
ونحب ما يحبه ، و في أثناء ذلك سنقع في إلمامات وأخطاء كثيرة لأننا بشر ، و قدراتنا
على التمييز السريع و بنفس اللحظة بطيئة، وبالتالي نقع في الذنوب بجهالة، مثلما أخطأ
الرسول وهو بشر في تقدير موقف الأعمى و وجهاء قريش ، فعاتبه القرآن . و مثلما أخطأ
نوح عندما أدخل ابنه الكافر بوعد الله أن ينجيه هو وأهله، لهذا عاتبه الله : (إن
ابنك ليس من اهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون
من الجاهلين) فتاب واستغفر، وترك هوى نفسه وعاطفته، لأنه عبد، وهو نبي ومع ذلك
أخطأ، و رجع بسرعة.
الرجوع بسرعة من أقوى العلامات على
الرغبة برضا الله. لكن في إطار وصف الله للذنوب، وليس في إطار ما يصفه الناس ،
فالناس يقولون عن اشياء انها ذنوب وقد تكون هي العمل الصالح، مثل من يعاتب والده أو
والدته في شيء لا يرضي الله ، قد يصفونه بالعقوق ! مع أنه يريد لهم الخير. وقد
يكبّرون بعض الأخطاء الصغيرة، ويتهاونون بأمور كبيرة. وقد يجعلون أشياء عادية ذنوبا كبيرة بحكم أن المجتمع
لم يعتد عليها ، بينما إذا ناقشتها لم تجد فيها ما يستحق كل هذا التهويل.
ومثلما أخطا سليمان عليه السلام حينما
اشغله حب الخير - أو الخيل كما يقال - عن ذكر الله ، فندم وغضب من نفسه، فطفق مسحا
بالسوق والاعناق، أي قتل ما يحب لأجل من يحب. فذبح الخيل الأصيلة على حبه لها
وجعلها طعاما للناس. وكأنه يعاقب نفسه على إهماله لذكر الله.
نحن إما أن نزيد في شيء أو ننقص أو
نتعجل أو ننفعل أو نتباطأ ، هذا كله وارد ، الله لا ينظر إلى هذا ولا يغضبه، بل
يغضبه ان نفعل السوء ونحن نعرف انه السوء ولا نبالي بنهي الله وغضبه، أن نتأخر عن
فعل الخير ونحن نستطيع، ولا نتأخر عن فعل الشر ونحن قادرون على الاستغناء عنه، أن
نُصرّ ونخطّط في جو هادئ لأمور لا ترضي الله، هذا ما يغضب الله وهذه هي الذنوب.
الله مدح إبراهيم بأنه أواب، أي كلما
أحس بالخطأ ندم ورجع. الإنسان وهو يتعامل مع صديقه مثلا، تقع منه أخطاء، ويحرص أن
يتراجع عنها أو يغيّر او يبدّل حتى لا يخسر العلاقة، كذلك يجب أن تكون علاقتنا مع
الله ، نعاهده أن حياتنا ومماتنا له بقدر ما نستطيع، ونبرمج اهتماماتنا على ذلك، وحتى
إذا أخطأنا ووقعنا في أي صورة من صور الفحش، (والفاحشة ليست شيء محدد ، فهي كل شيء
زاد عن حده) لكي نحافظ على علاقتنا مع الله صادقين وغير آبقين.
هذا ما يريده الله منا، لأنه يعرفنا
ويعرف ضعفنا كبشر، ولا نستطيع أن نأتي باختبار الآخرة بـ 100%، مع انه يمكن لنا أن
نأتي بها في اختبارات الدنيا أحيانا . لكن نستطيع أن نأتي بنيّة رضا الله 100% .. ومن
الأدلة على أهمية النية عند الله قوله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان).
اهتمام المؤمن بإصلاح علاقته مع
الله وترميمها أهم من طلباته من الله. لأن الله إذا رضي عليه قدرَ على إرضائه، وهو
أدرى بما ينفعه من نفسه و من طلباته. لكن إذا كان التركيز على الطلبات أكثر من
التركيز على إصلاح العلاقة مع الله ، فهذا يدل على اهتمام بالنفس أكثر من الاهتمام
بالله، ولا يدعم فكرة العبودية، لأن عباد الله أصلا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون،
حتى لو لم يطلبوا كثيرا منه .
حتى القرآن نفسه لا يذكر أدعية
كثيرة للأنبياء، فإبراهيم دعا مرة و زكريا مرة ، ومحمد لم يُذكر له دعاء في القرآن
حسب ما أعرف ، لكنهم كانوا مشغولين بأن يكونوا عبادا لله في كل ما يأتون ويفعلون،
ومشغولين بالشكر أيضا.
لا يصلح أن نتحول إلى دعّائين في
التعامل مع الله فقط، فهذا ينقص من التوكل. نعم أنا أحب الله وعبدٌ له وأتوكل عليه
، وهو يكفيني وهو يعلم ما يصلح شأني ويعرف حاجاتي ومعاناتي أكثر مني ، فلماذا
الصراخ والعويل والطلبات الطويلة ؟ هذه قلة أدب مع الله ، وكأننا غير واثقين أن
الله يطّلع على أحوالنا ، كثيرٌ من الناس أشغلتهم الطلبات عن إصلاح أنفسهم. الله
قال (ادعوني استجب لكم) والدعاء لا يعني الطلب فقط، فعندما تنادي أحدا لا يعني انك
تطلب منه شيئا أو ليفعل لك شيئا في كل الأحوال ، فقد تناديه لشكره أو لذكره. لذلك
قال تعالى (إن الذين يستكبرون عن عبادتي) ولم يقل : يستكبرون عن تقديم طلباتهم لي.
وهذا لا يعني ألا نطلب من الله ،
فمن لنا غيرُه، فأيوب صبر وصبر إلى أن مسّه الضر فدعا الله. قال تعالى (أمن يجيب
المضطر اذا دعاه) ، لكن لا يعني أيضا أن نهمل كل شيء ونطلب الله حتى في أمور
نستطيع ان نفعلها نحن، فبعضهم يدعو الله أن يقرّب له نعليه ! الله لا يُحَوّل الى
خادم ! بل نحن خدم عند الله.
لذلك الدعاء له أدب أيضا، لأنه
تخاطب مع الذات العليّة، يجب أن يكون في أعلى مستويات الأدب والأخلاق.
إذا وقع الإنسان في ذنب واستغفر ، فلا
شيء يمنعه من أن يطلب من الله ، لكن ما يهمّه هو التوبة أكثر، فإذا صلحت علاقتنا
مع الله صلح كل شيء ، فالله كافٍ عبده، والله يدافع عن الذين آمنوا ، بل ربما لم
يعرفوا عدوّهم، ومن يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب، أي من حيث لا
يدري، و بالتالي لو كان يدري لدعا، ولكنه لم يدر ، ومع ذلك رزقه الله، لأنه مسلّم
له حياته كلها وليس فقط صلاته.
و كون المؤمن الصالح يؤدي عبادات
ونوافل وسنن ويصلي الوتر ويقوم الليل الخ، فهذا عمل جيد، لكن ليس كافيا لأن ندلّ
على الله به، يجب أن تكون كل حياتنا لله وليس فقط صلاة الوتر ، بحيث "وما
تشاءون إلا ان يشاء الله" أي لا نحب شيئا إلا إذا أحبه الله، ولا نكره شيئا
أحبه الله ، ولا نقول عن أنفسنا أننا أحرار، لأننا عبيد لله، ونحافظ على هذه العبودية
ونعتز بها لأنها هي ما يحررنا من عبودية غيرنا، ومن عبادة الذات، وهي التي تصلحنا
وتصلح عقولنا وأخلاقنا، بل وتعالج نفسياتنا.
و شيء جميل ورائع شعور المؤمن
بالخجل من الله بأن يدعوه وهو قد فعل ذنبا. الله يقدّر هذا، ويعرف احاسيسه ولو لم
يقلها . لا اقول : كن مع الله ، بل اقول : كن لله ، كل واشرب واضحك وشارك المجتمع
وعش حياتك، لكن كل هذا مع مراقبة الله وهل هذا يرضيه أم لا . العبودية الحقّة ليس
معناها التنسك والتبتل والرهبنة، فهذا خطأ . بل هي الدخول في الحياة، بطولها
وعرضها، لكن بدون حرية من عبودية الله. قال تعالى (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة
ولا تنس نصيبك من الدنيا).
لننظر إلى مريم عليها السلام، كان
الله يتولاها ويسخّر لها ، مع انه لم يذكر دعاءً لها في القرآن، لكنها كانت قانتة
لله ونذرت نفسها له، فعاملها الله بحنان و عطف الهي، عندما قالت (ليتني مت قبل هذا
وكنت نسيا منسيا) ، (فناداها من تحتها الا تخافي) ومزيدا في الحنان ، (وهزي اليك
بجذع النخلة) .. (فكلي واشربي و قري عينا) وحتى لا تقلقي من الناس وأسئلتهم
الغبية، قولي لهم (أني نذرت للرحمن صوما، فلن أكلم اليوم انسيا) حتى الرد أعفاها
الله من أن تدخل في جدال معهم. خلّصتها المعجزة من هذا الموقف ونطق الطفل بنفسه، و
أول كلمة قالها (اني عبد الله). بهؤلاء النماذج من الأنبياء والصالحين والصالحات
علينا ان نقتدي (فبهداهم اقتده) .
المفهوم السائد أن الإنسان السليم
هو الذي بلا ذنوب، وبالتالي إذا عجز الإنسان عن الوصول الى هذه الحالة ، حينها سوف
يوسوس له الشيطان : بما أن سفينتك غارقة فأكملها واغطس بالذنوب ، فأنت غير جدير
بالامتياز .. هنا تكمن خطورة هذا الفهم السائد .. إن المهم هو النيات ، أن تكون
النيات خالية من الذنوب. مع محاولة واجتهاد في تصليح العمل، فلا يكلف الله نفسا
الا وسعها.
وبسبب ذلك المفهوم السائد انحرف
كثيرون وتمادوا في الانحراف لأنهم حاولوا الوصول للكمال ولم يستطيعوا، متصورين أن
غيرهم وصل ، مع انه لم يصل احد، لكن الناس لا يخبرون عن ذنوبهم.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق