الاثنين، 19 ديسمبر 2016

مغالطة الملاحدة في أن إدعاء عدم الوجود لا يعتبر إدعاء

من يدعي الوجود مدعي ، ومن يدعي عدم الوجود يسمى مدعياً أيضاً ، فهو لم يقل : لا أدري ، بل ادعى عدم الوجود ..

في كل تعاكس و تضاد في الرأي مدّعيان و ليس مدعٍ واحد .. هذا في المنطق والفلسفة ، وليس في اعتمادات القضاء في المحاكم و مصطلحاتها .. بل حتى المحاكم لا تتعامل مع دعاوى النفي، بل مع دعاوى الاثبات.

إذا قلتَ مثلا أن زيداً موجود في القاعة ، و صرخ زميلك قائلا : أبداً ! إن زيداً غير موجود في القاعة ! فهل أنت أمام ادعاء واحد الآن ؟ أم أمام ادعائين ؟ و هل ستطالـَب أنت بالدليل وحدك بينما زميلك لا يُطالـَب بالدليل ؟ سيُقال له أيضاً أنه يدعي أن زيداً غير موجود ، فما دليله ؟ هل لديه دليل ؟ كأن يكون مسافراً مثلاً وهو يعرف أنه مسافر ؟

ألا تشعر أن لكلاكما (المثبت و النافي) أدلة و منطقاً ؟ .. هكذا سيحس أي شخص يستمع إليكما .. و سوف يشعر أنك تقر بوجوده على علم ، و أن زميلك الذي يدعي عدم وجوده على علم أيضا !! وإلا لما رفض و نفى وجوده !

النفي حكم ، والإثبات حكم ، هكذا المنطق .. و كل حـُكم يحتاج إلى أدلة .. أما كلمة لا أدري ، فهي ليست حكماً على الشيء ، لذلك لا يـُطالَب صاحبها بشيء ..

إذاً الملحد و المؤمن كلاهما مدعي .. و كلاهما يحتاج إلى أدلة .. ولو كانا في محكمة ، سيطالبهما القاضي كليهما بالأدلة .. و سيقول لمنكر وجود زيد : ما أدلتك حينما نفيت أنه في تلك الساعة لم يكن في القاعة ؟ وسيعامله معاملة المدعي ..

إن الملحد هو في الحقيقة المدعي ، لأن كل البشر مؤمنين بوجود إله ، ومنذ القدم ، إلا الملاحدة الذين ظهروا في نهاية القرن الثامن عشر فقط .. إذاً هم الذين شذوا عن الإجماع البشري ، وعليهم البينة و لم يقدموها ، كالعادة القضائية بأن على كل من شذ عن الأصل و العرف أن يقدم دليلاً .. حتى لو كان بالنفي ..

فلنفترض أن قبيلة ما تعودت أن تسقي مواشيها من مورد بعيد عنها ، و جاء شخص ليقول : لا تذهبوا لذلك المورد ، فليس فيه ماء .. الآن هو ينفي وجود ذلك المورد ، وأخبرهم بأنه اندثر ولا وجود له .. الآن هو سيُعامل معاملة المدعي .. مع أنه ينفي وجود .. و سيطالب بالأدلة القوية لأنه كسر المعتاد ، مع أنه ينفي .. إذاً نافي الوجود كمدعي الوجود : كلاهما مدعي .

وإذا عجز المدعى عن إثبات ادعاءه فهذا يعنى أن ادعاءه غير صحيح ، و هذا ما وقع للملاحدة ، بل إنهم لم يحاولوا .. مع إنهم كسروا القاعدة البشرية العامة و شذوا عن شعوبهم بدون أدلة تثبت عدم وجود إله لا في الأرض ولا في السماء ، و الذي اقتنعت به البشرية منذ وجودها .. هذا ادعاء عريض بلا دليل يقدمه الملاحدة مربوطاً بادعاء آخر وهو ادعاء العقلانية ..

و العقلانية تحتاج إلى دليل .. وإذا سألناهم : من أين جاء الكون ؟ قالوا : من لا شيء ! فهل هذا دليل يقبله العقل من شيء مصنوع و منظم بتعقيد منظم و ذكي و كل شيء فيه غائي، أي أن كل شيء مسخر ليخدم كل شيء، ومتوازن ، بلا صانع ولا إرادة واعية ولا يحزنون؟ و إذا قلنا : من أين هذا التوازن والانسجام ؟ قالوا : من العشوائية ! فهل هذا شيء يقبله العقل ؟ العقل لم يعتد على مثل هذه الادعاءات ، و العقل يعرف أن العشوائية تنتج الفوضى ، والفوضى تضر بالتوازن والانسجام ، و يفسد بعضها على بعض .. فاين العقلانية ؟ إن هذا ضد العقلانية تماماً ..

إذاً نحن أمام ادعائين يقدمهما الملاحدة بكل سهولة و ليس واحداً : الأول ادعاء عدم وجود إله ، والثاني ادعاء العقلانية ، وما أسهل الادعاء بلا دليل ، خصوصاً إذا كانت الآلة الإعلامية ضخمة و يدعمها رأس المال المستفيد ..

الفكر الملحد يعتمد على انتقادات في الفهم والتطبيق للدين ليس إلا .. أي يعتمد على نقد اجتماعي و ليس على نقد منطقي أو فكري .. والنقد الاجتماعي لا قيمة له في الحوار الفلسفي ..

النفي والاثبات مرتبطان بالمعرفة ، ولا أحد يثبت وجود شيء بدون معرفة ، والا لعدّ مجنوناً .. و لا أحد ينفي وجود شيء بدون معرفة عدم وجوده ، و إلا لعد مجنوناً أيضاً .. إذاً الإثبات معرفة ، و النفي معرفة .. و كل معرفة تحتاج إلى دليل .. و لا يسْلـَم إلا من يقول لا أدري .. لأنه لم يدع معرفة ..

هذا هو المنطق العام في أي موضوع ، و ليس فقط في موضوع الألوهية والإلحاد .. فأنت تثبت الشيء وأنت عارف ، أو تنفيه وأنت عارف .. وإلا فكيف تنفي شيئاً أو تثبته وأنت غير عارف بوجوده او عدمه ؟

من يملك الحقيقة يبادر بها ، ولا يتهرب عن مطالبته بأدلة معرفته و يحيل طلب الأدلة على الجهة المقابلة ! .. العلمي معه العلم ، فلماذا يخاف ؟ مما يثبت أن الملحد لا يملك الأدلة النافية ، ولهذا هو يهرب إلى الأمام و يحيل الطلب الموجه إليه بالأدلة ، مع أنه هو الشاذ عن الإجماع ، إلى مجموع البشرية المؤمنة ، و يجعل أغلب سكان الارض في خانة المدعي ، و التاريخ في خانة المدعي ، و يبقى هو والأقلية التي معه في خانة المدعي عليه ..

وهذا المشهد القضائي يثير الضحك من أقلية مدعية و تطالب الأكثرية بالدليل .. مع أن المعتاد أن القليل هو الذي يقدم الأدلة ليقنع الكثيرين .. ويزداد الضحك إذا كانت الأقلية تدعي العلم الكامل ..  لماذا لا يـُنشر هذا "العلم" بعدم وجود إله ؟ (العلم و ليس الادعاء ، فالادعاء منشور بكثرة) .. أليس حق العلم أن ينشر ؟

والعلم في العادة هو الذي يبادر في أدلته .. علم الطب الحديث مثلاً لم يطالب المعالجين القدماء أن يقدموا أدلتهم ليثبتوا صحة العناصر الأربعة وتأثيرها في الأجسام مثلاً ، بل هو قدم أدلته ، لأنه يملك علماً .. إذاً الملحد لا يملك علماً بعدم وجود إله .. وإلا لقدمه قبل الادعاء .. كما فعل الأطباء العلميون .. هذه هي الخلاصة .. فهم لم يهاجموا الطب القديم و يطالبوه بالأدلة ، بل قدموا أدلتهم قبل ان تـُطلـَب .. إذاً الإلحاد مسألة ظنية وليست علمية ..

وعلى الملحد الذي يحترم العقل أن يقول : أظن .. أو : أشك .. ، وإلا فلن يعتبر عقلانيا .. على الأقل كما فعل فرعون حينما قال لموسى : (وإني لأظنه من الكاذبين) ، ففرعون الآن يبدو أكثر عقلانية في هذه النقطة .. فهو لم يقطع بعدم وجود إله البتة بلا علم .. بل إن فرعون فعل أسباباً لكي يحاول أن يتأكد من ادعاء موسى على حسب قدراته في ذلك الزمان ، بأن أمر أن يـُبنَى له صرحاً ليطلع على إله السماوات .. وقال ( ما علمت لكم من إله غيري) ، أي توقف عند حدود علمه هو .. ولم يقل : لا يوجد إله غيري وعلى المخالفين أن يقدموا الدليل ! وقال ايضا (لا أريكم إلا ما أرى) ولم يدعي أن رؤيته هي رؤية العلم كما يدعي الملاحدة، خطاب فرعون اللعين اكثر عقلانية منهم، وأقل تبجحا، وأكثر منطقية من ادعاء الإلحاد المسوّق عالمياً في عصر العلم ..

طلب الدليل من جمهرة البشر من قبل الملحدين الخارجين عن إجماعهم ، يشبه ادعاء جحا عندما سألوه عن منتصف المعمورة ، و قال أنه عند ذيل حماري ! فاذهبوا و قيسوا الأرض إن لم تصدقوا .. من ينفرد عن المجموع هو المُطالب بالدليل ، سواء أثبت او نفى .. هذا هو المعتاد عند عقول البشر وهو المنطقي أيضا .. والملحدون أقلية طارئة .. إذاً يلزمهم إثبات عدم وجود إله لهذا الكون ، بموجب العلم الحديث و دقته ..

من يقول : لا أدري بوجود الشيء ، فهو يعتبر جاهلاً في هذه النقطة فقط، و من يقول : أدري بعدم وجود ذلك الشيء ، بلا دليل ولا علم، فهو جاهل جهلاً مركباً .. أي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري ..

انتفاء الأدلة في قضية متعاكسة يوجب الشك .. هذا هو المنطق ، فالملحد كما يقول لم تصله أدلة على وجود الله ، وأيضا ليس عنده أدلة على عدم وجود الله ، إذاً يجب أن تـُغيّر كلمة إلحاد من أساسها ، فهي غير علمية .. ولا تناسب عصر العلم بما تحمله من تأكيد على عدم وجود إله .. و أن يسمي الملحد العلمي نفسه متشككاً ولا يقبل بكلمة ملحد أو منكر لوجود إله .. حفاظاً على قيمة عقله العلمية ..

ولو جاء ملحد ليقول أننا ندعي أنه لا يحق الادعاء بعدم الوجود إلا لمن أحاط بكل الوجود، بينما نحن لم نحط بكل الوجود ومع ذلك نقول بالوجود. 

هنا نقول : نحن نتكلم عن "عدم وجود الشيء " ، و ما يحتاجه هذا الادعاء لكي يثبت ويعتبر ذا قيمة ، وليس عن "وجود الشيء " .. كقاعدة عامة في كل شيء .. الإحاطة بالشيء الموجود ليست شرطاً للدلالة على وجوده ، فأنت مثلا ترى طرف السحابة ، و تقول : إن السحاب موجود في السماء هذا اليوم ، ولكنك لم تحط بأطراف هذه السحب ..

إذاً هذا شرط خاطئ ، أنت لا تُطَالَب بالإحاطة الكاملة بالموجود حتى تثبت أن شيئا ما موجود ! هذا خطأ منطقي ولا أحد يستعمله في حياته اليومية .. إذا بلـّغت عن حريق مثلا ، فأنت تثبت وجود الحريق ، لأنك ربما رأيت الدخان فقط، فاستدللت على وجود نار، ولكنك لم تقترب إلى النيران لتثبت وجودها وتحيط باطرافها وتعرف مسبباتها ، ولا يطالبك الناس بمثل هذا المطلب .. و إلا لعُدُّوا مجانين ..

إذاً الجزء من الموجود كافٍ لإثبات وجوده ، و لو بدون إحاطة كاملة به .. هذا هو المنطق البشري ..

أي ادعاء لا شأن له بأي ادعاء سابق . فوجود ادعاء سابق لا يعني إن لا يسمى نفيُه ادعاءً أيضاً .. كما يمكن أن تتعدد الادعاءات و تتنوع تجاه الشيء الواحد .. و كلها تسمى ادعاءات .. فأحد يدعي أن زيداً موجود ، و آخر يدعي أنه غير موجود ، و آخر يدعي أنه طويل ، و آخر يدعي أنه قصير ، وهكذا .. و كلها تسمى ادعاءات .. و تحتاج إلى أدلة ، سواء كانت قطعية أو مساندة ..

إذاً الادعاء السابق لا يمنع ورود ادعاء لاحق ، حتى ولو كان نفيه ، لأن كل الادعاءات مبنية على المعرفة .. و كلُّ ما كان مبنياً على المعرفة يسمى ادعاءً .. اذن لو لم يكن لديك الا دليل واحد وعقلي ايضا على وجود الله لصار كافيا ، دون حاجة للاحاطة بالله او لبقية الادلة، مثل من راى دخانا كثيفا فاستدل به على الحريق. وأدلة وجود الله اكثر من أن تعد، لأنها بعدد الاشياء، هذا غير ان المنطق بحد ذاته يقدم الادلة الكثيرة ، بينما يكفي دليل واحد، اذن المؤمن هو المنطقي، لأنه يملك اكثر من دليل. اي شخص لديه دليل واحد منطقي على وجود شيء فقد استدل عليه واثبت وجوده دون الحاجة الى آلاف الادلة، نحتاج للمزيد من الادلة في حالات الاشتباه فقط ، او وجود أدلة مضادة ، بينما الملحد ليس عنده ولا دليل واحد، فبالتالي يكفي لو دليل واحد على كسب القضية.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق