علماء النفس
يقسمون الأمراض إلى أمراض نفسية و أمراض عقلية, ويبدو أن ما يسمونه المرض العقلي
هو مرض نفسي تطور وصار واضح ومؤثر على كل السلوك أو أغلبه فسموه مرض عقلي, بينما
الفرق هو فرق بالدرجة وليس بالنوع, المرض العقلي مثل الفصام والمرض النفسية مثل
الكآبة والخجل, وتقسيمهم هذا لم يقم على فروق دقيقة, فإذا زادت المشكلة وأثرت على
كل حياة الشخص سموه مرض عقلي, كأن صار لا يهتم بملابسه ولا طريقة كلامه ولا حركاته,
لكن إذا صار عقله يعمل بشكل عادي لكن عنده حبسة في مجال معين أو عدة مجالات محدودة
سموه مرض نفسي, فالمرض النفسي إذا أخذ مساحات أوسع من حياة الشخص سموه مرض عقلي,
فهو تصنيف توصيفي وليس تصنيف علمي.
تلاحظ أن سلوك
المريض العقلي أو النفسي ليس غريبا عن سلوك الإنسان العادي بالكامل, فكل مرت به
بدايات أو صور مصغرة من المرض النفسي أو
العقلي, كالبلادة في التفكير, أو الفزع من الأحلام, أو الوسوسة أو الإهمال أو
الهيستيريا أو الأوهام أو سماع أصوات أو رهاب, وغيرها, فكل هذه الأعراض مرت بكل
شخص عبر مراحل حياته وبدرجات, مثل أنواع الفوبيا, بل هي موجودة بنسب ضئيلة في الشخص
العادي تظهر في مواقف وتختفي.
كل من رأيناهم
أصيبوا بجنون بعد أن كانوا عاديين هم مروا بمواقف أليمة وبعدها تغيروا وأصبحوا
يسمون مجانين أو مختلين عقليا, مع أن بعضهم كانوا متفوقين في الدراسة, فكل الحالات
صارت بعد مواقف أليمة, بعضهم تغير بسبب ضغط وظيفي مثلا, مثل أن يمر بموقف يكون فيه
عقوبة شديدة على أخطاء غير محددة وهذا يُدخل الشخص في حالة من التوهان والرعب وعدم
التوازن, فتكون العقوبة شديدة وأنت لا تستطيع أن تحدد ما هي الأخطاء التي ستحاسب
عليها فلا تدري أي أفعالك سيكون غلطة تعاقب عليها, لكن أن تعمل في مصنع مثلا وتحدَّد
لك مواضع الخطر هنا ستأمن أكثر لأنه يمكنك تجنبها, لكن يأتي شخص ويقيمك ويمكن ان يدمر
حياتك من وجهة نظره هو وليس على نقاط واضحة و ثابتة, فيكون مصيرك معلق بوجهة نظر
شخص يقيمك, هذا يسبب ضغط نفسي كبير, كأن تكون معلما ويدخل عليك مجموعة من المقيمين
الذين سيحدد تقييمهم مستقبلك الوظيفي كله , ولا يحددون أسس واضحة لنجاحك بل يضعون
أسس غامضة كالشخصية ومراعاة الطلاب والفروق بينهم و الاستعداد الذهني.. إلخ, هذا
سيجعلك خائفا وتائها لأنك لا تستطيع تحديد مصدر الخطر, وبالتالي هذا التوهان سيجعل
بعضهم يتوتر أكثر ويرتكب أخطاء أكبر, بل إن بعضهم يكاد يختنق ولا يستطيع أن ينطق
بكلمة من الخوف, وخاصة إذا كان حريصا على أن يأخذ تقييما جيدا, فشدة الحرص هي أحد
أسباب الضغط النفسي الذي قد يؤدي للأمراض عقلية.
كلما ارتبكت
النفسية كلما ارتبك الأداء العقلي, وهذا يعني أن الأمراض العقلية أساسها نفسي,
انظر حجم الأخطاء التي تقع فيها وأنت خائف ومقدار الأشياء التي تنساها أو تكسرها في
لحظات الإحراج, لدرجة أن تنسى أشياء عادية كرقم بطاقتك أو تلفونك أو حتى اسمك
بالكامل, وما أكثر التصرفات المضحكة في حالة الارتباك, والخوف من ضحكات الناس يعني
خوف من أن يكشف جنوننا في تلك اللحظات, هذا إذن هو خلل عقلي بسبب ضغط نفسي, فالعقل
ليس منفصل عن النفس, فالعقل هو مخزن المعلومات التي تهم الشعور وليس آلة منفصلة. و
كل شخص انتَقد أداءه أثناء مقابلة شخصية لوظيفة أو جامعة, وندم بعد المقابلة أنه
قال أو لم يقل مع أنه كان يعرف. ولهذا نتائج الطلاب تختلف حسب توترهم النفسي في
الامتحان أكثر من الأسباب الأخرى.
الرهاب الاجتماعي من نتائج هذا الشيء, أن تكون أمام أناس لا تدري كيف
سيقيمونك, وكل يلاحظ من جانب لا تستطيع تحديده, وكأنك بمشرحة والجميع يستعرضك!
حين يتعرض الشخص
لضغط نفسي كبير ومستمر يبدأ الشعور يبحث عن مهارب, كأن يهرب للخيال عن الواقع. مثل
شخص كان يعيش بشكل عادي ولكن تعرض لحادث وأصيب بتشوهات في وجهه وأصبح يتحسس من
نظرات أصدقائه و زملائه في العمل وشكل هذا ضغطا مستمرا عليه, وتدريجيا أصبح شخص
انطوائي ومنعزل عن الناس و يعيش في الخيال. الشعور إيجابي, وكون الشخص يعيش في
حالة كبت فسيبحث الشعور عن مخرج و بديل, ومن هنا تأتي حالة الفصام إذا لم يجد
مخرجا سليما, فيعيش وكأنه بعالم آخر, و لو كان الفصام حالة مرضية في المخ لما صار
الشخص يرجع للواقع, ولكنه يرجع للواقع, وهذا دليل أنه في حالة هرب, و تجد مريض
الفصام ليس عنده قابلية للناس ولا يستمتع بوجودهم بل بعضهم حريص ألا يراهم, وكأنه
يقول الناس ليس فيهم خير, و ممكن يكون جالس ويتكلم مع نفسه ويضحك مع نفسه, فينفصل
عن واقعه إلى درجة أن بعضهم لا يشعر بتقلبات الجو ولا يهتم للبرد و الحر, ولا
يراعي المجتمع وشروطه, فهي كأنها حالة راحة وتخدر من معاناة, فلا يهتمون بملابسهم وهذا
تبع الراحة والتحرر من القيود, لكنه لا ينسى حاجاته الضرورية ويكون واقعي إذا
احتاجها.
الإنسان لا
يستطيع أن يتحمل الكبت والضغط الشعوري المؤلم لوقت طويل, فلا يمكن أن تتحمل ضغط
مستمر و متواصل, فأكثر منظر مرعب هو أن تكون في مأزق و لا تستطيع أن تعمل حياله شيئا,
تخيل أنك تحت أنقاض مبنى لا سمح الله وأنت حي ولا تستطيع أن تتحرك وليس حولك أحد,
هذه أبشع صورة, في مثل هذه الحالات سينفجر الشعور, وهذا يذكرنا بالمعاناة التي
مروا بها معاناة اللا مخرج الخانقة, وتذكرنا بالمعاناة التي مر بها المنتحر قبل
انتحاره. فيبدو أن المصابين بالفصام هم مروا بظروف يائسة لم يجدوا مخرجا فاتجه
الشعور لمخرج جديد خارج نطاق المجتمع, فمادام أنه لا مخرج من خلال المجتمع فيبحثون
عن مخرج خارجه. لكن ربما يسأل أحد لماذا السجناء لم يصابوا بأمراض عقلية ماداموا
يعيشون بمكان مغلق؟ ولكن السجناء ليسوا كلهم يعيشون تحت ضغط, وأيضا السجن عند
بعضهم هو راحة من الاحتكاك بالمجتمع, وبعضهم يعيش على أمل الخروج, هذا غير
الزيارات وغير أن معه أحد في السجن, مع أ، بعضهم أصيبوا بأمراض نفسية وعقلية. لكن
المشكلة حين تكون سجين وأنت خارج السجن, فالسجين عنده أمل للخروج لكن أن تكون سجين
في سجن الذات هنا المشكلة.
يبدو أن هذه
المشاكل العقلية تأتي بسبب مواقف تكون فوق قدرة الإنسان على عمل أي شيء, في هذه
الحالة لا بد من مخارج, كثير من مرضى الفصام نعرف لهم أسباب من بعدها أصيبوا بالفصام.
ويبدو أن الهرب للخيال يتحول إلى إدمان وحالة من الاستئناس بالذات, فيبدو أن
الشيزوفرينيا بدايتها مزاج وتدريجيا تتحول إلى عادة, فيتعود أن لا يقابل الناس
ويجلس لوحده ويكون هذا برنامجه اليومي, وأحد علامات الشيزوفرينيا أنه لا يجلس إلا بمكان
واحد, لماذا؟ حياة التغير والتنقل هي التي سبت له التعب فيبحث عن استقرار و أمان
فيجلس بنفس المكان الذي استأمن به في الجلسة السابقة ولا يجد دافعية للتغيير, يجلس
بعضهم ساعات طويلة بنفس البقعة كل يوم, هذا يدل على خوف ورغبة في مكان آمن ومألوف
يستقر فيه. و مثل هذه الحالة مرت بنا كلنا بشكل بسيط و أولي بعد أن تعرضنا لضغوط
شديدة, البحث عن مكان آمن وهادئ بعيد عن الناس والهرب للخيال, والبعض يهرب بالجلوس
في مكان واحد وإدمان متابعة الأفلام والمسلسلات لساعات طويلة وهذه من صور الشيزوفرينيا,
أو إدمان ألعاب الفيديو أو إدمان أحلام اليقظة.
في أعراض الفصام
يذكر علماء النفس الحالات المتطرفة والنتائج النهائية للفصام ولا يذكرون بدايتها, وحين
يتكلمون عن البدايات والأسباب يحيلون إلى أشياء مجهولة ككيمياء و فيزياء الدماغ أو
الوراثة وغيرها, مع أن بداياتها أو صورها البسيطة موجودة عند الجميع, والمرضى هم
أناس تطرفوا بهذه المهارب الموجودة عند الجميع, وليسوا مصابين بمرض غريب ليس له
أساس عند الناس العاديين.
كون الشخص يُجن
بعد مروره بظرف أو ظروف قاسية شيء معروف عند ثقافة الشعوب, مثل قصة المرأة في
رواية ديفد كوبرفيلد التي جنت بعد أن تخلى عنها زوجها في يوم زفافها, فشيء معروف
أن الجنون يأتي بعد صدمة أو بعد حالات الخوف المفاجئ, لماذا بعد حادثة صار مجنونا؟
لو كانت المسألة تركيبة فيزيائية أو كيميائية في الدماغ لكان مجنونا منذ ولد وليس
بعد موقف, فلم يأتي مؤثر خارجي على فيزياء المخ, وإن وُجد تغير كيميائي أو فيزيائي
فهو نتيجة وليس سبب. المصابون باختلال عقلي هم مروا بمواقف أليمة ولكننا لا ندري
عنهم. و قد تكون الصدمة خارجية وقد تكون الصدمة داخلية أو سرية لا يعرفها الآخرون.
كل المصابين
بالفصام لديهم حساسية مفرطة أو حرص مفرط في الأساس وهربوا منها لشيء آخر, فصاروا
مثلا ينعزلون عن الناس ولا يثقون بهم وصارت الهلاوس كأنها إدمان يجأ إليها لكي يرتاح.
و لاحظ أن المصابين بالفصام كلهم عندهم خوف من الناس, وهذا شيء طبيعي فالناس هم
سبب المشكلة. والأصوات التي يسمعونها نسمعها نحن وليس فقط هم, فالشيطان يأتينا
كلنا, أليس يأتينا أحيانا وكأنه أحد يوصل لعقولنا كلام قبيح نكرهه ولكن بدون صوت؟
ولسنا نحن من قاله, أو أوامر بأن نفعل شيئا لا نريده كأن نضرب أحدا أو نخرب شيئا,
مع أننا لا نريد فعل هذا ولا نحب ولا أن نفكر فيه. قال تعالى: {كما يقوم الذي
يتخبطه الشيطان من المس} هذا هو المس وليس أن الشيطان يدخل بداخل جسمنا, فالمس من
الملامسة وليس من الدخول, فالمس يكون من خارج الشخص وليس من داخله, فمن يمسُّك
يكون خارج عنك. الشيطان يستغل وضعهم الكئيب وجنوحهم للخيال فيلقي فيهم ما يريده من
الأفكار و الصور ويخوفهم. معرفة الله والعبودية له تقطع هذه المشكلة, وهي خير علاج
لكل داء.
هذا غير أن الحكم
على الشخص بالمرض العقلي يزيد المشكلة سوءا ولا يخففها, لأن هذا يفقد الثقة
بالعقل وإذا فقدت الثقة بالعقل صار الإنسان بلا عقل, وما بعد العقل إلا الجنون,
وإذا سكت صوت العقل ارتفع صوت الوسوسة.
لاحظ أن الأطفال
لا يصابون بالفصام بل يصيب البالغين, و نسبته عند الذكور أكبر من الإناث, وأكثر حدوثه بين العشرين
والأربعين من العمر, وهذا شيء طبيعي فهذه المرحلة هي الأكثر ضغوط.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق