الثقافة في اللغة هي ما يُثقَف، أي
يوجد ويؤخذ، قال تعالى (حيث ثقفتموهم) ، وتعني ايضا الإصلاح والتهذيب ، مثلما قال
عنترة :
ومدججٍ كره الكماةُ نزاله .. لا
ممعنٌ هربا ولا مستسلم ..
جادت يداي له بعاجل طعنة .. بمثقّف
صَدقُ الكَعوب مقوّم ..
أي ان رمحه مهذّب ومنعّم ومزالة
شوائبه عنه، أي مثقّف . فأخذ المعرفة اذن يُنتج التهذيب أي التغيير، سواء للأفضل
أو الاسوأ ، حسب المأخوذ ، وهنا نفهم فائدة الثقافة، أي التغيير والتحسين ..
والثقافة أشمل من العلم، فقد يكون
في ثقافتنا الشخصية او الجماعية معلومات غير علمية، ربما غير حقيقية. والثقافة
حالة جماعية و حالة فردية، و قد يتجاوز الفرد مجتمعه بثقافته الشخصية. فقد نجد
شخصا مثقفا في بيئة بدوية اكثر من شخص في بيئة متحضرة .. على العكس من الحضارة
التي لا تكون الا في حالة جماعية، فيصح أن نقول شخص مثقف ولو كانت بيئته متخلفة
حضاريا، لكن لا يصح أن نقول شخص متحضر اذا كانت بيئته متخلفة، بل نسميه مثقفا
حينها .. لأنه سيكون شاربا من حضارة او ثقافة اخرى.
الثقافة تنتج التفكير، فالمفكر يفكر
من خلال ثقافته، وكلما زادت الثقافة كلما زادت القدرة على التفكير، بشرط الا تكون
متناقضة، لأنها تشل التفكير بسبب التصادم .. وحسب تأسيس الثقافة تكون جودة
التفكير. اذن المفكر درجة ارقى من المثقف أو نتيجة للثقافة. وغالبا المفكر يدور
حول ثقافته. اما الفيلسوف فهو لا يكتفي بثقافة بيئته او عصره، بل ينطلق الى
الاساسيات والكونيات والثقافات الاخرى. و كل امة لها ثقافة حتى لو كانت بدوية، بل
لكل امة في فترة من فترات تاريخها مصادر ثقافية قد تزداد او تنقص مع الزمن تؤثر في
ثقافتهم، وبالتالي فثقافة أمتنا في هذا العصر لها مصادر ثقافية بعضها لم يكن موجود
قديما، الافضل ان تؤخذ في الاعتبار .. فالتأثير الغربي مثلا غير موجود في العصر
العباسي، بينما هو موجود في عصرنا بكثافة .. واللغة نفسها تتأثر بالعوامل الثقافية،
و لها مستويات، فهناك التراثية، وهناك اللغة العصرية المتأثرة بالثقافة الغربية.
ولهذا لم أفرد اللغة كمصدر مستقل لبناء الثقافة، لأنها تتأثر.
الثقافة دائما تحتاج الى فرز، سواء
الشخصية او الجماعية. البعض ينطلق من الثقافة على انها حقائق كاملة، وهذا نسميه
المثقف الحاوي أو مثقف الوعاء ولا نسميه المثقف المفكر، لأنه يأخذ الجمل بما حمل
ويصدق كل ما ثقفه . فنجد عنده تصديق بحقائق علمية و تصديق بخرافات ، جنبا الى جنب،
وهذا أكثر شيء نعاني منه في زماننا هذا : ضعف الفرز الثقافي + التصادم الثقافي،
وكأن الأمة في حالة عبّ وشرب ، سواء من التراث او من الحداثة، وهذا ما يسبب لنا
تصادم القوى في داخلنا، والتي تسبب حالة التوقف والسكون،لأن التصادم يوقف الطاقة،
وكذلك نعاني من حالة التصادم بين ثقافة الفرد المثقف وثقافة المجتمع. وهذا في
الحقيقة سبب جمود الامة وضعفها في هذا العصر، لأن هذا التصادم والضبابية انتج ضعف
الرؤية وعدم وضوحها، وعدم وضوح الرؤية ينتج التوقف بلا شك، والتوقف يجعل الغير
يتحرك، لهذا الأمة في حالة دفاع وارتباك وضعف قدرة على التقييم، بل حتى في معرفة
الموقع من الإعراب، عكس ما كانت عليه امتنا في عصورها الذهبية، عندما كانت ترى
بوضوح اكثر وكانت ترى نفسها قائدة للعالم.
و على سبيل الاجمال نقول أن لثقافتنا مصدرين هما :
التراثي ، والغربي ..
واذا شئنا التفصيل، سنقول أن العامل الاول : القبيلة ، كعمق قومي ،
لها افرازاتها المؤثرة في ثقافتنا حتى الآن. وإليها يرجع سيادة الوضع الدكتاتوري
في الامة ، ليس سياسيا فقط ، بل حتى اجتماعيا، بناء على شيخ القبيلة الذي يُحترم
لمكانته وسنه واصالته، بغض النظر عن الاخطاء التي قد يقع فيها، فمن افرازاتها أن
يكون الموظف أهم من الوظيفة، أو ان الوظيفة هي الشخص نفسه، وكأن زوال الموظف هو
زوال الوظيفة، بينما في الثقافة الغربية الوظيفة كيان مستقل والموظف طارئ عليها .
لهذا من الكلمات الشائعة عربيا ان يقول مدير او ناظر المدرسة (مدرستي) والوزير
(وزارتي) وهكذا ..
وكذلك يكون الوطن هو الحاكم او
الطبقة الحاكمة، مثل ما كانت رمزية شيخ القبيلة. وتأثير روح القبيلة انتج ضعف شعور
الانتماء للوطن الجغرافي ، لأن القبيلة ليس لها وطن جغرافي، فقد كانت متنقلة .. وكذلك
انتشار المحسوبية والواسطة في ثقافتنا العربية، لأن الوظيفة هي الشخص، والشخص على
قدر ما تدلي عليه يجب أن يخدمك، ولو على حساب النظام، كما كان شيخ القبيلة يلحقه
العار اذا التجأ به أحد أفراد القبيلة ولم يساعده. لذلك تعاني امتنا من ضعف احترام
النظام على حساب العلاقات الاجتماعية والمصالح الشخصية ..
ومن تأثيراتها : خلق الكرم ، اكرام
الضيف ، والنجدة وقوة تأثير من يلتجئ بك ويطلبك شخصيا لخدمته. ومن تأثيراتها :
الاهتمام بالمصلحة الخاصة على مصالح الامة، لأن القبيلة هي الوطن، وشيخ القبيلة هو
رمز القبيلة.
ومن تاثيراتها ايضا : احترام السن
المبالغ فيه ، حتى لو أخطأ من هو اكبر سنا أو مكانة، فلا يليق انتقاده، لأن شيخ
القبيلة غالبا يكون هو الاكبر سنا. (لاحظ كلمة "شيخ" وهي في الاصل لكبير
السن، ودخلت هذه الروح الى الدين نفسه، فيسمى العالِم شيخا، والعالم الاكبر سنا أكبر
تأثيرا واحتراما، وكذلك الاثرياء قد يُسمَّون شيوخا) . و نجد في المجالس العربية
عادة كبار السن والمكانة يتكلمون والبقية عليهم ان يسمعوا ويقبلوا رؤوسهم ..
كذلك قضية الاهتمام بالانساب
والعراقة واجتماعها مع الأحساب، فتكمل الوجاهة بالنسب + الحسب + العراقة والقدم،
وليس بالأعمال نفسها بحد ذاتها . فكل قديم يأخذ قيمة العراقة. فكل شيء قديم في
مجال يعتبر ذو مكانة عالية، حتى لو لم يكن بتلك الجودة.
العامل الثاني : عامل الدين التراثي
(المذهبي) . لأن تأثير الدين الخالص الحقيقي قليل .. والاصل الأخلاقي ينقسم على
عامل القبيلة وعامل الدين وعامل الثقافة الاجنبية ..
العامل الثالث المؤثر في حضارتنا :
عامل الحضارة الغربية في هذا الزمن، بدءا من الاستعمار ومرورا بالبعثات
والمستشرقين والتجارة و وسائل الاعلام والترجمة الخ .. أي عادات الغربيين
وتقاليدهم ورموزهم وميثولوجياتهم واعيادهم وفنونهم وأفلامهم الخ ..
العامل الرابع : التراث القومي ،
بما فيه من لغة وتاريخ وحروب وأداب وفنون وميثولوجيا الخ ..
العامل الخامس : العلم الحديث
والمناهج العلمية الحديثة، فصار الشخص يستطيع ان يغير من افكار من هم حوله اذا قال
: اثبتت الدراسات العلمية في معهد في الصين –مثلا - ان هذا الشيء ضار بالصحة ، أو
اثبتت الإحصاءات كذا، بما في ذلك النظريات العلمية . وأنبه هنا أن العلم ليس حكرا
على الثقافة الغربية، لهذا اعتبرته رافدا مستقلا .
العامل السادس : الثقافة التوفيقية
بين التراث والحداثة ، اذ نجد شغفا إليها لفك التصادم الثقافي بين التراث
والحداثة، ولهذا كثر الوسطيون والتوفيقيون ومن يريدون دمج الثقافة الغربية
بثقافتنا العربية الاسلامية وعملهم منصب على فض التنازع بين التراث والحداثة
والخروج بحل وسط بينهما، وهؤلاء نجدهم يزدادون يوما بعد يوم بداية من رفاعة
الطهطاوي ومحمد عبده وبعض مشائخ الازهر وبعض مشائخ الصحوة.
هذه وجهة نظري على كل حال ، قد اكون
مخطئا او مصيبا في توصيف مصادر ثقافتنا في الوطن العربي في هذا العصر، لكن لا توجد ثقافة لم تتأثر بثقافة
اخرى ، فالبشر في تاثر وتأثير منذ القدم، وكذلك الاخلاق تتأثر وكذلك اللغة، فليست
كيانات مستقلة .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق