الأحد، 18 ديسمبر 2011

التقليد و التفكير ..


الذي جعل العرب لا يميلون الى التفكير ولا يبدعون في هذا العصر هو محنة النموذج الغربي الجاهز ، والذي يحتاج فقط إلى التقليد .. ولكن التقليد لا يخلق التفكير ولا الابداع ، و صار الصراع هو على هذا التقليد و ما معوقات التقليد الغربي .. و كيف نقلد باسرع وقت ! الشخص إما أن يكون مقلدا أو مفكرا, والأمة كذلك إما مقلدة أو مفكرة, لأن التقليد ينافي التفكير, والتفكير يبعِد عن التقليد.

تصوروا امة يـُطلب منها التقليد ولا يطلب منها التفكير ! فكيف سينشأ التفكير فيها؟ بل يـُحارَب التفكير بتهمة رفض النموذج الجاهز, سواء كان تراثيا أو ليبراليا مستوردا , بحيث تلتقي التقدمية مع الرجعية في كبت العقل, والأكثر اعتدالا -على حسب قولهم - يقدمون نموذجا توفيقيا -أو تلفيقيا إن شئت- ، فيأخذ من هذا الصندوق ومن ذاك الصندوق ليقدم صندوقا ثالثا للأفكار المعلبة, سواء في الأدب أو في السياسة أو في الاقتصاد او في الفن أو في الدين أو في الاجتماع...إلخ, و كلنا يعرف هذه الصناديق الثلاثة التي لا رابع لها مع الأسف , و هي صناديق العقل العربي المعلب المعاصر .. بضاعة تختلف مصادرها بين المحلي الخالص والمستورد الخالص و المركب من الاثنين, و المدارس الأدبية في الأدب العربي و في العصر الحديث تقدم صورة واضحة لهذه الصناديق الثلاثة - لأن الأدب صورة لواقع أي أمة -  فمدرسة الإحياء و مدرسة التغريب و مدرسة توفيقية .. وهكذا في كل مجال , وما سوى هذه الصور الثلاث يعتبر تجديفا وليس تفكيرا , وتتآزر هذه القوى الثلاث على وأده ! كلٌ يقدم نموذجا جاهزا, على اعتبار ان ذلك النموذج كامل وغير قابل للنقاش ولا مراء في جودته. 

التقليد التقليد ، و سرعة التقليد .. و كل من اراد ان يناقش او يفكر فهو داعية للتخلف ، فالتفكير تخلف والتقليد ليس بتخلف!!


العلم والتكنولوجيا لا تنطبق عليهما كلمة تقليد ؛ لأن العلم واحد ، و أي مكتسب علمي هو مكتسب بشري ، و هو ليس خاص بثقافة دون أخرى . و الحضارة و علومها بنتها البشرية جميعاً .

المقصود بالتقليد إذا هو التقليد في غير الأمور العلمية والصناعية التكنولوجية : لماذا التقليد فيها ؟ أقصد العادات والتقاليد والنظرة الى الحياة والإنسان والمجتمع واللباس والأكل وطريقة العادات والعلاقات ونمط الحياة والدين .

و فكرة أنه لكي تحصل على المنتَج (بفتح التاء) ، فلا بد أن تقبل المنتِج (بكسر التاء) فكرة خاطئة ، فالغرب أنفسهم أخذوا المنتَج (بالفتح) من الشعوب الأخرى ولم يأخذوا المنتِج (بالكسر) ، فليست الحضارة الغربية هي نهاية التاريخ حتى نكون ملزمين بها . الإنسانية في تطور مستمر , و  قد تتجاوز الإنسانية النمط الغربي في يوم من الأيام إلى نمط أفضل .

العالم العربي مليء بمقلدي الغرب في حياتهم و أسلوب تفكيرهم ، لكننا لم نجدهم وصلوا السماء بعلومهم و تطورهم التكنولوجي . بينما نجد الأكثر نجاحا هم الأكثر جدية في عملهم ، حتى لو كانوا من المحافظين والتقليديين .. فالعلم إذا اعطيته كلك أعطاك بعضه ، و لا يسأل عن انتماءاتك الفكرية .. بل إن نسبة التفوق والنجاح  لا نجدها في صالح المتحررين والليبراليين ، و هذا دليل عندنا بين ظهرانينا – و يستطيع اي شخص أن يجمع الشواهد من مجتمعه المحيط به - ؛ لأن الليبرالية انفلات ، والنجاح يحتاج الى انضباط .

الغرب يروج لثقافته من خلال هذه الفكرة ، فكرة أن من أراد أن يكون مثل الغرب في تقدمه المادي ، فعليه أن يكون مثله في حياته الاجتماعية والمعنوية ، على مبدأ ( خذني بالكامل أو اتركني بالكامل ) ، وهو شرط بلا مبرر إلا رغبتهم في تسويق أفكارهم الاجتماعية والخلقية - الممجوجة من قبل الشعوب الأخرى - على متن قطار العلم والتكنولوجيا ، فالكيمياء مثلا لا علاقة له بأيدلوجية من يجري التجربة : هل هو مسلم أم ملحد أو أفريقي أو صيني أو أمريكي  ، وليست له علاقة بنظرته للمجتمع و هل هو يهتم بالموضة و الهوايات الغربية أم لا .. وهل يؤمن بالمساواة بين الجنسين أو لا حتى تنجح التجربة ..

قوانين الميكانيكا لا تسأل هل أنت متابع لأفلام هوليوود أم لا ..  فالعلم له قوانين ، من احترمها فسوف يستفيد من العلم ، من خلال التكنولوجيا و العلوم التطبيقية . إذا ً أخذ ُ العلم لا يسمى تقليدا ، لأنه إذا كان هذا العلم و لم أكن مقلداً لمن سبقني فيه ، فهل سوف اكتشف علما جديدا مع أن العلم واحد ؟!! إذا اكتشف العلم أن الأنسولين تفرزه غدة البنكرياس مثلا ، فهل أرفض هذا العلم و أبحث عن غدة أخرى غيره تفرز الأنسولين ؟! إنها هي الوحيدة المختصة بإنتاج الأنسولين في الجسم ..

والحضارات منذ القدم تتلاقح ويأخذ بعضها من بعض ، فلماذا هذه الحضارة الغربية المغرورة تطالب الحضارات الأخرى بأن تأخذها بالكامل ؟! وهذا ما لم يحدث في تاريخ الحضارات ..

كأن الإعلام الغربي يأخذ مجهود الجادين و ينسبه الى الهازلين . بينما نرى الجادين  والصابرين يتميزون و يحصلون على النجاح في كل مكان ، وليس في الغرب فقط ، و هذا عبر التاريخ .

الإبداع العلمي يحتاج الى الثقة بالنفس والتشجيع ، وليس الى الإنفلات الأخلاقي الذي ينتج الإدمان والأمراض النفسية ولا ينتج الإبداع .

إذا فكرة أخذ الحضارة بالكامل أو تركها بالكامل هي فكرة خاطئة بالكامل .

لا زلنا في الموضوع نفسه وهو التقليد ، فالتقليد على مبدأ : ليس بالإمكان أفضل مما كان ، أو على مبدأ : الحضارة الغربية هي نهاية التاريخ ، و الصورة التي تقدّم عن العرب والمسلمين في الماضي مع أن فيها صحة جزئية ، إلا أنها صورة قاتمة ، و ليست قاعدة عامة ، فليس كل إبداع يُحارب لأنه إبداع ..

نعم كانت السياسة تتدخل أحيانا و تشوّه بعض المبدعين ، لكن إذا لم يكن لها علاقة أو استفادة من المبدعين فإنها تشجعهم .. فقد كان الأمراء والخلفاء هم أكبر الحوافز للعلماء والمبدعين و الكتاب ، و بلاطاتهم تعج بالمثقفين والعلماء .. و كان الكثير من الكتاب يهدون كتبهم الى الأمراء والخلفاء . فالأرستقراطية كانت تدعم الإبداع ، و هذا ما حصل في عصر النهضة في اوروبا ، و في الخلافتين العباسية و الأموية ..

من وجهة نظري ليست سبب أزمة الابداع عندنا هو القمع على طول الخط ، فهذه مبالغة لا شك ، في الماضي والحاضر .. لا أتوقع أن أحدا سيقف في طريق من سيبدع في مجال علمي أو أدبي أو تكنولوجي ؛ لأنه سيخدم الجميع ، بمن فيهم القامعين ، بل و تسجل له براءة اختراع إذا كان مخترعا ..

المشكلة نفسية ، و هي الشعور بالنقص ، و فكرة أن الغرب أبدعوا وانتهى الأمر ، بل و فكرة أنه لا يمكن أن يبدع أحد إلا في تلك البلاد ، إذا تغيرت هذه الأفكار فسوف يكثر الإبداع في كل المجالات .

وهناك قمع أشد من أي قمع ، و هو قمع المجتمع ، الذي يحبط و يثبط ويسخر من الموهوبين ، معتمدا على النموذج الأجنبي .. و هذا الموقف السلبي من الإبداع الذي يقدمه المجتمع ، هو نتيجة لانهزامه النفسي أمام المجتمع الغربي ، الذي لا يكاد أن يرى حتى عيوب ذلك المجتمع .. و غاية آمال مجتمعاتنا ان تكون مثل مجتمعات الغرب ، ومن سار إلى الغرب وصل .. و كل الطرق تؤدي إلى روما .. مع ان المفترض ان المجتمعات تسعى الى المثالية ، لا إلى مجتمع يرفض المثالية علنا ، ويستبدلها بالعلمانية والواقعية ..

إذا كيف يصوّر المجتمع الغربي بأنه مجتمع مثالي ؟ وهو يرفض ان تحكمه الاخلاق ؟ بل يريد ان يحكمها هو ! بل ويرفض القيم كلها ، ولا قيمة عنده الا للسوق والواقع .. هل هذا المجتمع يصلح قدوة ؟ لن يكون قدوة الا لمن يفكر مثله فقط .. وحينها لا يحق له ان يدعي البحث عن الوضع المثالي ..

العلم مكتسب بشري يشارك فيه الجميع ، إذا على الغرب من مبدأ أن الإبداع يكون بعد الوصول لمكتسبات الغرب ، أن يتخلى عن صفرنا و ورقنا و يخترعوها من جديد !! وهذا كلام غير معقول ، التقليد الذي اقصده هو التقليد الاجتماعي والفكري ، أما العلم فلا تقليد فيه ، و تتناقله الحضارات والأمم كحق للجميع . والغرب قلدوا فيه غيرهم و يقلدهم غيرهم فيما اكتشفوه من العلم ، والعلم أصلا لا تقليد فيه ..

التقليد فيما تكون فيه خيارات ، و العلم خيار واحد . و إذا عرف أحد من البشر شيئا فهو ملك لبقية البشر و ليس ملك له ، لأن الله هو الذي علم من خلال الطبيعة التي خلقها هو ، والغرب لم يخلق طبيعة جديدة حتى يستقلوا بها وبعلومها .

هناك تعليقان (2) :