الجمعة، 9 ديسمبر 2011

الإدعاء المقبول والإدعاء العريض ..


في حالة اثبات عدم الوجود (عدم وجود سم في الطعام – عدم وجود اله و خالق للكون – عدم وجود كلمة محددة في نص محدد ) ، فإنه يجب الإحاطة بكل أجزاء الشيء لكي يتم الإقرار بعدم الوجود فيه . فمثلا مجموعة اشخاص تبحث من بينهم عن شخص اسمه سالم ، فيجب ان تعرف اسمائهم كلهم لتقول ان هذه المجموعة لا يوجد بينهم شخص يدعى سالم .

لا يحق الادعاء بعدم الوجود إلا لمن احاط بالوجود ، وإلا فالإدعاء باطل . (قانون) ، وتـُقـَدّم الإحاطة بالوجود مرفقة بالإدعاء معاً . و هذه القاعدة ملازمة لكل من ادعى عدم وجود ، اذاً ادعاء عدم وجود اله ، وبدون حصر لكل الوجود ، في هذا الكون او غيره ، يعتبر ادعاء لا قيمة له وغير منطقي ولا علمي . وهذه اسميها مغالطة (الإدعاء العريض) .. العاقل لا يصدر مثل هذه الادعاءات ؛ لانه يعلم أنه سيـُطالـَب بالاحاطة ، وحينها تكون كلمة : لا ادري بوجود من عدمه ، اعقل من كلمة : لا يوجد .

وأي انسان صاحب عقلية علمية لا يلجأ إلى الادعاء العريض ، في الوقت الذي نرى فيه الملاحدة يدعون العلمية ، ويدعون عدم وجود اله !! الادعاء العريض و العلمية على طرفي نقيض ، وهذا في اي موضوع : فكلما ادعيت عدم وجود ، مع عدم احاطتك بالوجود ، فأنت واقع في مغالطة الادعاء العريض كما اسميها .

بينما ادعاء "الوجود" لا يحتاج منك الاحاطة الكاملة بكل الموجودات ، اي أنك لست محتاجا لغير ذلك الموجود لكي تثبت وجوده ، وبالتالي انت لست محتاجا للاحاطة . وهذا اسميه الادعاء المقبول (أو : النظرية) . ومن هنا نجد ان اصحاب الاديان اقرب الى العقلانية من الملاحدة .

معرفة كل الوجود تقتضي الاجابة عن كل الاسئلة ، و ليس عن وجود الاله فقط ، وهذا ما لا يملكه الملاحدة ولا يدعونه . اذا هم واقعين في مغالطة عقلية جوهرية .

صاحب الادعاء المقبول يـُطالبه الناس بالادلة ، التي تشير الى وجود ذلك الموجود . اما مدعي العلم الكامل ، فإنه يـُطالب بالإثباتات الكاملة اليقينية ، بما فيها المشاهدة والتجربة . وهكذا يكون الإيمان من نوع الادعاء المقبول .. والعلم الثابت من نوع الادعاء العلمي اليقيني ، كالرياضيات .. والإلحاد من نوع الإدعاء العريض الغير مقبول منطقيا ، والخالي من الادلة ، لانه لا يملك ولا يقدم الإحاطة المسبقة بكل الموجودات قبل ادّعائه ، وبما أن هذا لم يتم ، إذا لا يقـُبل هذا الادعاء من الاساس في قوانين العقل . وهنا يموت الالحاد عقليا ..

نفي الوجود يحتاج الى حصر لكل الموجود المتعلق به . فإذا قلنا : لا يوجد اقلام في الدرج ، فنحتاج الى حصر كل شيء في الدرج . واذا قلنا : لا يوجد اقلام في المنزل ، فهنا توسـّع مجال الحصر ، و بدأنا الدخول في الإدعاء العريض . وإذا قلنا : لا يوجد في المدينة او البلد اقلام .. أوغلنا اكثر في الادعاء العريض . وإذا قلنا : لا يوجد قلم في العالم !! فهنا ثبت الجنون !!

لاحظ انه مع كل مرحلة من الادعاء العريض ، تقل القيمة العقلية للمدّعي ، فما بالك على من يحكم على كون ٍ لم تصل اليه عنه اي معلومة ! فإذا كنا قد ضحكنا على صاحب القلم و إدعاء عدم وجوده في البلد ، فماذا سنفعل مع من يدعي عدم وجود شيء في كون لا نهاية له ؟ و كل معرفتنا عنه لا تساوي هباءة في بحار من الجهل ؟؟!!


من يدعي الوجود يعتبر مدعي ، ومن يدعي عدم الوجود يسمى مدعي ايضا ، فهو لم يقل : لا ادري بوجود او عدمه ، بل ادعى عدم الوجود ..

و في كل تعاكس و تضاد في الراي ، هناك مدّعيان و ليس مدعي واحد .. نحن هنا نتكلم في المنطق والفلسفة ، وليس في اعتمادات القضاء في المحاكم و مصطلحاتها ..

اذا قلت مثلاً ان زيدا موجود في القاعة ، و صرخ زميلك قائلا : ابداً ! ان زيد غير موجود في القاعة ! فهل انت امام ادعاء واحد الآن ؟ أم أمام إدعائين ؟ و هل ستطالـَب أنت بالدليل وحدك بينما زميلك لا يُطالـَب بالدليل ؟ سيقال له ايضا : انه يدعي ان زيد غير موجود ، فما دليله ؟ هل لديه دليل ؟ كأن يكون مسافرا مثلا وهو يعرف انه مسافر ؟

ألا تشعر أن لكلاكما (المثبت و النافي) ادلة و منطقاً ؟ هكذا سيحس اي شخص يستمع اليكما .. و سوف يشعر انك تقر بوجوده على علم ، و ان زميلك الذي يدعي عدم وجوده على علم ايضا !! وإلا لما رفض و نفى وجوده !

النفي حكم ، والإثبات حكم ، هكذا المنطق .. و كل حـُكم يحتاج الى ادلة .. اما كلمة : لا ادري ، فهي ليست حكماً على الشيء ، لذلك لا يـُطالَب صاحبها بشيء ..

اذا الملحد و المؤمن : كلاهما مدعي .. و كلاهما يحتاج إلى أدلة .. و لو كانا في محكمة ، سيطالبهما القاضي كليهما بالادلة .. و سيقول القاضي لمنكر وجود زيد : ما ادلتك حينما نفيت انه في تلك الساعة لم يكن في القاعة ؟ وسيعامله معاملة المدعي ..

هذا مع العلم –  من الناحية الشكلية – أن الملحد هو في الحقيقة المدعي ، لأن كل البشر مؤمنين بوجود اله ، و منذ القدم ، إلا الملاحدة الذين ظهروا في نهاية القرن الثامن عشر فقط .. اذاً هم الذين شذوا عن الاجماع البشري ، و عليهم البينة و لم يقدموها ، كالعادة القضائية بأن على كل من شذ ّ عن الاصل و العرف ان يقدم دليلا .. حتى لو كان بالنفي ..

فلنفترض ان قبيلة ما اعتادت ان تسقي مواشيها من مورد بعيد عنها ، و جاء شخص ليقول : لا تذهبوا لذلك المورد ، فليس فيه ماء .. الآن هو ينفي وجود ذلك المورد ، و اخبرهم بأنه اندثر ولا وجود له .. الآن هو سيُعامل معاملة المدعي .. مع انه ينفي وجود .. و سيـُطالب بالادلة القوية لانه كسر المعتاد ، مع أنه ينفي ..

اذا نافي الوجود كمدعي الوجود : كلاهما مدعي . و هذا ما وقع للملاحدة ، فهم كسروا القاعدة البشرية العامة و شذوا عن شعوبهم بدون ادلة تثبت عدم وجود اله لا في الارض ولا في السماء ، و الذي اقتنعت به البشرية منذ وجودها ..

هذا ادعاء عريض بلا دليل يقدمه الملاحدة و يربطونه بادعاء آخر و هو ادعاء العقلانية .. و العقلانية تحتاج الى دليل .. واذا سألناهم : من اين جاء الكون ؟ قالوا : من لا شيء ! فهل هذا دليل يقبله العقل من شيء مصنوع و منظم بتعقيد منظم و ذكي و متوازن ، أن يكون بلا صانع ولا ارادة واعية ولا يحزنون؟ و اذا قلنا : من اين هذا التوازن والانسجام ؟ قالوا : من العشوائية ! فهل هذا شيء يقبله العقل ؟ العقل لم يعتد على مثل هذه الادعاءات ، و العقل يعرف ان العشوائية تنتج الفوضى ، والفوضى تضر بالتوازن والانسجام ، و يفسد بعضها على بعض .. فاين العقلانية ؟ ان هذا ضد العقلانية تماما ..

اذا نحن امام ادعائين يقدمهما الملاحدة بكل سهولة و ليس واحدا : الاول ادعاء عدم وجود اله ، و الثاني ادعاء العقلانية ، وما اسهل الادعاء بلا دليل ، خصوصا اذا كانت الآلة الإعلامية ضخمة و يدعمها راس المال المستفيد ..

الفكر الملحد يعتمد على انتقادات في الفهم والتطبيق للدين ليس الا .. اي يعتمد على نقد اجتماعي و ليس على نقد منطقي او فكري .. والنقد الاجتماعي لا قيمة له في الحوار الفلسفي ..

وفي الحديث عن القانون : لماذا بني القانون بهذا الشكل ؟
إن القانون يـُبنى على المتكرر والمعتاد ، والمعتاد هو الادعاء الايجابي و ليس النفي ، لأن المصالح هي التي تتحكم في الناس وتضطرهم الى القضاء .. فلا احد له مصلحة من ان يرفع دعوى بأن سيارتك ليست ملكك ! لكن له مصلحة أن يقول أن السيارة لي و ليست له .. فالقاضي ينظر مع من السيارة الآن او الارض ، على اعتبار انه غالبا يكون هو الاصل ، و يطالب المدعي ببينة ، تسهيلا للقضاء وحتى لا يدخل القاضي في عمل مضاعف ، وهو اثبات ادلة مدعي الايجاب ، و اثبات ادلة مدعي السلب ..

ولكن لا شأن للقانون بالفلسفة .. فالقانون يعتمد على المتكرر والمعتاد والاعراف في حياة الناس .. القانون يريد ان يتخلص من المشاكل قدر الامكان ، و لا يريد الغوص في اعماقها واعماق المنطق .. وإلا لاحتاجت المحكمة لأن تكون بحجمها عشرة اضعاف .. ! لاحظ التمليك مثلا ، ستجد ان الذي يحكم فيه ، هو الاعراف السائدة ، ربما يدعي على الارض اكثر من مدعي .. لاحظ ان الصهاينة يدعون ملكية فلسطين ، لانهم سكنوها قبل الفين سنة ! والفلسطينيين قائمون عليها وهي بلدهم !

اسرائيل تجعل فلسطين في خانة المدعي ، والعرب يجعلون اسرائيل في خانة المدعي .. وكل يقول : على المدعي البينة !! و في كل قضية فإن كل طرف يريد ان يجعل الآخر هو المدعي .. لصعوبة الاثبات القطعي ..

اذا حشر القانون بقضية منطقية و فلسفية يعتبر حشرا اضطراريا من باب الاستعانة بالواقع مقابل الفكر ، وعرفنا ان القانون لا يستطيع ان يطبق المنطق بحذافيره طلبا للتخفيف واعتبار الوضع القائم دائما .. اذا لا يحسن ان تتم الاستعانة بالقانون والقضاء في قضايا فكرية فلسفية المجال فيها مفتوح للتفكير والمنطق ، وليس هناك خصوم ولا ملاجّات ولا مصالح متضررة ..

افرض ان القاضي ينظر للنفي والاثبات على انهما ادعاءات .. هنا سوف تتضرر المصالح ، فإذا كانت مزرعة منتجة و صاحبها يديرها والناس يستفيدون منها ، وكل يوم يخرج عليه مدعي بلا دليل ،  فمن غير الصالح ان يوقـَف العمل في المزرعة ويتضرر العمال والمستهلكين والاقتصاد حتى يُنظر في ادلة المدعين والنافي !!

لهذا يجعل القاضي الامور على وضعها القائم حتى يثبت المدعي بنفسه دون ان يـُشغِل المُدعى عليه ، لأن المُدعى عليه ينتِج ، والمدَّعي غير منتج .. بالنسبة للشيء المدعى عليه (المزرعة) .. و العادة جرت ان من يضع يده على الشيء ففي العادة انه له ، حتى ياتي احد بادلة دامغة تكفي لان ترفع يده عن هذا الشيء .. والا لكثرت الادعاءات وتعطلت الحياة .. حتى لو لم تكن ادلة صاحب المزرعة قوية و دامغة ، والا للزم على القضاء ان يعيد النظر في كل الملكيات القائمة ، بدلا من ان ينتظر حتى ياتي مدعي ..

ان القضاء ليس هدفه تطبيق المنطق .. والمحاكم ليست مؤسسة تبحث عن الاخطاء لتصححها ، المحكمة تنظر الى الادعاءات التي تردها فقط ، فهي لا تبحث عن الاخطاء حتى تصححها ، فهي فقط تريد ان ترضي المدعي إذا كان صاحب حق ، وإلا فتبقى الامور كما هي ..

اذا المحكمة ليست مرجعا للمنطق ولا مؤسسة توثيق حقائق .. و ربَّ احد يضع يده على ارض او عقار وهو ليس له ، ولكن لم يدعي عليه احد .. فيستمر على حاله .. فالمحكمة لا تبحث عن المشاكل ، بل تكافحها اذا وصلت ..

اما التفكير الحر فهو بعيد عن كل هذه المشاكل ..و المفكر الحر ليس مثل القاضي في المحكمة ، لان القاضي مربوط باضرار و مصالح كثيرة .. هناك فرق كبير بين المنطق والفلسفة و بين القانون والقضاء .. و المفكر الحر لا يعتمد على القضاء في تفكيره  .. و يلجأ إلى القضاء من هو عاجز عن اخذ حقه ..

اذا القضاء ياخذ من المنطق بقدر ما يتناسب مع مصالح اخرى ، ولا يطبق المنطق كاملا ، بل سيكون ذلك امرا صعبا .. المنطق لا يعترف بالاعراف ، و القضاء يعترف بها .. اذا يجب ان نفرق بين القضاء المعتاد و بين المنطق الحر .. فإذا تناقشنا في المنطق ، لا يصلح ان نحشر القضاء ، و نقدمه على انه تطبيق كامل للمنطق ..

مع العلم ان حشر القانون ليس في صالح الملاحدة في ادعائهم ؛ لان الملاحدة اقلية طارئة خالفوا الوضع القائم منذ الازل .. فعليهم البينة ، و لو كنا في محكمة ، لطالب القاضي الملحد بالادلة كما يفعل في اي قضية .. فالقليل والطارئ هو المدعي من وجهة نظر القانون ، و ليس من وجهة نظر المنطق ، لأن كلاهما مدعي .. فهل وضحت الصورة و وضح اللبس ؟؟

الواقع ليس منطقيا 100% ، لهذا لا يصلح الاستشهاد به في اي قضية منطقية ..

هناك تعليقان (2) :

  1. ماشاء الله عليك اخي الوراق ,, بدأت اتابع كتاباتك سيدي

    ردحذف
  2. شكرا جزيلا لتعليقك عزيزي ..

    ردحذف