الجمعة، 23 ديسمبر 2011

أسبقية الشعور على العقل ..


محمد عبدالرزاق عمران :
... .. والآن أستسمح الجميع في أن أطرح سؤآلا أو أكثر وآمل أن أكون محقا في أحدها على الأقل .. يقول الإقتباس ( هذا الكفاح الطويل للشعور الإنساني غايته هي الفضيلة ، لكي يوصلها كأمانة إلى رب الفضيلة عندما يموت الإنسان الذي حملها ، وهذه المهمة ينيطُ بها الشعور للعقل . ) هذه العبارة جميلة بالفعل ولكنها تفترض أسبقية الشعور على العقل .. وهنا تطرح مسألة أسبقية الدجاجة أم البيضة نفسها .. أعني أيهما يسبق الآخر الشعور أم العقل ؟ وهل يمكننا بدون أسبقية العقل أن نميز الشعور ونفسره ونحلله ؟ أسلم تماما بأن الحيوان يشعر ذلك أمر بديهي ولكن كيف يفسر الحيوان مشاعره ؟ وهل يمكنه بلا العقل التفرقة بين اللذة والألم ؟ أو بين الفضيلة والرذيلة ؟ ما أراه هو أن العقل سابق على الشعور فهو الذي يوازن ويقيم ويختار بين الفضيلة والرذيلة ومن ثم يشعر لاحقا على المستوى النفسي بلذة الفضيلة أوألم الرذيلة .. وفيما عدا ذلك فهو إما اللاعقل الذي يميز الحيوان أو الجنون الذي يميز فاقد العقل من البشر .. وكلاهما لا يدري ما الشعور لأنه بلا عقل .. والله سبحانه وتعالى أعلم .. تقديري .. مودتي .

الرد: كل شيء في العقل له اساس في الشعور ، فعقل البشرية نتيجة لشعور البشرية ، والشعور اساسه حاجات ، وهذه الحاجات اما مادية وإما معنوية .. الحيوان لا يعرف الحاجات المعنوية ، و شعوره عبارة عن غرائز تتعلق بوجوده و حفظ نوعه و أمنه و غذاؤه إلخ .. بدليل ان الحيوانات لا توجد لديها المبادئ ولا الأخلاق .. اذا عندما نتكلم عن طبيعة الانسان ، فعلينا ان نتصور ثنائية تلك الطبيعة ، فالانسان وحده له طبيعتان : مادية و معنوية ..

الانسان العاقل ، و الإنسان القاصر او المتخلف عقليا : لهما نفس الحاجات ، لكن تلبية هذه الحاجات سوف تختلف تبعا لاختلاف ما يملكانه من العقل ، فالعقل هو وسيلة الشعور للتعامل مع العالم الخارجي المادي .. و عالم المادة هو تجسيد العقل ، و منه يأخذ العقل مفرداته ، بدليل الاصل المادي لمفردات اللغة ، و اللغة هي وسيلة نقل للشعور وللعقل ايضا ..

لنفترض انهما في حريق ، فكلا الشعورين يريدان الخلاص ، و لكن فرصة العاقل للنجاة اكبر ، لأنه يستطيع ان يتجاوز حدود المكان بعقله .. و بالتالي يعرف الطريقة المناسبة اكثر من ضعيف العقل .. وهذا العقل خادم للشعور .. ولهذا مدح الله اولي الالباب ، واللب الجيد هو الذي يتبع الشعور بدقة ، ويقدم حلولا مطابقة لما يريده الشعور ، دون ان يبخس الشعورات الاخرى حقها .. و الشعور نفسه عبارة عن حزمة هائلة من المشاعر ، تنطلق بخطوط معزولة عن بعضها البعض .. إذا لا بد من العقل حتى ينظّم سمفونيتها ، ولا يجعلها تتناقض مع بعض .. مثلما يفعل المايسترو مع عشرات العازفين ..

وكثيرا ما يكون التنسيق بين المشاعر المعنوية و مشاعر المادية ، مثل حاجة الجوع ، يردّها العقل من حاجة اكبر منها ، وهي حاجة الامانة او الصيام .. لو لم يكن هذا التنسيق ، لصارت انفلاتات وتناقضات تضر بالانسان وتضرب بعضه ببعض .. اذا العقل الصحيح من الطبيعة ، و ليس من مكتسبات المجتمع والدين والظروف كما يدعي الماديون والملاحدة ، فيطالبونا بالتمرد على كل ما اكتسبناه من المجتمع ، أي كأنهم يطالبونا بالتمرد على العقل ، ثم يفتخرون بعقلانيتهم بعد ذلك ..!

أنا أدافع عن المنطق السليم و ليس عن اي شيء نأخذه من مجتمعاتنا .. وهم يطالبونا بالثورة على كل شيء .. و في نفس الوقت يطالبونا بالخضوع والطاعة لتلبية كل نوازعنا الحيوانية ! حتى لو كانت ضئيلة .. وفي نفس الوقت ان نهمل كل ما تمليه علينا نوازعنا الفاضلة ، حتى لو كانت كبيرة وضاغطة ،  والنتيجة حينئذ تساوي حيوانية .. لتكمل البغلة بالرسن مع نظرية التطور ليقولوا انكم حيوانات ، فاستجيبوا لحيوانيتكم ،و إلا فسوف تصابون بالامراض النفسية كما يردد دعاتهم مثل داوكينز وفرويد غيره .. بعد ان جردوا الانسان من اثمن ما فيه ، و هي غرائزه العليا .. واكتفوا بالغرائز السفلى ..

كل معرفة صحيحة تكتسبها البشرية عبارة عن عقل يضاف إلى التراكم العقلي السابق .. بما في ذلك حقائق العلم .. فإذا ثبت العلم تحوّل الى عقل ومنطق .. وكل شيء يثبت يتحول الى عقل ومنطق ، سواء كان ماديا او معنويا ، و دون تعارض مع البناء السابق والذي تأكدت منه البشرية بالتجربة .. إذا العلم عقل والعقل علم .. وبينهما خصوص وعموم .. فالعقل عام و العلم خاص ..

يشعر الانسان بالبرد مثلا ، فيتذكر اين وضع ملابسه الثقيلة ، او يبحث عن الحطب ليشعل به النار ، أو يفكر باكتشاف وسيلة جديدة للتدفئة ، او غير ذلك .. كل هذه العمليات عمليات عقلية سبقها الشعور بالبرد .. اذا الشعور اسبق من العقل .. وإذا العقل خادم للشعور ..

يتضايق الناس شعوريا من زحام السيارات مثلا ، او من حوادثها ، فيبدأ العقل بالعمل على شكل قوانين مرور و إشارات و جسور .. إلخ .. محاولا ان يحل المشكلة الشعورية ..

الناس يتالمون من المرض ، ولهذا ظهر علم الطب .. الناس يتألمون من مشقة السفر ، ولهذا ابتكروا عالم المواصلات والاتصالات .. وهكذا ..

اذا الانسان تابع للشعور وليس تابعا للعقل ، هذا هو الاساس .. نعم احيانا نتبع العقل قبل ان نحس ، و ذلك اعتمادا على ان ذلك العقل مبني على الشعور ، فاذا اكتشفنا مخالفته للشعور ، تخلينا عنه و بحثنا عن حل عقلي اخر .. وهذا ينطبق على كل شيء .. من وسيلة مناسبة لطهو الطعام ، إلى ايديولوجية كاملة ..

ولو كان العقل هو الذي تتبعه البشرية ، لما تكرر تخليها وتغييرها له ، بل و معارضة الكثيرين له . فتجد المجتمعين لحل مشكلة الاختناقات المرورية مثلا او اي مشكلة ما ، متفقين على الاساس ، وهو وجود مشكلة ، وتتألم شعوراتهم منها ، لكنهم يختلفون على طريقة المعالجة ..

والدليل على ان الشعور هو الذي يحرك البشرية ، هو تغير الوسائل عبر الحضارات ، و بقاء نفس الحاجات ، كحاجة الامن وحاجة الراحة والبقاء .. إلخ . فالقدماء كانوا يبحثون عن وسائل تساعدهم في شؤون حياتهم ، و إن كانوا لم يعرفوا الكهرباء ولا القطارات ، ولكنهم استعملوا عقولهم لتحل لهم مشكلاتهم ، لكن الحاجة هي الحاجة .. اذا الشعور هو الدافع وهو السباق .. والعلم لم يتوقف يوما من الايام ، بمعنى ان العقل لم يتوقف ..

و بهذا صار لدينا نوعان من التعلم : تعلم قوي ، و تعلم ضعيف ..

التعلم القوي هو الذي بدافع الشعور مباشرة و يتجه إلى العقل ، اي يبدأ من الحاجة .. والتعلم الرديء ، هو ان يبدأ التعلم من العقل إلى الشعور .. على اعتبار ان هذا العقل منطلق من شعور ، وهذا ما هو واقع فيه التعليم الحديث ، اي على التعليم الضعيف ، الذي يحشر دماغ التلميذ بمسائل و قضايا و افتراضات لم تصل اليها حاجاته الشعورية ولا تشغل باله ، في حين يترك ما يشغل باله بلا اهتمام .. مما يضطره إلى الحفظ الابله .. والذي قلما يمسكه الشعور ، لأن الذاكرة مرتبطة بالشعور ..

لاحظ نفسك وأنت تقول : اريد ان افعل شيئا .. ما هو ؟ وكيف افعله ؟ هذا يحصل لنا دائما .. الأول شعور ، والبقية عقل و ذاكرة .. والعقل يعمل من خلال الذاكرة ، و من لا ذاكرة له لا عقل له ، والذكاء عبارة عن السرعة والدقة و سعة تحميل المعلومات والانتقال بها بين الذاكرة و الشعورات ..

والذاكرة يتحكم بها الشعور .. لاحظ في حالة النسيان ، يكون الشخص متأكد انه نسي شيئا ما ، ولكنه لا يعرفه ، و يبدأ بالتفكير والتذكر حتى يتذكر .. إذا فالشعور لا ينسى .. و كل شيء مرتبط بالشعور لا ينسى ، فلا أحد ينسى الاشياء التي يحبها .. حتى فاقدي الذاكرة ، فهو لم يفقد الذاكرة بالصورة التي تشير اليها اللفظة ، وإلا فسوف ينسى كيف ياكل ، و كيف يمشي .. كل المهارات لا يمكن نسيانها .. حتى العزف على البيانو ..

*اقتباس:
يا صديقي .. بلا العقل لا يوجد أي عقل أو شعور .. الحيوان ايضا يشعر بالبرد .. ولكنه لا يشعل نارا ولا يفكر في أن يبتدع وسائل للتدفئة لأنه ببساطة يعجز بلا العقل عن تحديد شعوره ومن ثم تسميته والتعبير عنه .. وبالتالي لا مشكلة لديه تتطلب حلا


الرد: ليست كل المشاعر صعبة التحديد كما تتصور ، فالمجنون يحدد الكثير من مشاعره ، فيعرف انه جوعان ويعرف انه بردان .. الحيوان ايضا يعرف مثل هذه الاشياء ..



ثم عملية تحديد الشعور ، تحتاج إلى طلب من الشعور يوجَه إلى العقل .. فما الذي يدفعه لأن يحدد شعوره إلا شعوره نفسه و ليس عقله ؟ إذا الشعور هو المحرك للعقل ، والعقل خادم للشعور حتى في تحديد الشعور .. و كيفية ملؤه .. العقل لا يدفع إلى شيء .. بل المشاعر هي التي تدفع ..



إذا الشعور هو الاسبق دائما من العقل . والعقل آلة ، ونحن لا نشغـّل الآلة إلا إذا احتجناها بدافع شعوري ، والشعور هو "طاقة" العقل وبها يعمل .. 
 

..اقتباس:
العقل هو الأساس وبه نتمكن من تمييز الأشياء والمشاعر وتسميتها والحكم بوجودها الذي لا شك أنه سيصبح والعدم سواء لولا وجود العقل الذي يحكم بذلك .. تصور الكون بلا وجود الإنسان العاقل الذي يحكم بوجوده وقيمته .. أوليس هو والعدم سواء بسواء ؟ العقل هو الذي يحكم بوجود الأشياء لا الإحساس فالحيوان ظل موجودا لآلاف السنين قبل الإنساس بإحساسه ولكنه لم ينتج علما ولا فلسفة .. ولذا إمتاز الإنسان عن الحيوان بدرجة .. ألا وهي نعمة العقل .


الرد: العقل من اين تكون وكيف تكون ؟ كله بدافع الاحساس .. اليست من صفات العبقري شدة و دقة الإحساس ؟ وليست آلية وبرمجية عقلية ؟.. عالم اللغة لا يعني علمه بها ان يكون شاعرا ، مع أنه متمكن منها عقليا .. وياتي شخص مستواه اللغوي عادي ، ولكنه يستطيع ان يحلق في سماء الادب والشعر .. و أولى عمليات الإستقصاء التي يقوم عليها العلم هي "الإحساس" بالمشكلة ، والعبقري يتميز بانه يكتشف المشكلة ويحس بها قبل غيره .. 



و كل مبدع حساس .. والحدس هو سيد الابداع ، وليست الآلية العقلية الجامدة .. مثل الكمبيوتر تماما ، ولو كان العقل هو كل شيء ، لكان الكمبيوتر اكبر مبدع .. وهو يستطيع القيام بملايين العمليات العقلية في وقت قصير ..

هناك تعليقان (2) :

  1. ألم تقل بأن الشعور أعجمي لا يحس بالواقع مباشرة ولا يعرف اللغه ولا يصله شيء من العالم الخارجي إلا عن طريق العقل لأن الحواس مرتبطه بالعقل ؟ إذا فالعقل قبل الشعور في مسألة التعلم وإن كان الشعور هو الدافع الى التعلم ، أم ماذا ؟

    ردحذف
    الردود
    1. يا عزيزي ، بعد الشكر على قراءتك وتعليقك ، يبدو أنك أجبت على نفسك حينما قلت أن الشعور هو الدافع إلى التعلم. نعم العالم الخارجي مرتبط بالعقل، والحواس مرتبطة بالعقل، لكنها لا تعمل إلا بأوامر من الشعور، فهي كالأدوات في الورشة، لا تعمل حتى يأتي العامل ويشغّلها. لاحظ عندما تنظر إلى سيارات في شارع، تبحث عن سيارة لونها أزرق مثلا، ستجد أنك جمعت الكثير، لكن لو لم تكن تبحث عن هذا اللون، لقلت أنه ربما لم تأتي سيارة لونها ازرق، مع أن عيونك مفتوحة. لذلك الله وصف اصحاب القلوب الكافرة النافرة أن لهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، وأنهم صم بكم عمي لا يعقلون، والسبب أن قلوبهم لم تطلب هذه المعرفة، لأنها لا تجذبهم، فهم يحبون إتباع الهوى والفوضى.

      نعم الشعور اعجمي لكنه هو المحرك، والمحرك هو الأسبق من المُتحرّك. لا أرى في الصورة تناقضا. فمن الخطأ أن نقول أن العقول هي التي تحرّك الناس ، نعم قد تحركهم على مظنّة الثقة في أن تلك الفكرة نابعة من الشعور كما ذُكِر، مثل ما يأمرك الطبيب أن تفعل كذا وكذا دون أن تحس أنت بجدوى هذه الطلبات، لكنك تفعلها على الثقة. إذا تبيّن أنها لا تجدي فسوف تُرفَض. صمّام الشعور هو القلب، الذي يدور على الشعورات، ويركز على ما يشاء منها، وبالتالي يفتح العقل على ذلك الأمر أو ذاك. لهذا القرآن ركّز على القلب، وبالدرجة الثانية العقل. قال (لهم قلوب لا يفقهون بها) و لم يقل عقول.

      حذف