الأربعاء، 19 سبتمبر 2012

نقد لافكار كارل بوبر (1)



# من مقال نظرية كارل بوبر وتفسير القضايا العلمية ، ليحيى محمد :

شاعت خلال القرن العشرين والى هذا اليوم نظرية حاولت أن تضع منهجاً للقضايا العلمية بعيداً عن الدليل الاستقرائي، تلك هي نظرية فيلسوف العلم المعاصر كارل بوبر. فهل وُفقت لذلك بالفعل؟

لقد ظهرت هذه النظرية كرد فعل على تيار الوضعية المنطقية برفض التعويل على الدليل الاستقرائي في بناء القضايا العلمية. اذ وضع بوبر منهجاً عدّه ليس من الدليل الاستقرائي بشيء، واطلق عليه المذهب الاستنباطي، وذلك ليتخلص من الشبهة الهيومية في الدور والارتداد اللا نهائي كما تقتضيه العملية الاستقرائية بوصفها عادة نفسية تقوم على التشابه؛ الذي بدوره يقوم على الاستقراء، وهكذا، معتبراً ان ما سلكته الوضعية المنطقية من جعل الارتباط قائماً بين الاستقراء والاحتمال لا يغير من النتيجة شيئاً حيث الوقوع في الارتداد اللا نهائي[i]. الأمر الذي جعله يغير هذا المنحى بمنهج جديد لا يمت الى العملية الاستقرائية بصلة، وذلك انه يبتدئ بوضع فرض معين ذهنياً، وهو فرض مؤقت لا تقتضيه تلك العملية، لكنه يقبل الاختبار، وهو في حالة الاختبار لا يلجأ الى مبدأ التأييد بالشواهد كما تقتضيها العملية الاستقرائية، اذ أي عدد يمكن استقراءه فانه لا يكفي للبرهنة على صحة القضية الكلية، فمثلاً مهما رأينا من الحالات التي تظهر ان البجع ابيض فان ذلك لا يخولنا ان نعتبر كل بجع ابيض[ii]، ولقد ظل الاوروبيون قروناً عديدة لا يرون غير البجع الابيض، مما جعلهم يتصورون ان كل بجع ابيض، حتى اكتشفوا - في يوم ما - البجع الأسود في استراليا، وبالتالي فقد أدى الاستدلال الاستقرائي الى نتيجة زائفة[iii].

على هذا فقد لجأ بوبر الى مبدأ التكذيب والبحث عن الحالة التي تظهر الجانب السلبي من الافتراض المطروح، فحيث ان الفرض لا يجد ما يدفع الى تكذيبه فانه يصمد بقاءً، والعكس بالعكس


كيف يستطيع تكذيب ابريق راسل ؟ لا يمكن ، وهذا يثبت بطلان منهج بوبر ، والمقصود منه دس ما لا يعقل فيما يعقل . 

فالفارق بين مذهبه ومذهب الوضعية المنطقية، كما يؤكد، هو ان الصورة المنطقية للقضايا الكلية في مذهبه ليست مستمدة من القضايا الشخصية في الواقع الموضوعي، مع هذا فانه يمكن مناقضة القضايا الاولى بالاخيرة (الشخصية)، اي ان من الممكن البرهنة من صدق القضايا الشخصية على كذب القضايا الكلية، وذلك بفعل عملية الاختبار من التكذيب. في حين ان مذهب الوضعية يعتمد على تكوين القضايا الكلية من القضايا الشخصية، وان التحقيق لديه عبارة عن التبرير والأخذ بمسلك التأييد[iv]. وعليه اعتبر بوبر ان النظريات العلمية لا تقبل التبرير او التحقيق، وانما تقبل الاختبار، فحيث انها تصمد أمام الاختبارات الشاقة والتفصيلية فانه تثبت جدارتها بالتعزيز عن طريق الخبرة[v]، وهو ما يفسر النمو العلمي وقلب النظريات. فمثلاً ان نظرية ديكارت للجاذبية استبدلت بنظرية نيوتن عند معرفة ان الكواكب تتحرك اهليجياً وليس دائرياً. كما ان نظرية نيوتن استبدلت بنظرية اينشتاين وذلك للشذوذ الملاحظ في مدار كوكب عطارد[vi].

وبوبر لا يعد مسلكه - في ذلك - يرتد الى المنهج الاستقرائي.


بل ارتد ، وهذا التطور في نظرية الجاذبية نتيجة استقراء ، لكنه يريد ان نبتعد عن الواقع الطبيعي، ولا نرتبط به حتى نقبل نظريات غير معقولة والتي تخدم الالحاد قضيته الاولى , 

مع هذا فقد يقال انه يمارس عملاً استقرائياً، سواء في البدء او في المنتهى. ففي البدء انه من العبث ان يضع الباحث فرضاً ذهنياً وهو معزول مطلقاً عن النظر الى الواقع والقرائن المتعلقة به، بشهادة السيرة التي عليها الناس من جانب، وكذلك سيرة علماء الطبيعة من جانب آخر. فليس هناك فرض يمكن عزله عن السوابق من الملاحظات الخاصة بالقرائن التي تؤيد الفرض، سواء بوعي او بغير وعي.

أما في المنتهى فمن غير المعقول ان يقال بأن التأييد ليس له تأثير على قوة الفرض، ذلك انه من منطق الحساب الاحتمالي ان اعتبار القرينة التأييدية لابد ان تقوي من قيمة احتمال الفرض. وبوبر لا ينكر هذا الأمر، لكنه اعتبر ذلك ليس بقوة ما تفعله القرينة التكذيبية، 


طبعا سيقول ان التكذيبية اقوى ، لانه يعرف انها شيء صعب جدا ، وكأنه شخص كاذب ويقول : اثبتوا كذبي ! بوبر يشد حيله لكي يمرر الكذب على لعلم ، هذه حكايته , ومن كتنت نيته بهذا الشكل كما هي تفوح امام انوفنا ، كيف نصفه بفسلسوف المنهج العلمي ؟ لنصفه بفيلسوف الكذب والمدافع عنه حتى نكون منصفين . هذه مؤامرات ضد العلم الصحيح لكي يمرروا نظرياتهم ذات الهدف الايديولوجي .    

بل حسِب ان القرار المؤيد انما يؤيد النظرية فقط من الناحية الزمنية، وذلك باعتبار ان اي قرار سلبي لاحق يمكنه ان يؤدي الى طرح النظرية[vii]، وانه لا يوجد برهان حاسم لأي نظرية علمية (لأنه من الممكن دائماً ان نقول ان النتائج التجريبية لا يوثق بها)[viii]، وبالتالي فهي قابلة للتكذيب


واضح انه يرجح الان كفة النظرية على الحقائق . وهذا يشبه كلام زميله اينشتاين : اذا تعارض الحقائق مع النظرية بدل في الحقائق ، نحن اما مؤامرة على العلم ولسنا امام علم حقيقي . وهذه النيات واضحة .

وقد يقال أليس هذا الحكم حكماً تعميمياً لا يجد تبريراً له من غير ملاحظة ما سبق أن تعرضت له النظريات، فكيف جاز هذا التعميم القائم بدوره على الاستقراء، وما هو مدى صدقه على أرض الواقع؟

مع هذا قد يقال ان حكم بوبر السابق يرتد الى موقف ميتافيزيقي ليس بذي أثر على ما نحى اليه من تأسيس للمنهج العلمي، وذلك مثل موقفه من مبدأ السببية العامة واطراد قوانين الطبيعة. اذ كان حريصاً كل الحرص ان يبعد هذه القضايا عن مجال العلم ويعتبرها ميتافيزيقية طالما انها لا تقبل التكذيب. وبالتالي فان القضية العلمية لديه هي تلك التي تقبل التكذيب فحسب.


لانها حقائق لا تقبل التكذيب نأى بها الى الميتافيزيقا !! اذن هل هذا مع العلم ام ضده ؟ هذه حقائق ثابتة الفروض ان يعتمد عليها لا ان يبعدها عن البحث العلمي ، وهذا هو العبث بالعلم والعقل بعينه . ولماذا نتعب في العلم اذا وجدنا حقيقة غير قابلة للكتذيب طردناها عنه ؟ ماذا يريد ؟ أيريد علما ام ايديولوجية ؟  

 .....

وعلى العموم يمكن القول ان النظرية العلمية تقوم على قابلية كل من التأييد والتكذيب، وان العلم لا يلتزم بواحد من هذين الطرفين، فضلاً عن وجود عناصر اخرى يستند اليها في قبول النظرية العلمية. ورغم ان بوبر كان يحصر دفاعه عن مبدأ التكذيب عند ظهور كتابه (منطق الكشف العلمي) سنة 4 3 9 1 ، لكنه بعد ثلاثين سنة تقريباً، اي بعد اعادة طباعة الكتاب (سنة 3 6 9 1)، اعاد النظر في دفاعه عن ذلك الاساس التجريبي المحض، واخذ يطعّم مذهبه بعناصر اخرى مثل مبدأ البساطة وجدة النظرية وقوة الربط بين الاشياء وتوحيدها، وكذا ما تحمله من مفاهيم جديدة. وقد اعترف بوبر بانه لا يمكن ارجاع مبدأ البساطة الى منطق التكذيب، كما كان يفعل من قبل[ix].

يبقى أخيراً انه بحسب منهج بوبر ان القابلية على الاختبار للقضايا العلمية لا تنتهي بحد معين. فانساق النظريات تختبر عن طريق استنباط قضايا اخرى ذات مستوى أقل عمومية. وهذه يجب ان تكون قابلة للاختبار بنفس الاسلوب، وهكذا من غير حد ولا نهاية. مع هذا فان بوبر لا يرى هذه العملية تفضي الى الوقوع في دائرة الارتداد اللا نهائي الذي سبق ان نقد فيه المنهج الاستقرائي. 


لماذا يقبلون ان تبنى النظرية على الاستقراء ؟ بموجب كلامه يجب ان تسقط الداروينية ، لانها مبنية على ملاحظات التشابه بين القرد والانسان ليس الا . 

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق