السبت، 23 نوفمبر 2013

حوار حول الزهد والتصوف 2


عبدالله مرهون :



بسم الله الرحمن الرحيم :،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة :.

قال تعالى :. إِنّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ** الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ

حين كتبت لك أن إستشهادك بالآية في غير محله قد ذكرت لك آية " يوم يفر المرء من أخيه" ولم أشر لآية "المال والبنون"
وقد ذكرت أن تلكم الآية تشير إلى مشهد عصيب للمرء فمن شدة هول ذلك اليوم يفر من أخيه وأهله بل من أمه الرحيمة العطوفة عليه ، وأشار بعض المفسرين أن ذلك من شدة حياء المرء أن يطّلع هؤلاء الأقربون على سوء عمله. وما زلت لا أرى ربطها بالزهد وقد رتبت نتيجة فاسدةً عليها وهي قطع الرحم فتأمل كلامي السابق بارك الله بك
.


الرد :



انا سقت الامثلة لاثبت لك ان تعريفك للزهد بترك ما لا ينفع في الآخرة غير دقيق .. وأنا وضحت أن الزهد هو زهد في الخبائث ، قال تعالى ( قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق) ، فالزهد المعروف تحريم ٌ للطيبات على الذات ، ولاحظ كلمة "الطيبات" تدلّك على ان الزهد يكون في الخبائث ، عيناً أو نيةً ، فالخمر من الخبائث عينا ، و التفاخر بكثرة المال خبيث بنيته وليس بذاته .. وهكذا يكون الزهد واجبا ..



وتعريفك مبني على أن الاشياء منها النافع في الاخرة و منها الضار فيها ، ومنها ما لا ينفع ولا يضر في الآخرة .. بينما الله قسم كل الاشياء الى طيبات و خبائث ، وقسم الاعمال الى عمل صالح وعمل غير صالح ..  


قلتم : الزهد الحقيقي هو الزهد في الحرام وليس في الحلال .. زهد في الخبائث وليس في الطيبات ..
قلنا :الزهد ترك المباح والإعراض عنه وعدم رغبة النفس فيه وكل ما يشغل عن الله ولا ينفع في الآخرة وإن ما ذكرتموه وإن قيدتموه بالحقيقي سالبٌ بإنتفاء الموضوع فالخبائث ليس للإنسان أن يزهد فيها فالمحمول "الزهد" لا يطابق الموضوع "الخبائث" ، فالخبائث تجتنب وليس للإنسان الخيار في أن يتجنبها أو لا يفعل إن كان من المؤمنين.



الرد :



اذا كان هكذا ، فالزهد المتصوف ليس له مكان في الإسلام ، هو قادم من الديانات الشرقية ، مثله مثل الكرامات واعتقاد العصمة ، لما أسلم الفرس تسربت كثير من افكارهم الى نظرتهم الى الاسلام ، خصوصا و أنهم ليسوا عربا يفهمون النصوص بالشكل الدقيق ..



لا يوجد في القرآن ما يحث على ترك المباحات ، بل يوجد استنكار لمن يحرّم ما احل الله ، و الزهد الذي تذكره وتسميه "تركا" هو تحريم على الذات ، وكما رأيت فالقرآن يستنكر من يحرّم الطيبات و الزينة . اذا تكلمنا عن الاسلام فلنتكلم عن اساسه وهو القرآن ، فما لا يوجد له اساس في القرآن كيف يكون له اساس في الدين ؟



ثم ان الفصل بين المباحات و بين مرضاة الله فكرة لا تخلو من علمانية ، لأن هذه المباحات قد تستعمل قربة لله ، أو العكس ، وها هي موعظة الصالحين لقارون الذي فحش ثراؤه ، لم يقولوا له ازهد ، بل قالوا تصدق وابتغ فيما اتاك الله الدار الاخرة ، ولم يقولوا اترك ما اتاك الله و ألقِ ما في يدك لأنه لا ينفعك في الآخرة واعتكف في مسجد ! بل قالوا ابتغ به الدار الاخرة ، اي ان مالك يساعدك في الوصول الى الجنة .. و كل شيء في الدنيا له علاقة بالآخرة ..



والمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف ، والزاهد ضعيف ، ايهما افضل : مؤمن قوي ينفع الناس في الازمات ويطعم اليتامى والاسرى والفقراء ويبني المستشفيات والمساجد ابتغاء لمرضاة الله ، أم زاهد فقير عالة على الغير ؟ أكثر أوامر الاسلام تقوم على العطاء والصدقة واعتاق الرقاب والانفاق في سبيل الله وعلى ابناء السبيل ، كيف سيقوم بها الزاهد ؟ أليست اعمال خيرة و حث عليها القران ؟ كلها ليست من نصيب الزاهد ، ولا يستطيع فك رقبة ولا اطعام في يوم ذي مسغبة ..



الاسلام دين ايجابية وعطاء وعمل و قوة .. وليس دين تخاذل و ترفيدا لجدران المساجد والتكايا ..



هكذا نفهم الإسلام كدين ايجابي ودين قوة ودين حركة ، قال : اعملوا ، ولم يقل : اكسلوا ، هذه افكار جاءت من الديانات الهندية وانتقلت الى الفارسية ثم انتشرت في الاوساط الاسلامية ، وهي غريبة على الاسلام .. الإسلام دين عمل وعطاء وكفاح وجهاد وكلها تحتاج الى المال ، والمال يحتاج الى العمل ، وما لا يقوم الواجب الا به فهو واجب . سيما في هذا العصر المادي الذي نعيشه و الذي ياكل فيه القوي الضعيف ، الزهد يجعل اتباعه لقمة سائغة لاعداءه لتنهب ثرواته التي زهد بها ، و ساعتها من حقهم يقولوا : انتم زهدتوا بها ..



و أساسه الحقيقي ليس كله حبا وتعشقا في الذات الالهية ، بقدر ما هو تهرب عن المسؤولية واستفادة من عواطف الناس ونظرتهم التقديسية وبالتالي أكل لأموال الناس بالباطل واستغلال للدين ، إلا من رحم الله ..



لا نتـّهم أحدا بعينه ، و لكن هذا باب يفتح لاستغلال الناس باسم الدين والرهبنة ومعرفته بالله دون غيره وما يتبع ذلك من نذور ومكاسب ومريدين ، قال تعالى (يا ايها الذين امنوا ان كثيرا من الاحبار والرهبان ليأكلون اموال الناس بالباطل) ، ولا يليق بالمسلم الذي عرف الله حقا ان يكسب بدينه و لا قرشا .. لأنه عرف ان الله هو الرزاق ، وعرف ان عفة اليد مقرّبة الى الله .



المفروض ألا يستفيد المسلم ماديا ابدا من الدين ، لا في اداء العبادات ولا في الدعوة والتذكير ، هذا هو الأساس ، كقوله تعالى (اتبعوا من لا يسألكم اجرا) ..  لأنه قد يقع فيمن يشترون بآيات الله ثمنا قليلا .. هذا هو الزهد الحقيقي الذي اقصده ، ان تبتعد عن الخبائث و المشتبهات وتتجه الى الصافي ، فالكسب من العمل صافي جدا ، فلماذا يزهد به هؤلاء وهو صافي ؟ و يقع اكثرهم في المشبوه ؟



حتى لو ان لقمة جاءت بسبب عبادتك لله فهنا مشكلة ، العبادة يجب ان تكون خالصة لله ، أليست تأتيهم الهدايا و كثير من الناس يطعمونهم ويحملون عنهم اعمالهم ؟ و يأخذون النذور لتـُقدّم من الزيارات وغيرها ؟ ويُرقونهم ويطلبون بركتهم ؟ إلا من رحم الله منهم .. الكسب من الدين فيه الكثير من المشاكل والشبه ..



العطاء المعنوي اذا قوبل بعطاء مادي يشعر الشخص حينها بالكراهية ..



و أي مكسب يأتي بسبب تدينك فهذا فيه ألف ريبة ، لأن الدين لله و ليس للدنيا ، الدنيا لها العمل والكدح ، مثلك مثل غيرك ، سواء كنت رجل علم ام غير رجل علم . عليّ ان اعمل وأكسب قوتي بنفسي ، لا بعلمي الشرعي ولا بمعرفتي اللدنية بالله .. الا ان يكون بعمل تدريسي أو أكاديمي ، فتلك وظيفة و لها إلتزامات كثيرة ، وإلتزاماتها هي الاساس ، وليس ان تنصح وتذكـّر بالله ، بحيث لو قمت بالإلتزامات ولم تذكـّر بالله لم تتأثر وظيفتك .



النصيحة والموعظة لا يوجد احد وظيفته ناصح او واعظ ، و لكن يوجد من وظيفته التدريس مثلا ، و لا يوجد احد وظيفته أن يصلّي بالناس أو يؤذن بالصلاة ، لأن الجميع يستطيع ان يقوم بها .. لكن أن يبني المسجد ، يحق له ان يأخذ أجر على المسجد ، لأن هناك من وظيفته البناء .. اذا كان احد وظيفته أن يصلي ، فيجب ان يكون هناك من وظيفته أن يتوضأ ! ..


فقلتم :لا ينفع شيءٌ في الآخره إلا العمل الصالح فذكرت آية المال والبنون وآية يوم يفر المرء من أخيه وآية العشار وخلصت إلى نتيجة فاسدة وهي هل نقطع رحمنا بهؤلاء حتى نكون زاهدين.
فقلت: هذه شبهةٌ أمام بديهة فقيّدت كلامي الأول بقيدٍ وهو " ولا يضر تركه في الدنيا ضرراً يعتّد به" إحترازاً لما ذكرت من شبهه وذكرت لك أن الزهد لا يأمر بقطيعة الرحم وأن أزهد في المال والبنون وهما من زينة الحياة الدنيا أي أن لا أكثر منهما لا أن يصل بي الزهد لقطيعة الرحم أو ترك المال في الإحتياج للناس وأن أكون عالةً عليهم
.


الرد :



ما هو المقياس ؟ هل يمكن ضبط هذه المسألة ؟ المسألة نسبية ، فهل هذا يعني تحديد نسل عندك ؟ كم من المال والبنون يسمح الزهد ؟ واذا حصلت لك فرصة سانحة لمكسب حلال ، هل تردّه لأنه أكثر من اللازم للحياة ؟ المسألة غير قابلة للضبط ولا فائدة منها اصلا ، لانه لو زاد المال عندك فهذا يعني زيادة لفرص الخير امامك اكثر من المعتاد ما دمت تريد الخير والدار الآخرة .. أما كونك تخاف ان يلهيك عن الآخرة ، فهذا موضوع آخر ، وعليك ان تزيد من إيمانك ، لا ان ترمي مالك .



هذه الأمور التي تزهد بها سماها الله فضلا من عنده ، فهل هناك من يزهد بفضل الله عليه ؟ المهم الا تكون الدنيا هي الهدف بل الآخرة .. وتأمل بالله عليك : هل النتيجة التي توصلت إليها أنا وذكرها القرآن نتيجة فاسدة ؟ اذا كانت فاسدة فالمسؤول عنها القرآن ! أيها وفكرة أن تترك رزقا ساقه الله اليك بحجة ارادة الآخرة ؟ مع أنه أكبر مُعين على الآخرة ! أيهما أصوب : ان تذهب الى المعركة بسلاح أم بغير سلاح ؟



المهم هو صلاح النية و القصد وليس كثرة او قلة ما في اليد . الله امتدح ذو القرنين ولم يكن زاهدا بل ملكا قويا ، و كذلك سليمان و داوود ، وسماهم عبادا صالحين ، مع أنهم يملكون الجيوش و الذهب والفضة والخيل ، مثلما مدح شعيبا وايوبا وكانوا ضعفاء ومبتلين . وحسب فكرتك فالفقر افضل من الغنى ! وهذا لا يقول به احد في العالم ان الفقر افضل من الغنى ! فالفقر يعني الحاجة والحاجة الماسّة تؤثر حتى على الواجبات ، وتفضي حتى الى المحرمات ، فالضرورات تبيح المحرمات .. وقال علي بن ابي طالب (لو كان الفقر رجلا لقتلته) لأنه يدفع الى السرقة والموبقات إلا من عصمه الله .



واذا اعتبرنا ان الزهد اصلٌ في الاسلام فهذا يعني ان الاسلام يدعو الى الفقر مثلما تدعو البوذية ، وهذا غير صحيح ونتائجه غير جيدة . و كفانا كأمة ضعيفة و فقيرة وممزقة . و الزهد بهذا المعنى يفضي الى فكرة عدم احترام النعمة و تقديرها ، فكيف تشكر النعمة و قد رفضتها ؟ بينما الله يامر بالاكل من طيبات ما رزقنا ، و لم يقل : كلوا خبزا و زيتا فقط و ارفسوا بقية النعمة !



وفكرة الزهد اصلا قادمة من مجاهدة النفس التي تحب الدنيا ، فالافضل ان تتغير النظرة اصلا لتكون للآخرة اولا ثم للدنيا ، وبالتالي لا تحتاج الى مكافحة و حرمان ، لأن معرفة الدنيا وغرورها وزوالها تعطي الدنيا حجمها بملذاتها  وشهواتها وسيطرتها ، لأنها غرارة وزائلة ، واذا عرفنت عن شيء انه غرار وزائل وغير ممتد ، تلقائيا لن تتعلق به وبالتالي لن تحتاج الى مقاومة ، و حاولت توظيفه لما يبقى وينفع  .



الطماع مثلا يعاني من حب المال ، فإذا اراد ان يتوب يجاهد نفسه بألم ، و لكن الشخص غير الطماع لا يحتاج لهذه المجاهدة لانه مشغول بأكبر . على الواحد ان ينشغل بما هو اهم من الزهد وهو الدار الاخرة وما يتعلق بها من عمل ، بدلا من ان يكافح حبا مستعرا في الدنيا بالحرمان من ملذات مادية في الدنيا ، هذا يكشف ان الشخص يملك نظرة مادية يريد ان يغيرها بالقوة ، و هي دليل على اهتمام كبير بالملذات المادية ، و يغيّر نتائجها ولا يستطيع ان يغيّر وجودها . واذا كان شيء كل همك هو تجنّبه فهذا يعني انه شيء مهم عندك بل هوية لك ، فالذي يجاهد لكي يقلع عن التدخين ليس مثل من لم يدخن اصلا . فالزاهد يشبه الاول ، ومريد الاخرة يشبه الثاني .. و ان كان قصد الزاهد ارادة الآخرة لكنه انشغل بمكافحة الدنيا ، كان المفروض الا ينشغل ، بل يحوّل الدنيا للآخرة .. لأن نسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين .



الدنيا زائلة ولذاتها لا تستحق كل هذا الاهتمام ، سواء من الجشع النَّهِم أو من الزاهد المفاوض المقاوم و المتكلف والمُعاني من تركها .. الانشغال بالاخرة يغني عن هذا التعب كله ولا يجعل الدنيا قصدا و هدفا .. المرتبة الارقى هي في الحكمة ومعرفة الله ، هي التي ترفع الانسان ان يكافح للتخلص من ملذات الدنيا ، قال تعالى (و كره اليكم الكفر والفسوق والعصيان) اي لا يجدون مجاهدة في النفس حتى يقعوا فيها ، لأنهم يكرهونها اصلا , فاذا كان رفض الدنيا درجة من الايمان كما تقول فالانشغال بالآخرة درجة أعلى .. بل هو اعلى الدرجات .


أما بالنسبة لأية يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون فهذا تفسير إبن كثير للآية : أي لا يقي المرء من عذاب اللّه ماله ولو افتدى بملء الأرض ذهباً { ولا بنون} أي ولو افتدى بمن على الأرض جميعاً ولا ينفع يومئذ إلا الإيمان باللّه، وإخلاص الدين له، ولهذا قال: { إلا من أتى الله بقلب سليم} أي سالم من الدنس والشرك، قال ابن سيرين: القلب السليم أن يعلم أن اللّه حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللّه يبعث من في القبور،



الرد :



كثير من المجرمين والقتلة والحسدة والجشعين والاشرار يؤمنون بهذه الامور !



وقال ابن عباس: القلب السليم أن يشهد أن لا إله إلا اللّه، وقال مجاهد والحسن: { بقلب سليم} يعني من الشرك، وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو القلب الصحيح، وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قال اللّه تعالى: { في قلوبهم مرض} قال أبو عثمان النيسابوري: هو القلب السالم من البدعة المطمئن إلى السنّة.

ولعل في قوله إلا من أتى الله بقلبٍ سليم ، إستثناءٌ مفرّغ بمعنى أن المال والبنين تنفع لمن كان ذو قلبٍ سليم .

وهذا ليس كما توهمت أن لا نفع بالمال والبنون في الآخرة فقست ذلك على الزهد فيهما ومن ثمّ قطع الرحم.
ثم وإن كان كما قلت في هذه الآية -تنزلاً - فالآية تشير إلى الكثرة فكثرة المال وكثرة البنين شغلٌ شاغلٌ لا محالة عن الحق سبحانه والإقتصاد فيهما بما تتقوّم به الحياة ولا يحتاج العبد فيه إلى السؤال أولى فلا إفراط ولا تفريط
.


الرد :



على كلامك هذا يكون النبي سليمان أفرط من كل المفرّطين ، لأنه طلب ملكا لا يكون لاحد من العالمين ! ولو كان خطأ لما فعله ،  و لما أقره الله عليه . الله اعطاه هذا الملك العظيم وقال (اعملوا ال داوود شكرا) ولم يقل اعملوا زهدا ! لماذا لا ننطلق من القرآن ؟ أليس هو اساس الدين ؟ قال تعالى (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) وفي اية اخرى ( قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده) ، والتي منها المال والبنون . ليس القصد من الاية تكريها او تحريما للمال والبنون ، وإلا لانقطعت الحياة .. القصد ما هو الباقيات التي ستنفعك فعلا ، القصد ألا تكون الدنيا هي الهدف .. والقلب السليم يعني النية السليمة . و يستثنى من هذا الخطأ ..



المهم ان النية سليمة . أي نية بأن تقول و تعمل الصحيح والافضل والخير والحق والاخلاق ولو على حساب نفسك ، و يدخل بهذا الايمان بالله وتوحيده وعبادته والتوكل عليه والاخلاق مع الناس الخ .. بغض النظر عن الاخطاء ، فهذا موضوع آخر .. ويستثنى منه (ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا او اخطأنا) ..



كلمة القلب السليم تـُفهم بتلقائية كما يعرفها كل الناس ، القرآن بيّن مبين ولا يحتاج الى تأولات ، فلو كان قصده ان ذو القلب السليم هو من قال لا اله الا الله أو أنه من يكره البدع ويميل للسنـّة لقالها ، ولكن قلب سليم كما يفهمها الناس ويقولها الناس ، قلب راضي مطمئن طيب مذعن للخير والحق .



 قال تعالى : (الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه) ، ويقول : (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) ، لاحظ قوله تعالى (ألهاكم التكاثر) ولم يقل التكثـّر ، التكاثر تفاخر على الآخرين وحب التفوق عليهم وقهرهم .. وهذا ليس من سلامة القلب .   


أما ماذكرت من كون الزهد يجعل الإنسان عالة وما إلى ذلك من القول والأمثلة التي ضربت وذكرت ، فمرده إلى خلطك بين الزهد المحمود والتصوف المذموم، فالزهد أن تملك الشيء وتزهد فيه أو يكون لك القوة والقدرة عليه لكن رغبة في ما عند الله تتركه و للتصوف شأن آخر بعضه ما ذكرت وإن كنت أخالفك في البعض الآخر لعل هذه الأحرف ليست لبيانها. وكنت أتمنى عليك أن لا تصل لنتيجة أن الزهد يقابل الكسل فشتّان بينهما أو حتى يؤدي الى الفقر فمن قال لك أن الزهد ضد العمل وتعمير الأرض.


الرد :



تقول ان الزهد هو ان تملك الشيء و تزهد فيه ، ثم تتكلم عن تعمير الارض ! أليس في هذا تناقض ! كأنك تملك قطعة ارض ثم تزهد بها ! كيف ستعمّرها ؟ كل التعريفات التي قدمتها عليها ملاحظات ، صدقني : ازهد فيما حرم الله أو أدى إليه ، وهذا يكفي ، علينا الا نزيد ، فالله ادرى بما ينفعنا في الدنيا والاخرة .. والله انكر على المسيحيين رهبانية ابتدعوها ولم تكن الا زهدا ، وقال تعالى (فما رعوها حق رعايتها) لأنهم خالفوا فطرتهم .  



مشكلة المسلمين هي عدم اكتفاؤهم بالخطاب القرآني ، بحسن نية في اكثر الاحيان وهنا المشكلة . القرآن محدِّد دقيق ممن صنع العالم والكون كله ، فأية تزيُّدات او تطرّفات أو نقصان تـُخرجه عن مجاله الذي ينفعنا إلى فهم بشري .. والفهم البشري ضحية لردود الافعال . ألا ترى الى التطرف في الفرق والنحل والملل البشرية وأن كلا ممسك بطرف ومتطرف به ؟



القرآن لم يذكر الزهد ، فلماذا نذكره ؟ لم لا نكتفي بما قدمه الله لنا ؟ و الامثلة كثيرة في القرآن و واضحة ، كل شيء يكون هدفا بدلا عن الآخرة فهذا محرّم .. سواء مال او حتى لعب بالورق ! اي شيء يـُقدَّم على الله و حقه فهنا المشكلة .. حتى لو كان الإخلاص للمذهب على حسب حق يقرّب الى الله يكون ذلك اثما ، حتى لو كذبتَ نصرة للدين فهذا يعتبر اثما ، فالله مع الحق والحق مع الله اينما كان ، لا ينفع الدين حتى يخلَّص من التأثيرات البشرية وتأويلاتهم وتطرفاتهم ، لأن الدين لا يصلح ان يكون بشريا ..


وقد ذكرت لك أن تملك الشيء لا أن يملكك.
وقد نقل عن علي بن أبي طالب أنه قال رقّعت مدرعتي حتى أستحييت من راقعها.

وأصل التصوّف إسلامي من خرقة الصوف ومدرعة الصوف ولم يكن يوماً فارسيّاً أو بوذياً بل وأجزم أن أصله ونظرياته لم تشمّ رائحة الفرس بل واضع أسسه والمؤسس لقوانينه وفنونه صاحب الأندلس العربي الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي واضع أُسس العرفان النظري وشتان بين المشرق والمغرب وكل من أتى بعده عالةٌ على مائدته. ولعل أول من تصوّف أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة ١٥٠ هجرية قمرية وإن كنت أراه حادثا من زمن الصحابة بل لا أنطق شططا إذا قلت أن أول من جلس في الخلوة كان محمد بن عبدالله النبي الأمي في خلوته في غار حراء في جبل النور



الرد :



قال تعالى (و وجدك ضالا فهدى) اختلى عندما كان يبحث عن الحق ، فلما وجده تركه الى العمل ، وقيل له (قم فأنذر ، وربك فكبر) وقال تعالى ( ولا تمنن تستكثر) ولم يقل ولا تستكثر .فالمنة والطمع والجشع هي المحرّمة .



لو كان التصوف اسلامي المنشأ لوجد عند الصحابة والرسول ، والصحابة منهم الاثرياء ، ابن عربي ليس مؤسسا ، بل بلور وكتب فيه ، ولم ينسبه لنفسه حتى تنسبه إليه .. والتصوف قديم عند الحضارات الاخرى لا في المسيحية ولا في الديانات الشرقية ، وكثير من ابناء هذه الحضارات اسلموا وادخلوا معهم كثيرا من ثقافاتهم وليس فقط التصوف ، بدليل ان الفرق والمذاهب والمتكلمين كلها ظهرت بعد الاختلاط بأهل البلاد المفتوحة ..



كان الصحابة منهم الفقراء و منهم الاغنياء ولم ينكر القرآن ولا الرسول عليهم ، بل حث على الانفاق وابتغاء الدار الاخرة ، هذا غير ان الدنيا انفتحت عليهم بعد الفتوح .. وابن عربي في الاندلس صحيح ، لكن كل ثقافة الاندلسيين من المشرق اساسا ، لا في فقههم ولا في عقائدهم بل حتى في الادب . حتى ان ابن عبد ربه عندما ألف العقد الفريد وأهداه إلى بعض امراء المشرق قال : بضاعتنا ردّت إلينا .. و الأندلسيون جاءوا من المشرق وليسوا اوروبيين . 


أما قولك أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يكن زاهداً ودليلك كونه متزوجاً بعدة نساء ، فلعمري ما أصبت كبد الحقيقة وأخاف أن تكون تجرأت على مقام السيد المبجّل المخصوص بالقرآن المنزّل.

أما أستدلالك بزواجه منهن فلم يتزوج الأبكار منهن ما خلا واحدة وقد تزوّج أم المؤمنين سودة بنت زمعه وهي في الخامسه والخمسين من العمر وهو إبن الخمسين -وكانت أول من تزوج بعد وفاة أم المؤمنين خديجة-خشية أن يعذبها قومها. فزواجه بالنساء كان وراءه ما وراءه من حكمة السماء.
أستطيع أن أتيك بالمطولات في زهده صلوات الله عليه فهذا البخاري ينقل في صحيحه يقول أبو هريرة: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من طعام ثلاثة أيام حتى قبض). وفي صحيح مسلم رآه عمر رضيى الله عنه يتلوى من الجوع، فما يجد رديء التمر يسد به جَوعَتَه ، ثم رأى رضيى الله عنه ما أصاب الناس من الدنيا فقال: (لقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلْتَوي، ما يجد دَقَلاً يملأ به بطنه)

وأيضاً يروي البخاري في صحيحه سئل سهل بن سعد: هل أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي [أي من الشعير]؟ فقال سهل: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله.
فقيل له: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قال: كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار، وما بقي ثريناه [أي: بللناه بالماء] فأكلناه.

وينقل الشيخان في صحيحيهما حكايةً عن أم المؤمنين عائشة لابن أختها عروة حال بيوتات النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول: (ابنَ أختي، إنْ كنا لننظرُ إلى الهلال ثم الهلال، ثلاثةَ أهلَّةٍ في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار).

فسألها عروة: يا خالةُ، ما كان يُعيشُكم؟ قالت: (الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم، فيسقينا)

وهنا ينقل البخاري في صحيحه أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم دُعي أبو هريرة رضيى الله عنه إلى شاة مشوية، فأبى أن يأكل، وقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير.

ولو أردت جئتك بالمطولات في زهده صلى الله عليه وآله وما ترك رسول الله لأحدٍ بعده شيئاً فالله سبحانه يخاطبه ب " طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" وفي قرآءةً طأها يارسول الله-رجلك- فقد كان يقف حتى تتورم رجلاه من الوقوف في العبادة بين يدي الله
.


الرد :



هذا ليس بزهد ، هذه تسمى ظروف .. أكثرهم كانوا اغنياء في مكة لكنها نهبت أموالهم ، وفي سرية ذات الرقاع لم يكن لدى السرية احذية ، وكانوا يضعون الخرق من ثيابهم من شدة الرمضاء ، فهل كل هؤلاء زهاد ام فقراء ؟! و مصعب بن عمير لم يجدوا له كفنا و كانت امه من اثرياء مكة .. و فدك التي كانت تعطى لزوجات النبي وبنته وهي منطقة زراعية ، وهي التي اختلفت فيها فاطمة مع ابي بكر وعمر ..  وها هو الرسول لما منحه جيرانه اللبن ما منعهم وسقى اهل بيته .. وهذا ابو هريرة الذي رفض اكل الشاةة المشوية هو الذي صار واليا على المدينة برمتها ، وهو الذي حاسبه عمر وسجنه في موضوع اموال البحرين عندما كان واليا هناك ، وقال انها خيل وإبل تناسلت . وهذا موجود في كتب الحديث ..



المسألة أن الرسول كان يساوي نفسه بأضعف المسلمين ، ولا يريد أن يتميز عنهم  ولو شاء لطلب اموالهم ولن يبخلوا عليه .. والرسول لم يكن يرد هدية تهدى اليه حتى لو كانت من الإماء ، ماريا القبطية كانت هدية من المقوقس ، و كان لا يرد دعوة على وليمة إذا استطاع أن يلبي تواضعا منه.. وروي عنه أنه قال ( لو أهدي الي كراع لقبلت ولو دعيت الى ذراع لأجبت) ، من هنا نفهم ان فكرة الزهد لم تكن موجودة  ، وكان رسول الله من اكرم الناس يوزع ما يأتيه وينفق على اصحاب الصفة الفقراء المدقعين ، و لا يأكل حتى يأكلوا .. لو كان زاهدا متصوفا لما اكل اللحم ، وكان يحب اكل لحم الكتف كما يروي ابو هريرة نفسه الذي رفض ان يأكل من الذبيحة المشوية لان آل محمد لا يأكلون .. ها هو يروي ان الرسول ياكل اللحم ويحب الكتف !



وقلت لك ان الصحابة وآل بيت الرسول بعد الفتوح اغلبهم صاروا اغنياء ، عبد الله بن جعفر كان غنيا كريما يقيم المآدب والحفلات الغنائية, وقال له ابن عباس مرة : لا خير في السرف, لشدة كرمه, فقال: لا سرف في الخير.  ولم يكن ابا ذر ينكر عليهم الغنى بل كان يطالبهم بالإنفاق وألا يكنزوا الذهب والفضة ..



 المسألة مسألة ابتغاء الدار الاخرة ولست مسألة رفض للدنيا ! قلت لك : ليتني املك الدنيا كلها لاوظفها للآخرة ، لا لاستكثر بها وامن بها واتبجح على الناس بها ، حينها ليتني لم املك شيئا .. الاسلام دين النية وليس دين الكم ، اذا كان كثير فأنت غير زاهد وإذا قليل تكون زاهد، الإسلام دين الكيف ..



كثير من الناس يفرّطون بممتلكاتهم بسبب الكسل او الانشغال بمتع اخرى . فهل هؤلاء زهاد ؟ فهم تركوا ما يملكون وما لا ينفع في الآخرة! النية والقصد هي كل شيء (انما الاعمال للنيات) ..



تعريفك للزهد يجعلك ترفض الرزق الذي ساقه الله اليك ، او تستطيع ان تصل اليه بدون مشقة ولا اهمال للعبادة, وهذا تفريط وعدم احترام للنعمة وليس من شكرها ان نرفضها .. لكن علينا ان نبتغي به الدار الاخرة ولا ننس نصيبنا من الدنيا ، اقتداء برسول الله الذي كان اجود الناس ..



ليست المشكلة ان تملك, المشكلة ماذا ستفعل بما تملك ، لان الملك رزق ، يولد شخص واذا به يرث ثروة كاملة لا تعد فكيف يكون الزهد في هذه الحالة؟ هل يرمي امواله ام يبتغي بها وجه الله ؟


أما في قولك أن الزهد لم يأتي به الإسلام والقرآن فهذا علي يقول "الزهد كله بين كلمتين من القرآن قال الله سبحانه : لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم . ومن لم يأس على الماضي ، ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه.


الرد :



هذا المعنى هو ما أقصده, لكنه لا ينطيق عليه تعريفك للزهد, لاحظ قوله تأسوا على ما فاتكم أي شيء كانو يطلبونه ففاتهم, أنت تقول لا تطلب ! بل ألق ما في يدك إلا ما يقيم صلبك! الآيتان تتناسب مع ما أطرحه أنا وليس ما طرحته أنت, ومن كان همه الآخرة لن يأسى على ما فاته ولن يفرح بما اتاه من الدنيا لأن ليست همه لأول بل للآخرة, أي الدنيا ثانوي وعمر الثانوي ما أثر تأثير الأولي, أما صاحب الدنيا فهو الذي يفرح كثيرا إذا أقبلت عليه ويطغى ويتألم كثيرا إذا أدبرت عنه ويتأسى, لأنها هي هدفه الأول. هاتان الآيتان لا تتكلمان عن زهاد في الدنيا, وإلا لم يطلبوها اصلا حتى لا يأسوا ولا يفرحوا.

 ثم علي بن أبي طلب هو الذي قال لو كان الفقر رجلا لقتله!



المؤمن لا يرد الرزق لانه لا يشط نفسه في اللاستكثار لأن هخفه الآخرة وكل ما يستطيع أن يوصله للآخرة يمشي معه, وإذا جاءته النعمة لا يرفضها بل يوظفها وإذا ادبرت عنه لا يلاحقها ويتكلف ما لا يستطيع وينسى هدفه, لأن هدفه هو وجه الله وليس وجه الدنيا وجاهها.



وهكذا نخرج بأن الزهد هو ترك ما حرم الله وأبعد عنه وليس بترك ذلك الطعام أو أو اللباس غيره رغم وصوله إليك لأن وصوله إليك يعني أنه نعمة, فالله لا يتعبد بتعذيب الذات ومخالفة الفطرة والشعور, الإسلام دين الفطرة والفطرة تميل إلى الطيبات من الرزق قال تعالى: {كلوا مما رزقناكم حلالا طيبا ولا تسرفوا} وقال: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} والله مقسم الأرزاق فكل منه بلا إٍسراف و أنفق وأطعم البائس الفقير ولا تحرم ما أحل الله ولا تجعل ما حلل الله يلهيك عن الله, مسألة نية وليست مسألة أشياء.



ثم إن كل حرمان للشعور في ناحية يقابله إسٍراف في ناحية أخرى.


وأخيراً بحث الحب والعشق الإلهي وما يجوز وما لا يجوز على الله سيحتاج منا وقتاً وبحثاً أطول وتفصيله لا يتأتى في هذه العبارات والعجالة من الوقت والشغل.


دمت بود وأعتذر إن كنت أسأت لجنابك دون أن أتنبّه




الرد :



وشكرا لك ولا داعي للاعتذار كلنا إخوة نبحث عن الحق إن شاء الله.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق