الجمعة، 27 أبريل 2012

الثنائية و الضدية والاختيار الحر و اثباتها لليوم الآخر ..



 ليس الانسان يولد صفحة بيضاء كما قال جون لوك.. و رددها بعده الكثير .. بل ان عقل الانسان و ذاكرته هي التي تكون صفحة بيضاء من المعلومات المادية ، و ليست الشعورية التي لا تزيد ولا تنقص منذ ولادته حتى مماته والتي لا تضاف ولا تحذف أيضا .. فكيف يكون صفحة بيضاء و هو يقدر قيمة الامن ، و يقدر قيمة الحنان ، ويخاف ، ويملّ ، و يكره، و يحب ؟؟ هل هذه نقشت فيما بعد على الصفحة البيضاء ؟

الطفل يكره الاهانة كما يكرهها الكبير تماما .. الطفل يحب الوئام و الالفة كما يحبها الكبير ايضا .. اذن كل ما في الكبير موجود في الصغير ، هذا اذا استثنينا العقل المرتبط بالمادة و العالم الخارجي ، والذي يتعلمه الصغير شيئا فشيئا ..

ألا نرى ان اختلاف الناس دائما يتمحور حول ثنائية ؟ نعم قد يوجد اكثر من ثنائية ، لكن اذا استمر الجميع في الحوار ، الا ترى ان الجميع يتمحورون حول قطبين في الاخير ؟ انظر في السياسة مثلا في الدول الديموقراطية ، تجد المجال مفتوح لتكوين الاحزاب الى حد كبير .. لكن من يتداول السلطة ؟ تجدهم في الغالب حزبان .. اين التعددية و الخلافات المتنوعة ؟

الجمهور الرياضي متنوع في بداية كاس العالم ، و لكنه ينقسم الى جمهورين في الاخير .. فاين التعددية ؟ و لماذا لا يستمر مشجعي الفرق الاخرى على تشجيع فرقهم و التوقف عندها ؟

لماذا مراكز القوة العسكرية في العالم تتمحور حول قطبين ؟ واذا ضعفت احدى القوتين قالوا ان هناك اختلال في موازين القوى و ظهر فراغ يـُحتاج إلى ملئه .. ؟

لماذا قامت الحروب العالمية على قطبين ؟ اين التعددية ؟

و لماذا هناك شيء اسمه خير و شيء اسمه شر ؟ ولا يوجد شيء ثالث ؟ لو كانت البيئة و الظروف و التربية هي المؤثرة فقط كما يقال ، و نعلم ان الظروف متنوعة ، لما وُجدت الثنائيات ابدا .. اليس كذلك ؟ اذن ليست التربية و الظروف هي المؤثرة .. بدليل النزعة الى الثنائية و الاستقطاب كقانون مستمر و على مر العصور ..

اذا أريد حسم اي موضوع ، يكون الاتجاه الى الثنائية و ليس الى التعددية .. كما يفعل البرلمان من خلال التصويت : مع أو ضد ..

لماذا توجد دائما في الحكومات حمائم و صقور في كل قضية ؟ اين التنوع ؟ اين بقية الطيور ؟

الظروف اكثر من ثنائية ، فلماذا يتجه الناس الى الثنائية ؟ الخير و الشر مثلا ، لا نجد الظروف تتحكم في اختيارهما ، فأحد يـُعامـَل معاملة سيئة و يكون سيئا ، وأحد يعامل معاملة سيئة و يكون خيّرا احيانا ، و أحد يعامل معاملة حسنة و يكون سيئا ، و أحد يعامل معاملة حسنة ويكون حسنا أيضا .. و في نفس الظروف .. اذن الاختيار بين ثنائية الخير و الشر و الحمائم والصقور اختيار حر .

تجد البلد يمر بنفس الظروف ، و تجد اعضاء القيادة ينقسمون بين حمائم وصقور ، مع انهم يمرون بنفس الظروف . لماذا لم يكن رايهم واحدا ، ما دامت الظروف هي المؤثر الوحيد و الفعال ؟؟

الجميع يعلم ان جنديا مثلا ، يصل الى معسكر الاعداء ، يعلم ان منهم من عامله بقسوة ، و منهم من عامله بلطف ، مع انه عدو لهم جميعا !  في كل لجنة قضائية او غيرها ، كل متهم يعلم ان بعض الاعضاء أميل إلى القسوة ، و بعضهم أميل إلى الطيبة ، فلماذا هذه الثنائية مستمرة في كل شيء وفي كل مكان ؟

هل نقول ان ظروفهم هي التي جعلتهم يختلفون ؟ لكن ظروفهم متنوعة ، بينما هم اختلفوا على شكل ثنائية حمائم و صقور !! فما السبب ؟

لا اعرف سببا الا الاختيار الحر بين قطبين .. قطب الحقيقة و قطب الانانية .. الاول بدافع المحبة الشعورية من خلال الاخلاق ، و الثاني بدافع المصلحة المادية من خلال العقل المجرد ، و هو المرتبط بقوانين المادة فقط دون قوانين الانسان ، و هذا ابسط تعريف للعقل المجرد ..

و قد يحصل الانتقال بين القطبين ، و لكن باختيار حر ايضا .. فلا شأن للظروف في هذا الموضوع .. (قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها) .. هنا اختيار حر .. و لا احد يزكي نفسه بدافع الظروف ، ولا احد يدسّي نفسه بدافع الظروف ايضا ..

- و ربنا يجعل في طريقك اولاد الحلال .. ويبعدك عن اولاد الحرام -.. هذه ثنائية يعرفها العوام ..

لو كانت المسالة متوقفة على الظروف والبيئة والتربية فقط ، اذن لأمكن تهيئة مجموعة من الأفراد كي يكونوا على ما نرغب به من أفكار وتوجهات من مثل الامن العالمي والسلام ، او السوبرمان النتشوي مثلا  ، وطالما ان هذا لا يمكن تطبيقه ، اذن هو غير علمي ، ويبقى وجهة نظر تخدم ايديولوجية مادية ، و لكنها نظرة مهينة للانسان ، و تحتقر ذاتيته واختياره الحر وتجعله كالكاس الفارغ الذي يعكس ما يـُملأ به فقط ، أو كالكمبيوتر الذي نبرمجه كما نشاء .. و هذه نظرة مهينة للانسان يقدمها الفكر الغربي المادي مع مجموعة من الافكار الاخرى المهينة للإنسان ..

و كما لاحظنا ان هذه الثنائية الواقعية ، هي عبارة عن ضدية من ضمن الضديات التي لا يعمل العقل بدونها ، فلا نعرف الابيض الا من الاسود ولا الاسود الا من الابيض ، ولا النور الا من الظلام ، ولا الصحة الا من المرض .. ولو لم تكن ضديات ، لم يكن عقل بشري .. فالضديات تـُشكـّل التمييز ، و التمييز هو اساس ادراك الانسان ، اذن العقل قائم على الثنائيات والدرجات التي بينها ، و ليس على التعددية ..

و بما ان كل شيء عبارة عن ضديات ثنائية ، اذن الانسان في حالة اختيار دائم بين اثنين لا ثالث لهما ، و كل واحد من هذين الاثنين ينتمي الى منظومة كبرى . اذن حياتنا عبارة عن عملية اختيار دائم بين عالمين متضادين : احدهما حقيقي و طبيعي ، والاخر مزيف و صناعي ، اي احدهما خير ، وآخر شر ، او بكلمة ادق : احدهما حق ، و الاخر باطل .. و النية هي مقياس الاختيار وليس التنفيذ فقط .

اذن البشر في حالة اختيار حر دائم بين اتجاهين لا ثالث لهما ، و العقل هو اساس الاختبار ، لأنه هو الذي يميز بين الضديات .. اذن ففاقد العقل – ان كان كذلك - ليس داخلا في هذا الاختبار .. و هذا يشير الى تاكيد القرآن على ان الناس يـُخـتـَبرون بين اتجاهين : الشر و الخير ، او الحق و الباطل . فالاختبار ملزِم ، و الاختيار حر .. فلا مفر من الاختبار ، و لا الزام على اختيار ..

هذا من اكبر الادلة على وجود اله يراقب و يرصد هذه الاختيارات ، و لو كانت حياة الانسان و واقعه العقلي غير هذا الشكل ، لأدى الى تشكك في الاختبار الالهي .. و رأينا أن فكرة جبرية الانسان بدافع الظروف و الجينات و التربية ، و التي يعتمدها الفكر اللاديني و الملحد ، انها فكرة غير واقعية و الواقع لا يثبتها ومهينة للانسان .

الانسان دائما يشعر بحرية الاختيار ، بل ويستطيع ان يتصرف باي ظرف من خلال احد الاختيارين . لا ننسى ان لا شيء يمنعك من ان تكون من الحمائم او من الصقور .. ستجد لكلا الاختيارين ما تحتجّ به و يـُقبَـل ، مهما ألزمتك الظروف ..

أقصد أن حرية الاختيار ملازمة معك حتى لو أُجبـِرت من قبل الظروف الخارجية على عملٍ لا تريده ، مثل الحارس الذي يمنع الناس من الدخول ، يستطيع ان يكون فظا و قاسيا باسم احترام العمل والنظام ، ويستطيع ان يكون لطيفا باسم احترام الناس و الزوار ، و بالتالي كلاهما يقول انه يخدم ذلك الواجب بحسب طريقته .

اذن الاختيار الحر لا يستطيع احد ان يمنعه ، لان الله يريد ان يختبر البشر و لم يخلقهم عبثا ، وإرادة الله لا تـُرَد ، بدليل انه لا يمكن ان تجد ظرفا لا يكون الانسان مُختـَبَرا فيه بين عالم الخير و الشر ، حتى لو كان مجرد افكار ، و لو كان ذلك لكانت الحياة عبثا كما يفهمه الماديون و الدنيويون .

اذن الحياة ليست عبثا و لها غاية ، و هي اظهار نتيجة الاختبار ، و نحن نمر على مشهد الدنيا مرورا مؤقتا ثم نمضي ، بعد أن تملأنا بالاختيارات بين ثنائيتين كبيرتين ، و نملأها نحن بالاختيارات ، ولا نجد اي تطابق بالاختيارات رغم كثرة البشر ، فلكل فرد نتيجته الخاصة ، ثم نمضي لكي نرى نتيجة ذلك الاختبار في حياة اخرة يقتضيها المنطق بموجب معطيات الواقع : الثنائية الاختيارية الاختبارية ، سنة الله و لن تجد لسنة الله تبديلا ..

هذا الاختبار الملزم والذي لا مفر منه ، ندخله رغما عنا ، و تأتينا الأسئلة رغما عنا ، و نخرج منه رغما عنا .. و الجميع مختبر بين الثنائيات ، سواء كان مؤمنا أو غير مؤمن .. و لا أحدٌ حياته عبث .. الوعي والتمييز يضعان صاحبهما في الاختبارات المستمرة رغما عنه ..

و هذه الثنائية تذكرنا بأصحاب اليمين و اصحاب الشمال ، و هناك جنة و هناك نار ، ولا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة و النار .. ثنائية في الدنيا تقابلها ثنائية في الآخرة ، فالاولى يثبتها الواقع ، و الثانية يثبتها المنطق .. فأين المفر من صاحب الشأن الذي جاء بنا الى الحياة ، ثم يـُخرجنا منها بدون علمنا و بدون ارادتنا في كلا الحالين .. فنحن لم نخلق انفسنا ، و لا حتى نعرف ما هي ذواتنا .. ولا من اين اتينا ولا الى اين نذهب ، و ليس لنا حيلة الا ان نستجيب للمنطق و الاحساس .. فنجيب داعي الله ..

اذن نحن مجبرون و لكن على الاختبار ، مثل من يؤخذ بالقوة و يـُوضع في قاعة الامتحانات و يُخرج منها بالقوة ايضا .. هذا واقع و ليس منطقا .. اذن ما هو المنطق ؟ المنطق هو وجوب ظهور نتيجة ، فمن ألزَم بالاختبار ملتزمٌ باظهار النتيجة .. 

و بما أن لكل اختبار نتيجة ، بمقتضى منطقي ، و بما ان اختباراتنا لا تظهر نتيجتها في الدنيا ، ولا تستطيع الدنيا ان تظهر نتائجها ، لأن السرائر لا تـُعلم ، اذن منطقيا لا بد من حياة اخرة تظهر بها النتائج ويحصّل ما في الصدور من اختيارات ، (يوم تبلى السرائر ، فما له من قوة ولا ناصر) . 
 
ومن الأدلة على نظرية الاختيار والاختبار هو عدم تراكم الأخلاق والنمو الأخلاقي للبشرية عبر التاريخ مثلما يحصل للتقدم التكنولوجي, فالتقدم التكنولوجي يحتاجه كل الناس, لكن التقدم الأخلاقي خاضع للاختيار الحر للبشر, ولو لم يكن هنالك حرية اختيار لصار البشر بمجرد أن عرفوا مثلا أن الظلم سيئ تركوه, لكن هنالك من يريد أن يظلم ولهذا يبقى الظلم.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق