الحلقة الثامنة :
والتكثيف الذي يشير اليه هو
اعتراف بالاختزال والانتقائية التي سيقوم بها ، وهذا ليس من المنهج العلمي .
لاحظ ان الاطفال - بل حتى
الكبار - عندما يرون فيلما او يسمعون قصة عن السحر او العفاريت ، او الحيوانات
المفترسة ، غالبا ما تنطلق منها احلامهم . فرويد يعرف انه اذا تابع الحلم كله سيجد
هدفا لا يناسبه ، لهذا قال ان الحلم يعتمد على التكثيف ، اي ياخذ جزئية و يقول ان
الحلم كله تكثف من هذه الجزئية . انه مضطر لان يجعل منهجه بهذا الشكل . لان الاحلام
سوف تفضح تفسيراته ، بل تفسيره الوحيد و الخبيث الذي يدور حوله .
-----------------
انتهت الحلقة الثامنة
وتتبعها الحلقة التاسعة بإذن الله ..
لماذا يعتمد على الرمزية اذا ؟
الاقدمون كانوا يعتمدون على الرمزية ، فما فرقه عنهم في منهجه ؟ هم ايضا يقولون :
ننطلق من الرمز الى المعنى الباطن !
ولماذا لعبة القط و الفار يلعبها
الشخص مع نفسه ؟ اليس نائما ؟ وبعيدا عن عالم الواقع ؟ واذا كان الانسان يفعلها في
يقظته ، فما الذي يجبره على فعلها في منامه ؟ و ما الفائدة من ذلك ؟ كأن حال
اليقظة والمنام شيء واحد عند فرويد ، مع ان عالم الاحلام عالم اخر غير عالم الواقع
.. اذا هذه الرقابة لا فائدة منها .
وما جدوى المصادرة فالمجتمع غير موجود
معنا في احلامنا حتى يسجل علينا مآخذا و عيوبا .. لماذا الخوف اذا من الناس و هم
غير موجودين ؟ هذا كلام غير مقنع . لأنه يجعل الانسان يعمل عملا لا فائدة منه على
الاطلاق . لنفترض ان الرقابة غير موجودة في الاحلام ، هل ستهتز صورة الانسان عند
المجتمع ؟ طبعا لا ، لانهم لا يعرفون احلامه ما هي .. اذا ما فائدة عملية
الرقابة ؟ فائدتها ان تؤمّن لفرويد مخرجا امنا حتى لا يعترف باصالة الفضيلة في شعور
الانسان .
فرويد مؤمن ان الاخلاق يفرضها علينا
المجتمع و نحن في عالم اليقظة، و يريد ان يطبق هذا حتى على عالم الاحلام ، حتى مع
ان المجتمع غير موجود فيه وجودا حقيقيا . لان فرويد وجد ما لم يحب في تتبعه
للاحلام ، و هو ان الاحلام ايضا تحترم الفضائل والقيم ، لهذا ادخل الرقابة
الواقعية على عالم الاحلام ، لكي يبرئ الانسان من كل فضيلة ، و كانه يقول :
المجتمع معك ، سواء استيقظت او نمت ، والا فانت شر خالص في حقيقتك .
فكرة واهنة تقوّى من خلال عكازات ،
لانها ليست حقيقية في عالم اليقظة ، وعالم الاحلام كشف زيفها . اين هي الرقابة عن
تناقض الصور في الاحلام ؟ وتداخل الازمنة ؟ والتحدث مع اناس ماتوا من زمان ؟ لماذا
لم تصحح الرقابة هذه الاوضاع الغير منطقية ؟ اذا لا توجد رقابة على الاحلام اصلا ،
لسبب بسيط وهو ان الرقابة مرتبطة باليقظة و الوعي ، ونحن امام شخص نائم لا يعي ما
حوله .
الرقابة عرفها فرويد في عالم اليقظة ،
اذا هي مرتبطة بذلك العالم فقط . فعلى اي اساس يربطها بالمنام والاحلام ؟ لا يوجد
اساس واقعي و لا علمي لهذا الربط .
لا يوجد تنكر في الحلم ، و لماذا
التنكر ؟ لا يوجد اشخاص ولا مجتمع هنا . الشعور يريد الا يختلط الحلم مع الذكريات
الواقعية ، لهذا يحصل هذا التقطيع و الربط الذي نتصور انه عشوائي ، مع انه ليس
كذلك . و اذا عرف السبب بطل العجب . ولو كانت الاحلام كلها تجري على نفس منطق
الواقع ، لاختلط الواقع علينا بالاحلام . وهذا الامر كافي لان يجعل المرء مجنونا ،
فيشهد بوقوع شيء لم يقع ، و لا يعلم أرآه في الحلم ام في الواقع ..
اذا لا بد من عملية التقطيع ، وهي
اجراء صحي يقوم به الشعور حتى لا تضطرب الذاكرة .
ومع هذا ايضا ، يعمل الشعور على مسح الحلم خوفا من بعض الاختلاطات في
الواقع ولو كانت جزئية ، الا اذا اراد الشخص ان يثبّته في ذاكرته على انه حلم ، و
الا فطريقه الى المسح سريع ، منذ ان يفتح عينيه على عالم اليقظة . لكن الشعور
المصاحب للحلم يفعل فعله في اليقظة ، حتى ان احلامنا تؤثر في مشاعرنا في اليوم
التالي . اذا الحلم ادى مهمته دون ان يضر بالذاكرة والعقل والمصداقية . و كما قلنا
ان اساس الحلم هو مشاعر .
التيارين السطحي والخفي :
ما الفائدة اذا كان صاحب الحلم لم
يفهم هذه اللغة ؟ ام ان من فعل الحلم يعلم بوجود محلل نفسي كبير اسمه فرويد سيحل
هذه الالغاز عندما يعرض عليه الحلم ؟ و اذا لم يكن فرويد موجودا ، من سيحل هذه
الشفرة الهيروغليفية ؟ اذا الاحلام عبارة عن عبث في هذه الحالة ولا فائدة منها .
ما فرقه هنا عن المحللين و المفسرين
السابقين؟ هم يأخذون الصور كمفردات معزولة عن بقية صور الحلم و المشاعر السائدة
فيه .. أراد ان يخالفهم ففعل مثلهم تماما . ونعلم ان اي رسالة يتم فهم مضمونها ليس
من خلال حرف فيها او كلمة واحدة ، بل من منظومة الحروف التي تشكل كلمات و جمل .
إذا هو يريد ان يفهم الرسالة من حرف واحد يختاره هو ، بحيث يكون متناسب مع فكرته
المسبقة .
اخذ صورة واحدة وتعميمها على الحلم بل
وعلى حياة الشخص كلها ، إن لم تكن هذه هي الانتقائية بعينها ، فماذا تكون ؟ وان لم
تكن هي تعميم الجزء على الكل ، فماذا عساها ان تكون ؟ ان هذا خطأ منهجي في دراسة
اي شيء .
الحلم لا ياتي عبارة عن صور مفككة ،
بل ياتي على شكل رسالة ذات مونتاج واحد . نعم قد ياتي اكثر من حلم في الليلة
الواحدة ، و هذا يدل على ان كل حلم مستقل عن الآخر ، أي انه رسالة او قضية مستقلة
عن الاخرى . و اذا كان هذا منهجه ، فما اسهل ان يجعل كل الاحلام في صالح فكرته .
لانه سيبحث عن جزئية مناسبة او صورة واحدة كما يقول ، ثم يبني عليها كل ما يريد ،
فيحرّف الحلم عن هدفه الاساسي الى الهدف الذي وضعه مسبقا هذا المفسر ، ليستدل من
خلال الاحلام على تأصل الشر و سيطرة الغرائز الحيوانية و نفي الغرائز الانسانية في
الانسان .
حتى لو كان الحلم اخلاقيا فسوف يتحايل
عليه ويقول انه من تاثير العقل الظاهر و يلتقط صورة او جزئية و ينطلق وراءها لما
يريد . هذا الشيء تستطيع ان تفعله في الرسائل والخطابات العادية بين البشر ، و هذا
ما اخذه النقاد على المدرسة النفسية في النقد الادبي المعتمد على فرويد ، و الذي
اخرج كل الادباء بانهم عبارة عن مرضى نفسيين و يعانون من الكبت الجنسي و عقد النقص
والامراض العصابية ، حتى لو كانوا يتغنون باماجد الاخلاق في شعرهم ، بحيث يبحث عن
كلمة لها اكثر من ايحاء و يصرفها الى الايحاء الذي يريده هو ، ويقول ان الشاعر عبر
عن غرائزه من حيث لا يدري .
فكرة تقويل الناس ما لم يقولوا هي
ابعد ما يكون عن العلمية واقرب من الهوى و ما نريد ان يكون وليس ما هو كائن ،
وتـُصنف من ضمن الاخلاق السيئة . اذا منهج فرويد اصلا غير علمي . لأنه يترك كل
الحلم ويختار لقطة بسيطة فيه و يفسر من خلالها كل الحلم . هذا يشبه من يفتح صفحة
واحدة من كتاب ، و يحكم من خلالها على كل الكتاب . هذا لا يعتبر من المنهجية
العلمية ، المفترض ان يدرس كل الحلم دون انتقاء حتى تكون دراسة علمية . بل لا يكفي
حلم واحد لاصدار حكم على نفسية الشخص .
التيار السطحي والتيار الخفي :
هنا ربط فرويد بين كل الاحلام و الذكريات
، فرويد يرى ان الاحلام ليست الا ترجمان الذكريات ، بل و الذكريات المنسية : على
اي اساس علمي بنى هذا الربط ؟ لماذا الاحلام عنده فقط لذكريات ؟ وما فائدة تجرر
الذكريات ؟ و ليته ربط الاحلام بكل الذكريات على الاقل ، انه يربط احلام البشر
كلها بذكريات عن اشياء مرغوبة و مكبوتة ! هذا كله بلا دليل علمي ! حتى ان الشخص
يحلم باشياء مستقبلية بعض الاحيان ، اي بعيدة عن ذكرياته و عالمه ، وفرويد سوف
يعيده بالقوة الى ذكرياته الشهوانية المكبوتة .. هذا شخص يحلم في المستقبل !! ليس
يحلم في ذكرياته ! ولو شاء الحلم لاحضر له ذكرياته !
لو حلم شخص بانه قتل فمات ، ثم قام من
موته ، لفسرها فرويد برغبة جنسية مدفونة ! ثم صار يلف و يدور ، وسوف يفسر القتل
بفقدان القدرة الجنسية ! و الموت بحالة كمون جنسي ! و البعث والوقوف من القبر
بنهضة الشهوة الجنسية و ازدهارها ! وهكذا يستطيع كل شخص ان يفسر مثل فرويد ، لانه
سهـّل عملية تفسير الاحلام ، لانه ربطها بالجنس ، فكلما عرض امامك حلم ، ما عليك
الا ان تربطه بالجنس باي شكل من الاشكال ، و ستجده يعجب فرويد و اتباعه ! نستطيع
ان نربط مثلما فعل فرويد كل الاحلام بشيء واحد ، فنقول مثلا : كل الاحلام تدور حول
جمع الثروة و التملك ، فهذا الذي حلم انه مات ثم استيقظ من موته ، هذا اشارة الى
رغبته في ان يكون ثروة من جديد بعد ان خسر ! و نستطيع ان نفسر كل الاحلام بالرغبة
في الحياة ، فهذا الذي يحلم بانه قام بعد موته ، يشير الى رغبته بان لا يموت !
وهكذا ..
التفسير و الربط النظري لا حد له ،
لدرجة انك تستطيع تفسير كل شيء بكراهية الجوع و طلب الشبعة . فهذا الذي يحلم انه
مات ، اي يخاف من الجوع ، و يحلم انه قام من موته ، اي انه شبع !! الى ما لا نهاية
من هذه التفسيرات السخيفة التي تحصر الانسان المتعدد في شيء واحد . و ما اسهل التأويل والتعسف والانتقال من المعنى
الظاهر الى المعنى الباطن اذا لم يسعفنا المعنى الظاهر .
فرويد متاثر بالكابالا اليهودية التي
تفسر النصوص بمعاني باطنية بعيدة جدا عن ظاهرها و يختلقها المفسر . والكابالا اساس
فكرة التفسير الباطني للنصوص . و فرويد ادخل الكابالا من تراثه اليهودي الى
الاحلام والمجتمع والنفس البشرية .
هذه نتيجة وصل اليها بدون دليل ويريد
ان يجعلها اساسا في البحث .. لماذا لا تنشط النفس الا لذكريات ؟ هذا حصر بدون سبب
مقنع . ولو كانت الذكريات مهمة على النفس فلماذا تنساها ؟ الذكريات تعني الماضي ،
والماضي لا قيمة له مقابل المستقبل . اذا المنطق يقول هدف الاحلام هو المستقبل و
ليس الماضي وتجرير ذكرياته .. نحن لا نعرف انفسنا في الماضي ، بل نعرف انفسنا في
الحاضر اكثر من ان نعرف انفسنا في الماضي . كل شخص سوف يتفاجأ عندما يرى نفسه على
شريط فيديو او صور قد التقطت له في ماضيه البعيد دون ان يدري . سوف يرى شخصا
مختلفا . ولو كانت الاحلام استجرارا للماضي ، لكنا نعرف انفسنا في الماضي بشكل جيد
و كل ليلة . اذا لماذا نتفاجأ عندما نرى انفسنا على شرائط قديمة و لا نتذكر انفسنا
ولا حتى و نحن في تلك الحالة ؟ بل و ننتقد انفسنا لماذا لبسنا هكذا او لماذا قلنا
هكذا ..
اذا فرويد يبني على اساسات غير سليمة
، ليست الذكريات هي همّ الانسان بل المستقبل ودائما المستقبل ، بل ان المستقبل اهم
عندنا من الحاضر . و نستطيع ان نضغط على انفسنا في الحاضر مقابل الازدهار في
المستقبل . اذا فرويد جعل الاحلام و النفس البشرية تتحرك نحو الشيء القليل في
قيمته والفاقد لاهميته وهو الماضي ، بل الماضي السحيق ! وتدور حوله ولا تفارقه !
مع انها تعلم ان الماضي لا يعود . فرويد يفسر بطريقة رجعية .. كل شخص يركز على
الماضي ويعيش فيه ، يـُنتـَقد في عقله لان الماضي ولى وانتهى .
تفسير الاحلام عند فرويد ، هو نفس
الوقوف على الاطلال عند امرؤ القيس و شعراء الجاهلية ، اي ان احلامنا هي وقوف على
الاطلال في كل ليلة على مبدأ (قفا "كبت" من ذكرى حبيب و منزل .. بسقط
اللوى بين الدخول فحومل) . و هذا ضد التجدد و الحيوية و ضد المنطق والعقل .. النفس
عند فرويد تبذل مجهودات لا فائدة منها ، لانها تبكي على الماضي و تعيش ذكرياته !
و فرويد ليس بهذا الغباء ، انه عندما
يربط الاحلام بالذكريات القديمة ذات الرغبات المكبوتة ، فكأنه يقول : عليك ان تصحح
الوضع الذي كان في الماضي . بحيث تحرر ذلك الكبت حتى لا يلاحقك في احلامك وتفك
العقد والامراض النفسية المرتبطة بذلك الكبت ، اي التحرر من الدين والاخلاق حتى
تكون سليما نفسيا و تنام نوما خاليا من الاحلام .
و حتى نثبت خطأ فكرة فرويد عندما قال
ان الاحلام صدى الذكريات المكبوتة : لنفترض ان شخصا نفذ كل تلك الرغبات المكبوتة :
هذا يعني على منطق فرويد انه لن يحلم ! و سوف ترتاح النفس من تجرير الذكريات ! لا
احد يصدق ان هذا سيكون ، مع ان كثيرين استجابوا واطلقوا العنان لشهواتهم بشكل اكبر
مما طلبه فرويد ، فازدادت احلامهم سوءا و رعبا و نومهم نكدا . اذا منهج فرويد خاطئ
من هذه الزاوية الضيقة التي حشر نفسه فيها .
بنية الحلم :
الحلم ينطلق من الذكريات القريبة و
ليس من الذكريات البعيدة . الم يقل فرويد ان احداث اليوم السابق لها علاقة بالحلم
؟ الحلم ينطلق منها ، أي من شيء سمعناه او رايناه او قلناه حتى ، لكي يبني بحريـّة
مشاهدا تلفها و تنتظمها المشاعر ، و دائما تحمل رسالة . و اغلب ما تكون رسالة
تحذير ، حتى الرغبات تظهر في اطار التحذير من الاضرار التي قد تنجم عنها .
الحلم ليس وضعا مجنونا ، ولكن له
منطقه المخالف للمنطق المعتاد ، حتى لا تلتبس على الذاكرة الاحلام مع الواقع .
ترتيب المشاهد في الحلم مجنون ، ولكن الروح والفكرة والشعور والهدف عاقل جدا ، بل
اعقل من الشخص وهو مستيقظ . و من هنا كانت الاحلام مفيدة لكي نعرف ما نخاف منه و
ما لا نثق بانفسنا فيه وما يجب ان نكون وما يجب ان نفعل وما يجب ان نحتاط له .
النقطة الاساسية في الاحلام هي الخوف
وليست الرغبة .
-----------------
انتهت الحلقة الثامنة
وتتبعها الحلقة التاسعة بإذن الله ..
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق