الإنسان مادة وروح وليس روحاً فقط ولا
مادة فقط ، و الأصل هو الجانب الروحي ، فيا
مرحبا بالمادة المنطلقة من الإشباع المعنوي والروحي ، أما أن نهين الجانب المعنوي
لصالح المادة نكون قد ظلمنا المهم لصالح الأقل أهمية وظلمنا الأصل خدمة للفرع
والجوهر لأجل العَرض ، حتى متعة المادة نفسها تتضرر إذا كنا لا نهتم بالجانب
المعنوي ، أما الجانب المعنوي فلا يضره إذا لم ننجح في الجانب المادي .
وإن قال أحد أن الصحة تعتبر من الجانب المادي ، فنقول أن الصحة لا تشترى بالمال ، وعلى كل حال صحة الجسم مع صحة الجانب المعنوي ، ويقال في المثل ( الجسم السليم في العقل السليم ) والعكس أحياناً ، هناك جوانب مادية لا دخل لنشاطنا ومجهودنا بها وهي هبة من الله ومنها الصحة في أساسها ، والصحة مرتبطة بالنفس أصلاً وليست شيئا مستقلاً عن الجانب المعنوي ، وكم هي الأمراض التي يحيلها الأطباء إلى مؤثرات نفسية ، نحن نتكلم عندما يبذل الإنسان مجهوداته على حساب جوانب أخرى .
الإنسان الحكيم لو خيّر ماذا تريد: مالاً وفيرا وقصرا منيفاً أو عقلا سليماً وحكمة ورأياً سديداً وإيمانا منيراً .. أيهما سيختار ؟ العاقل سيختار الثانية لأنه كسب 2 في 1 ، فعقله السليم سيجعله ينجح في عمله ، وحكمته ستحميه من الأخطاء والأخطار والشرور ، وإيمانه سيحفظ له أخلاقه وثقة الناس به ، أما صاحب المال بلا حكمة ولا رشد فينطبق عليه المثل المصري ( يا واخذ القرد على ماله ، يروح المال ويبقى القرد على حاله ) فالحمق والنظرة المادية المفرطة والجهل وضعف الإيمان والتوكل كفيلاً بأن تُفقِد الأشياء لذتها بل ربما أفقدتها ذاتها بعد أن أفقدت لذاتها ، وصدق اللي قال ( لقمه هنيه تكفي ميه ) ، ومن قال
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها *** ولكن
أخلاق الرجال تضيق
قد يظن أحد أن هذه دعوة إلى التزهد
والتصوف والإعراض عن كل شيء مادي ، بينما أنا على العكس تماماً واعتبر أن هذا
الإعراض خروجاً عن الحياة ، لكن يجب أن يكون المال في أيدينا وليس في قلوبنا ، يجب
أن نكون أكبر من المال ، والمال يعيننا على الخير ويقربنا إلى الله .
يجب أن نستغل طاقانا وإمكاناتنا لكي تتقدم
حياتنا المادية ولا نكون متخلفين مادياً ولا معنويا أيضاً ، وألا نكون عالة على
غيرنا ، بل نقدم العون لغيرنا ، وهذا لا يأتي إلا إذا عملنا وتعلمنا ليس شيئاً
واحداً ، بل كل شيء نحاول أن نتعلمه ، ولا يجب أن تكون لنا مهارة واحدة ، بل يجب
أن يكون لنا مهارات لا نستطيع أن نعدها وأن نعتمد على
أنفسنا لا على التسوق من مجهودات الغير إلا في الضروريات ، فنزيد ثرائهم ونزيد
فقرنا .
أنا أريد أن نعيش الحياة بشكل شامل وليس بطريقة
جزئية ، وأحب أن نكون منتجين ونكره أن نكون مستهلكين مسرفين أو بخلاء غير متوكلين
، فالنظرة المادية وحدها ستؤدي إلى طريقين إما البخل أو الإسراف، أو بالتناوب
بينهما وهذا هو الغالب ، وجميعها خلق مذموم .
وحتى في البحث عن شريك الحياة نجد
البحث الزوجة الصالحة والزوج الصالح، والصلاح عباره عن مجموعة صفات ، ولكن هل كلها
مادية؟ ، فكم من جميلة طلقت لأنها مغرورة ، فجمال جسمها لم يشفع لقبح أخلاقها ،
بينما من النادر أن تطلق امرأة لأنها غير جميلة ، إذاً الأخلاق أهم من المال
والماديات.
النعمة ليست فقط مادية ، فلماذا تحصر
بالجانب المادي فقط ؟ ، والشكر هو أهم أثر
للنعمه { ولئن شكرتم لأزيدنكم } ، { وأما بنعمة ربك فحدث } ، هل المطلوب أن يحدِّث
الرسول عن ماعون بيته؟ وهو الذي يمر عليها اليوم وأكثر لا يجد فيها ما يأكله
أحياناً ، ومع ذلك فإن الرسول يتحدث عن نعمة الماء البارد الذي شربه كما في الحديث
، أم يتحدث عن رحمة ربه به وإنقاذه من عبادة الأصنام و رضا الله عنه والعلم الذي علمه
ربه وإنقاذه من الكفار وهداية الناس ليصدقوا به ؟ ، هذه النعم أكبر من نعمة أن له
بيت وثوب ، وكلها نِعم .
ونحن نعلم أن قريشاً عرضت عليه أن يكون ملكاً
على مكة (وهذا نعيم مادي) .. لكنه اختار أن يُطرد هو وأصحابه وأن يحصروا في شعب
ابن عامر لمدة سنة لا يُكلَمون ولا يُباع عليهم ولا يُشترى منهم (حصار اقتصادي
مادي) ، فماذا اختار الرسول؟
لقد اختار المعنوي ولم يختر المادي الذي سوف يضر
بالمعنوي ، لكن لو قالوا له نجعلك ملكا علينا ونصدق برسالتك فإنه حينها لن يمانع ،
إذاَ ليست القضية قضية كره التمتع بالمادة ، القضية أن يكون التمتع بالمادة على
حساب الأخلاق والعقل والدين ، وهذه الأشياء لا يفرط بها المؤمن ولا العاقل ولا
صاحب الأخلاق مقابل عرض مادي مهما بلغ .
نعيم الجنة المادي ليس على حساب المعنوي ، لأن
الآخرة دار عدل ، أما الدنيا فليست دار عدل ، كيف نتمتع بالثراء الفاحش والتبذير
ونحن نعرف بوجود من لا يجدون ما يسد جوع أطفالهم ؟!
من عنده أخلاق لا يستطيع أن يستلذ بهذا الترف
الزائد عن حاجته وهناك من يتعذب ولا يجد طعاما ولا كساءً ، أما التنعم في الجنة
فليس هناك فقراء يتم هذا التنعم على حسابهم ، إذاً نعيم الجنة نعيم أخلاقي ، وترف
الدنيا والإسراف والتبذير فيها سلوك غير أخلاقي ولا تصلح المقارنة بينهما ، لأنه
يكسر عيون الفقراء ويكسر نفسياتهم ويحسسهم بأنهم أدنى مع أن الله كرّم بني آدم .
في الدنيا يتحقق جمال الجانب المعنوي
بالانفاق من المادي {وابتغ فيما آتاك الله
الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} إلا الضروري منها، وليس التمتع بجمال
الماديات وتقليبها ، لأن الأخلاق مبنية على التضحية ، إذاً لا يمكن أن نكون ماديين
ومعنويين في وقت واحد ، لأن الضدين لا يجتمعان في قلب واحد ، لابد أن يكون جانب هو
المنتصر ، يجب أن نرى جمال الأشياء المادية ليس بذاتها ، بل من خلال مشاعرنا
ومعنوياتنا ، فالإنسان المعنوي لا يستطيع أن يرى جمالاً في لباس وأناقة أحد متكبر
ومغرور وظالم ، فسوف تتأثر تلك الأناقة بالجانب المعنوي رغماً عنه .
لا يمكن أن ترى جمالاً في أداة قطعت أصبعك أو حشرة لدغتك لا سمح الله ، إلا أن نكون قد
نسينا ذلك الوضع أو تغيرت الحالة، بحيث أصبح المغرور متواضعاً مثلاً ، حينها
نستطيع أن نرى أناقته بوضوح ، وإذا أصبحت المرأة الحقودة متسامحة ، عندها تكون ابتسامتها
عذبه ، وملامحها وضاءة .
لو أن سيارة فارهة على أحدث طراز دهست شخصاً
عزيزاً علينا لا سمح الله ، سنجد أنفسنا نكره هذا النوع من السيارات ، وبالتالي
يتأثر جمالها وطرازها على الأقل عندنا .
لاحظ كم هي جميلة التفاحة الحمراء في عين الجائع
، لكن هذا الجمال سيخف كثيرا عند من يعاني من التخمة ، وهذا هو الواقع ، إذاً كل
شخص معنوياته تؤثر في نظرته إلى الماديات وعلى حسب سعة وعمق التأثير نقول عن الشخص
أنه معنوي أكثر من مادي .
لكن علينا أن ننتبه ولا نظن أن هذا الشخص
المعنوي دائماً سيرى الأشياء المادية سيئة ، إنه وتبعاً لمعنوياته يرى جمالاً لا
يراه
الماديون
في بعض الأشياء المادية ، فالطبيب المخلص يحب أدواته التي أنقذ بها أشخاصا كثر من
الموت ، ويرى فيها جمالاً لا يراه غيره ، مثلما كان يعجب الفارس العربي بجواده
وسيفه ، ولا يبيعها بأي سعر يقدم له .
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق