الجمعة، 26 سبتمبر 2014

نظرية الاختيار (5): انفصال الشعورات عن بعضها هو ما يحرك الإنسان.



انفصال الشعورات عن بعضها داخل شعور الإنسان العام نفسه واختلافها بين مشاعر مادية مرتبطة بالجسم ومشاعر معنوية وإنسانية هو ما يحرك الإنسان, فمثلا شخص جائع وقادر على السرقة تأتيه مشاعر دنيا متعلقة بجسمه وتأتيه مشاعر عليا متعلقة بأخلاقه , أي المشاعر المتعلقة بالجسم منفصلة عن المشاعر المتعلقة بالروح, فلا يستطيع شعور أن يمنع شعور آخر من الحضور (قانون), وعلى هذا الأساس تسقط فكرة أن الإنسان ابن لحظته فهو بالأصح ابن لحظتيه (بسبب وجود اختيارين) وليس ابن لحظة واحدة إذا اعتبرنا أن اللحظة شعور, فعندما يشعر الإنسان بالجوع يسيطر عليه شعور الجوع و الرغبة بالأخذ لكن يأتيه شعور آخر متعلق بالعواقب.

انفصال الشعورت عن بعضها هو ما يحرك الاختيار, ولو كانت الشعورات غير منفصلة لما استطاع الإنسان أن يختار الشر ولأصبح اختيار الخير جبرياً لأن الشعور مفطور على الخير, فدائما كل شيء له حكمين عندك وليس واحد. وليس صحيحا مبدأ أن التفاحة الفاسدة تفسد التفاح الصالح فهذا من قوانين عالم المادة لكن لا ينطبق على العالم المعنوي ؛ لوجود اختيارين عند الإنسان, فهناك احتمال تأثر الشخص الفاسد بالشخص بالصالح ، وليس صحيحا أن الخوف يكون على الشخص الصالح من الشخص الغير صالح فقط ، بل كلا الشخصين يمكن أن يؤثر أحدهما على الآخر, فالشعورات لا تتأثر بدون اختيار ويؤيده قوله تعالى : {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وقوله : {لا أعبد ما تعبدون}.

من يكن بطريق الخير ستُعرَض له اختيارات الشر ، وكذلك من هو بطريق الشر سيُعرض عليه طريق الخير ، وهذا ما يؤيد فكرة انفصال الشعورات عن بعضها، لأنه لو لم تكن منفصلة لما صار يأتي لمختار الخير إلا شعورات خير فقط والعكس لمن لم يختر الخير.  

ولو لم تكن الشعورات منفصلة لما استطاع الإنسان أن يتحرك وألمه معه، فيمكن أن يكون على طريق صحيح لكنه متألم، فانفصال الشعورات هو مايساعد الإنسان على العمل والتحرك وألمه معه .أيضا الشعورات المنفصله هي سبب لمساعدة الإنسان على العلاج والشفاء من مشكلة نفسية ما يمر بها, فمثلا من خرج من علاقة حب لكنه لم يَظلم و لم يكن لديه أي مشكلة بأخلاقه وحبيبه هو من خانه، فسيكون لديه شعور بالألم ، لكن شعوراته الأخرى تعطيه راحة وسعادة ، وخاصة لمَّا تكون هذه الشعورات من دوائر عليا.

من هو على الطريق الصحيح قد يمر بآلام لكن الأصل هو الطمأنينة, بينما مختار الأنانية الأصل عنده الألم ، أما ألم من على الطريق الصحيح سيكون بسبب خارجي (الصناعي) وليس من داخله.

حتى تُكرس اختيارك للخير عليك أن تحدد الاختيار الثاني وتفضحه في نفسك, فليس من الصحيح أن الشخص لا يبين إلا اختياره الخير فقط , فبكل موقف أمام كل إنسان اختياران فلماذا تذكر صورة وتترك الأخرى؟ {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي}.

قال تعالى: {إن الإنسان لفي خسر} ، فجسمه في ذبول ، وبيته يتكسر ويتشقق، وسيارته للهلاك ...، فإذا عَرف صاحب اختيار الخير أن كل شيء في خسر ، سيعطيه هذا دافعا لاستمراره في عالم الخير ، لأنه في ربح: {والعصر / إن الإنسان لفي خسر/ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.

شعور التضحية أسمى من شعور الأخذ ، و مختار الصناعي لا يتحمل التضحية بالشعورات الدنيا لأجل الشعورات العليا, بينما الإنسان الطبيعي يتحمل التضحية بها من أجل الشعورات العليا و يتعب إذا فكر بالتضحية لأجل شعورات دنيا. لن يخفف الشعور بالخُسر إلا الشعور بالتضحية كمن يقوم بتجربة مفيدة تخدم العلم , وقد تخسر هذه التجربة ويخسر عليها المال ولن يهتم لأجل ذلك.

إذا كانت التضحية أكبر من الهدف هذا يسبب للإنسان الألم , وهو مايسبب فقدان اللذة, مثل الشخص الذي بذل جهدا كبيرا وسنوات طويلة من أجل شهادة التخرج، سيأتيه شعور بالحزن لأن المجهود الكبير والقلق والتعب كل هذا لا تستحقه الشهادة. 

الاختيار هو أقوى قرار تتخذه بحياتك, وهو أقوى من العقد النفسية، لذلك الاختيار من أسباب علاج العقد، وهو مايغير الشخصية بكل ما فيها، فالاختيار أقوى من العقدة ، لأن العقدة –التي هي من بقايا الاختيار السابق- لا تشبع وليس لها نهاية أو حد، لذلك لا يكون لها علاج قوي الا عن طريق الاختيار.

الاختيار يسبب التأجيل للاختيار الآخر بشكل عام ، فمن يختر الشر ستجده يؤجل في الخير والطبيعي ، فتجده يقول لن أصلي الآن سأصلي مستقبلا ..سوف أجمع الصلاتين ...سوف وسوف ....حتى يترك كل فعل خير أو يترك الطبيعي ، فلن يُظهر رفضا قاطعا للطبيعي في البداية أو يحولها إلى أمنيات ... أتمنى أن أملك عشرة ملايين حتى أكفل يتيما .. أو عشرين مليون حتى أكفل يتيمين .. . كذلك مختار الخير يؤجل الشر .. سوف أنتقم من فلان .. إن وجدت هذا القط في المنزل سوف أقتله .. , لكنه يتحوَّل للمسامحة والرحمة والتأجيل وإعطاء الفرص. فمختار الصناعي سريع في الشر ومختار الطبيعي بطيء في الشر والعكس بالعكس , أي الصناعي بطيء في الخير سريع في الشر والطبيعي بطيء في الشر سريع في الخير, قال تعالى : {يسارعون في الخيرات} وقال: {يسارعون في الإثم والعدوان}.

كل الأمور تقدم وجهتين وكلها تحتِّم منك اختياراً, وكل له اختياراته بين خير وشر, حتى بين الملحدين تجد من يقول أن المسلم أعتبره إنسان ويستحق الاحترام وآخر يقول المسلم متخلف لا يستحق أي احترام, وبعضهم يقول أنا أحترم الأخلاق وآخر يسخر من الأخلاق, فكل شخص له موقف من اثنين في كل شيء. وهذه الاختيارات تتبدل وتتغير وليست ثابتة, فمرة تختار شيئاً سيئا ثم تقوم بتغييره أو العكس .

المصالح والظروف والضغوط تحتِّم اختيارات, والاختيارات تجر لاختيارات أخرى بنفس المجال , فالناس في وسط بانوراما من الاختيارات, وفي هذه الحالة الإنسان بحاجة إلى قطب ومركز في داخله ليِّكون اختيارا كبيرا يجمع الاختيارات التي تناسبه وإلا سيكون الوضع عائما, فإذا أنت اخترت التسليم لله هذا اختيار, وهو اختيار مركزي من الممكن ربط كل شيء عليه, فستجمع جميع الاختيارات الأخرى حتى تناسب هذا الاختيار الأساسي, وإذا قلت أنك تختار لنفسك هنا أنت ستتفكك لأن المصالح تتغير فبالتالي لا تكون اختياراتك متجمعة. وبالتالي من اختياراته ثابتة ومتجمعة هو من اختار التسليم لله, وتكون نفسه مطمئنة, فتتجمع اختياراتك وتكون على شكل سلاسل أو حبال مربوطة وثابتة, ويصير كل ما يجري لك هو عمليات فك ارتباطات قديمة وتبديلها بسلاسل جديدة تناسب الاختيار. وعلامة التوجه السليم هو أنه كلما يمر الوقت كلما تجمع اختيارات أكثر تتواءم مع اختيارك هذا. إذا اخترت لباس معين مثلا هذا اللباس لا يستطيع أن يجعل كل الاختيارات تتجمع حوله, أو من يتعصب لمدينة معينة مثلا لا يستطيع أن يجمع الاختيارات حول هذا التعصب, فستجده يأخذ أشياء من مدينة أخرى ، وكذلك أي تعصب آخر لا يستطيع الإنسان أن يجعله مركزا لكل اختياراته، لكن الإيمان بالله يستطيع أن يجعل اختياراتك تتمركز حوله, وهذا من الخيوط الدالة على وجود الله و على سعة الإيمان وأنه هو القادر على استيعاب الحياة كلها, فاختر أي تعصب معين ستجد أنه لا يمكن أن يستوعب كل حياتك,  لكن الإيمان بالله يستطيع أن يستوعب كل اختياراتك أي كل حياتك, فأنت تقرأ شعر الغزل مثلا ستجد إذا كنت اخترت التسليم لله أنك تكره الغزل المكشوف وتحب الغزل الذي فيه جمال وصدق وعفاف, وتجد الشعر الذي فيه غزل مكشوف قد يعجبك فنياً لكنك لا تختاره, ولن يعجبك بالكامل إلا إذا كان على الخط الذي اخترته. فأحسن شيء هو ما تبع الاختيار. و إذا وضعت نفسك مكان الاختيار الآخر ستفهم لماذا أصحابه يحبون الأشياء التي يحبونها مثل إعجاب عبدة الشيطان بالشيطان, فيقولون عنه أنه دؤوب وأنه لا يمل وأنه عنيد ويفعل ما يريد وليبرالي وعلماني وأنه ذكي جدا ....الخ، فاختيارهم للخط الآخر جمّل الشيطان بأعينهم.

لهذا, من يغير اختياره سيكره الكثير من الأشياء التي كان يحبها ويحب الكثير من الأشياء التي كان يكرهها, لهذا من يختار الأنانية لن يستطيع أن يحب الشعر العفيف الطاهر, انظر إلى شخصية عمر بن الخطاب مثلا فعمر الذي كان في الجاهلية ظالماً وجباراً ودفن ابنته وهي حية أصبح يبكي على المنابر ويطبخ للمساكين, فالاختيار كما قلنا يؤثر بالشخصية.
  
العقدة النفسية من بقايا اختيار سابق, والاختيار الصحيح هو ما يعالج هذه العقدة, وهي تنقلك إلى الاختيار السابق لهذا تكره نفسك في هذه الحالة, فالعقدة التي تعاني منها في اختيارك الجديد تذكرك باختيارك القديم.

صاحب الاختيار الآخر (الأنانية) يحرم نفسه وشعوره من لذة الفضيلة. هناك فكرة السائدة عند الناس و هي أن الشهوات هي التي تُطلب ومن يمنعها هو المحروم, لكن الإنسان فيه دوائر عليا تحب الفضيلة وتريد أن تعيشها, فبالتالي ترى عقول الصناعيين الشخص الطبيعي محروما بينما شعوراتهم تتمنى أن يكونوا مثله ويرونه قويا, فهو لم يستطيع أن يسيطر عليها إلا من قوة, والتعاسة لا تصنع قوة, والمؤمن مطمئن ومن هنا تأتي قوته, وهنا فكرة خاطئة عند الناس حيث يرون أن المؤمن إنسان متحمل وصابر فقط ولا يعلمون أن الله كرَّه للمؤمن الكفر والفسوق والعصيان وأنه مطمئن من الداخل.


الجميع صابر, الأناني يصبر على كتم الشعور وحرمانه من الفضيلة, قال تعالى: {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون}, والجميع لديه رغبات ممنوعة, فالمؤمن يرى الشهوانيين محرومين والشهوانيون يعتبرون المؤمنين محرومين, فمن الأفكار الخاطئة مثلاً: أن المؤمنين محرومين والدنيا جنة الكافر .. من قال بأن الكافر يعيش في جنة ؟


هناك تعليق واحد :

  1. السلام عليكم ورحمة الله
    بارك الله فيكم ، من خلال موضوع درء التضارب في النظرة للنفس ، الذي أجبتموني فيه توجهت لقراءة هذه السلسلة المفيدة ، وخصوصا هذا الموضوع كنت أحتاجه ، أنّ الإنسان في داخله ممكن أن يحمل شعورات متناقضة لكن الاختيار هو من يحدد شخصيته
    بالنّسبة لملاحظتكم الأخيرة حول قول السلف رحمهم الله : أن الدنيا جنّة الكافرة ، ليس معناه أنهم سعداء في هذه الدنيا ولا أنّ لذتهم غطّت عن اللذة الروحية التي يشعر بها المؤمنون ، ولكن كما قرأت شرحها قبلا ، أنّ عذاب النّار الموعود بها الكافر يُعتبر جنّةً مع ما كان يعيشه في الدُّنيا.
    وإلا فهو محروم من لذّة الطاعة والقرب من الله في الدنيا ، لذلك نرى الكثير من أصحاب الملايين والغارقون في اللذة تكون نهايتهم الانتحار عفانا الله

    ردحذف