الخميس، 25 سبتمبر 2014

هل خيريّة الإنسان تكفيه عن الإسلام ؟

رد على سؤال زائر بالمدونة:

قرأت عدداً من المقالات على مدونتكم ووجدت فيها الكثير من الإجابات التي تسكن الأسئلة المتجولة بالعقول ، وبها تأصيلات قيّمة للغاية
عندي تساؤل دائماً ما يدور في ذهني أعتقد أني أعرف إجابته ولكني أريد من يحرر تلك الإجابة بشكل أدق وأكثر تأصيلاً
الناس على قسمين ، منهم من اختار طريق الخير ومنهم من اختار طريق الشر ، فهل خيرية الإنسان لا تكفي ؟

أقصد إذا كان شخصاً هندوسياً ولكنه إنسان خيّر ، أليس هذا مراد الدين ومقصده ؟ وقد أتمم هذا الإنسان مراد الله دون أن يسلم ؟
هل علينا أن نقسم الناس بحسب الدين أم بحسب مقاصد الدين ؟ 
أعرف أن مقاصد الدين منها الاعتقاد في الله تعالى وعبادته وحده لا شريك له 
ولكن هل الإنسان يصنف على أنه في خانة الشر إذا لم يسلم؟؟ أم أنه إنسان خير لكنه ظالم لنفسه لاعتقاده الخاطئ في الله ؟
وكيف في نفسي أتعامل مع ذلك الإنسان الخير غير المؤمن ؟

الرد :


جميل ورائع فهمك وهذه المقدمة التي بدأتي بها .. بقي نقطة : هل هو بخيريته حقق مقاصد الله ؟ هل تكفي الخيرية ؟ لبُّ الموضوع والسؤال هو  : هل تكفي الخيرية أو نية الخير لتحقيق الخير ؟

الخير له جانبان : جانب نفسي أو قلبي، وجانب خارجي أو عقلي. قد يُفعل الشر أحيانا بدافع الخير، وهذا ما يسمّى بالتلبيس. اذن حتى نحدد الخير يجب أن ندرس خيريته كنيّة وخيريته كعمل وفكرة. لأنه ما الفائدة من نية خير تنتج الشر ؟ والمقصود أصلا هو البعد عن الشر، سواء بنية شر أو بنية خير، المهم ان نبتعد عن الشر وسوء الاخلاق مع الخالق والنفس والمخلوقين والمخلوقات، لا بد من هذه مع بعض حتى تتحقق الخيرية كاملة ...

لنبق في مثالك حول الهندوسي الطيب : هل أدى بسبب نيته الحسنة ما يريده الله ؟ هل ابتعد عن أي شر بسبب نيته الحسنة فقط؟ هناك نية حسنة وهناك فكرة حسنة تحتاج لها، وهناك نية سيئة وفكرة سيئة، وهناك نية سيئة وفكرة حسنة، وهناك نية حسنة وفكرة سيئة، وهذا ما يمكن أن يُنتقد به هذا الهندوسي الطيب، اقصد النوع الأخير. الطفل مثلا قد يحرق المنزل بنية حسنة .

الهندوسي مثلا : هو يؤمن بتعدد آلهة وشركاء مع الله، بالملايين من الآلهة الهندوسية، وهل في حق الله و اخلاقيا مع الله أن يُشرك به أحد واحد ؟ فما بالك بملايين ؟ الله موجود و حي وسميع وبصير، ثم تذهب إلى غيره لتسأله حاجتك ! فالله يعطي والشكر والسجود لغيره ! فهل هذا من الأخلاق مع الله ؟ مع أنه يقر بوجود اله عام هو الذي خلق. اذن عنده فكرة غير خيّرة فيما يتعلّق بالله .. هو يؤمن أيضا بالطبقية، وكل انسان يأنف من الطبقية، خصوصا أن في الهندوسية طبقة منبوذين لا يحق لهم أن يُرُوا وجوههم لطبقة البراهمة، لهذه الدرجة ! أليس في هذا تكبر براهمي و هم بشر مثلهم ؟ هذا غير التبتل وهجر الزوجة في مرحلة من العمر والصيام الحاد والتسول وترك العمل ، الخ من الافكار الغير منطقية او اخلاقية، مثل تناسخ الارواح وغيرها ، هل كل هذا لم يزعجه ابدا وهو يحب الخير والعدالة ؟ هذا بينه وبين ربه ..

والبراهمة للمعلومية هم أزكى طبقة في الهندوسية، ومع الاسف هم الاكثر تكبرا بموجب هذه الطبقية التي كرسوها في مجتمع الهندوس واصطنعوها لانفسهم، وليس كل براهمي متكبر، لكنه راض بهذه الفكرة، والراضي كالفاعل من حيث الواقع لا من حيث حساب الله، الله يبتلي السرائر وهو الوحيد الذي يعرفها .

إن المنبوذ عندهم ينجّس الإناء أو البئر إذا أنزل دلوه فيها. هل هذه الفكرة الاجتماعية فكرة خيرة أم شريرة ؟ اذا كان ذلك الشخص الطيب يتبناها هل يستمر طيبا وهو يمارس تفرقة عنصرية ويُشرك مع الله مخلوقاته ؟ هل استمرت الخيرية هنا أم انجرحت ؟ من هنا نفهم الحاجة إلى الدين الصحيح حتى تتحقق الخيرية ونضع النقاط على الحروف فيها . ليس كل من نوى خيرا عملَ خيرا . نية الخير تنتج عدم رضا مع الشر، حتى لو كان سائدا ، وصدق الله حين قال : "كنتم خير أمة اخرجت للناس" ، وهذا الكلام ليس لكل من قال : أنا مسلم ، فربما هندوسي أفضل منه تعاملا وأخلاقا وحبا للخير، و رب مسلم شرير ظالم يركض للشر ويهرع وراءه ..

نعود إلى نية هذا الشخص الخيّر كما وصفتيه، فهو أحد أمرين : إما أنه لا يعرف وجود شر في مثل هذه الافكار التي يؤمن بها، أو أنه يعرف لكنه غير مستعد للإصلاح ولا للترك .. إن فعل الثانية فقد فعل نية شر تصادمت مع نيته الخيرة الأساسية وناقض نفسه ، و إن كان في الأولى فهو يُلتمس له الأعذار، لكن ليس على طول الخط، فهو لديه إحساس أيضا ينبّهه على وجود الظلم أو الخطأ، فهل استمع اليه أم لا ؟ هذا شيء بينه وبين ربه . وهل اذا ذكِّر يقبل أم لا يقبل ؟  أما موقفنا منه كمسلمين فهو موقف يجب ان يكون حسنا، فالقرآن أمرنا بالقسط مع المخالفين، وبالبر ايضا، مع العدالة للذين لم يؤذونا في ديننا ولم يقاتلونا، و له حق النقاش والدعوة بالتي هي احسن، وحقه علينا أن نميزه عن الهندوسي الآخر الذي اختار الشر، ولا نعاملهم بدرجة واحدة.

بالتالي خيريّة الإنسان لا تكفي ، في حساباتنا كبشر وعند الله ، بل لا يُحكم بخيرية النية حتى تتحقق خيرية العمل أو الفكر . كيف نقول عن أحد أنه خيّر وهو يتبني أفعالا أو أفكارا سيئة ؟ نعم هناك نية عامة للخير عنده و أرضية للخير، هذا صحيح.

النيات على نوعين : نية عامة ، وهي  ما نسميه الاختيار، وهذا يكون عند المسلم وغير المسلم . و نية خاصة أو تفصيلية أو عمليّة . كثيرا ما ينجح شخص في النية العامة، لكنه يفشل على درجات في النيات التفصيلية. بل كل الأعمال الشريرة سِيـْق لها مقدمة من النية العامة الخيرة، لدرجة أنك تضحك أحيانا من الربط بين الخير والشر. مثل ذلك الارهابي النرويجي الذي قتل 70 طالبا من اجل ان يوصل رسالة تحذيرية مفادها أن "الإسلام الإرهابي" سيفعل هذا بكم يوما من الايام !!

نية الخير العامة تدفع صاحبها لنيات تفصيلية تتناسب معها، وإلا فادعاء نية الخير سهل جدا، حتى المجرمين يدعونها ويتحججون بها. النية الخيرة تدفع صاحبها إلى البحث عن الحقيقة التي تتناسب مع صفاء النية الخيرة، لا أن يقبل الأوضاع كما هي، بل ويحترمها وهي لا تتناسب مع نياته الأصيلة ! هنا دور العقل ، وقد افلح من زكاها ..

وعلى أي اساس قلتي : الهندوسي الخيّر ؟ هل لأنه فقير أو مسالم اصبح خيّراً ؟ هل سيستمر في الخير والسلميّة لو كان قويا و قادرا ؟ لا نعلم .. ليس كل ضعيف خيّر، ولا كل ساكت خيّر، ولا كل تارك للسرقة عفيف .. حتى قال المتنبي :

والظلم من شيم النفوس فإن تجد .. ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلمُ ..

وأنا لا أؤيده على هذه المبالغة التعميمية، لكن على صاحب الخير أن يظهر الخير ويقف مع أهل الخير ويفرح بكل أحد فيه خير، ويعتبره أهله أو اقرب ، حتى لا يُتهم بالشر ، فالسرائر لا نعرفها الا من الظواهر.

لو تجمّع شرفاء العالم على اختلاف أديانهم، واحترموا ما يحسّون به لتغيّر العالم للأفضل. ما قيمة نية خير خاملة لا تتحرك ؟ مع الإقرار بوجودها .. أصحاب نية الشر نشطون ويعملون، وكان هذا أولى بأهل الخير. ولا يمكن لأحد أن يغلق الطريق على نية الخير وفعل الخير، ولو أُغلِقَ الطريق يوجد طريق آخر وآخر وآخر .. فالخير كوجود هو أكثر تنوعاً من الشر، ولا يوجد فكرة شر إلا ولها مقابل في الخير .. هناك من لا يفعل الشر الفلاني، ولكن يبدو منه إعجابٌ فيه، فهل نقول أنه خيّر؟ فعدم فعل الشيء لا يعني رفضه دائما ..

وإذا كان يوجد خير كامل بدون رسالات الأنبياء، فما فائدة أن يرسل الله الرسل ؟ لأن الأخلاق لا تعني فقط أن تعامل الناس معاملة حسنة. كيف تعامل الناس معاملة حسنة وتعامل الخالق معاملة سيئة ؟ لا نقول أن أي أحد غير مسلم نيته فاسدة وباطلة، لكن لا نقول أيضا أن خيريّتهم كاملة بدون إسلام . من كان فيه خير عليه أن يُظهر نية الخير ويحترمها ويسعى لأجلها، لا أن يلوثها بأفكار محسوبة على عالم الشر وتصرفاته .. الله لا يضيّع أي خيريّة عند أحد ، سواء عند مسلم أو غير مسلم، لكن الله سيحاسبهم أيضا على إهمال التزكية او القبول او الإقرار بالخطأ أو الشر والتكاسل عن البحث عن الحقيقة، بينما لا يتكاسل في البحث عن المال، وسيكون الموقف صعبا.

النية الخيرة تحتاج إلى تظهير، وليس إلى كبت. وحساب الله دقيق وعادل، فهناك من نوى الخير وعمل له وجاهد لأجله، قال تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) أي جاهدوا وتعبوا ، و هناك أصحاب النوايا الحسنة، لكنهم متخاذلون وقانعون وخانعون، أيضا سيُسألون مع مراعاة حقهم، والذين لم يرتبطوا بالخير أو يعتقدوه أساسا لحياتهم، أيضا سيُحاسَبون.

من الصعب أن تقول عن أحد أنه مختار للشر، ومن الصعب أن تقول ايضا عنه أنه مكتمل الخيرية . وهذا شأن الله ، هو الذي سيحاسب وهو أدرى وأعلم، يغفر أو لا يغفر ، ومن الصعب ان تقول أن هذا في الجنة أو في النار، مع أن الحساب مقصور على الله وحده ومن شؤونه، فكيف نصل الى النتيجة قبل الحساب ؟ القطع بأن أحدا اختار الخير هو قطعٌ بدخول الجنة، وهذا من شؤون الله . المسألة ظنية ونسبية وبالنسبة لما نعرف. فكل شيء فيه عدم ثبات و امكانية تحول، لا يصلُح فيه القطع، فالشيطان موجود. 

إن من أقوى علامات النية الصالحة هو قبول الخير والحق إذا تبيّن، (قالوا ربنا إنا سمعنا مناديا ينادي للايمان أن آمنوا بربكم فآمنا) ..  والنفاق ليس له حد، يستطيع أن يصل إلى أمور عالية في الخير، رب شخص نيته فاسدة وقرر أن يتمظهر بالخير بأشد درجة، حتى يصل الى مصلحة معينة في المستقبل ، لكنه مات أثناء تنفيذ هذه الخدعة. بالنسبة لنا كبشر سنقول انه مباشرة في الجنة، فهو شخص صالح وخيّر ومات على ذلك ، ولن يختلف في خيريته اثنان .. هكذا نعرف ان حساب نيات الناس لا يصلح أن يُجريه إلا الخالق ..

هناك تصعيب على الإنسان إذا اعتقدنا سقوط النية باختلال العمل او نقصه، فهذا يفتح باب للشيطان ، فإذا عجز الانسان عن اداء بعض أفعال الخير سيُفتح الباب للشيطان ويقول له : أنت لم تنوِ الخير حقا، فاذهب إلى عالمك المناسب عالم الشر .. لهذا يقال : لا تُحرجوهم فتُخرجوهم، والله يقول : "ما جعل الله عليكم في الدين من حرج". واعتقد أن التقصير في البحث الفكري في الخير أشد وأسوأ من التقصير في العمل؛ لأنه أيسر، ويستطيع الإنسان أن ينوي الفكرة المناسبة، وإن لم يكن باستطاعته تطبيقها. وجود الاخطاء والتقصير جعل الله له مخارج من خلال التوبة والاستغفار أو المكفّرات أو عمل صالح آخر يكافح هذا الذنب. فيترقّع الفتق الذي صار في النية الكبيرة.

الفكرة الخاطئة السائدة بتحديد الشر بأعمال إيجابية معينة من الشر نجدها ترتبط بمصالح الآخرين ، فالخيّر في الغرب مثلا هو الذي لا يقتل ولا يسرق ويطبّق النظام ويقف في الطابور ويتكلم بلطف وانتهى الامر .. لسنا نحن كل شيء حتى يكون التعامل معنا هو كل شيء، هذه فكرة متكبّرة . الخير أوسع منّا كبشر. التعامل الحسن مع الناس جزء من الخير ونسميه الجزء المتعلق بالآخرين الأحياء. لا يمكن حصرُ الخير في جزء منه. هذا نسميه الخير التابع للنظرة العلمانية.

مثل غاندي ، نسميه خيّر غير مكتمل الخيرية، فهو رفض الإلحاد نعم، لكنه رفض الإسلام أيضا بدون مبرر منطقي، وتمسّك بالهندوسية رغم أنه انتقد و غيّر بعض الأمور فيها. أما كفاحه السلمي فهو لا شك جيد، لكننا لا ننس أنه ضعيف أمام دولة لا تغيب الشمس عن مستعمراتها ومدافعها. وكان قاسيا على نفسه وزوجته، إذ قرر فجأة هجرها لدخوله في عبادة هندوسية، وهذا عمل لا أرى امرأة في العالم تراه خيّرا .. لكن لا شك له فضله و كل المبادرات الجيدة، لكن إطلاق كلمة "خيّر" علينا ألا نطلقها إلا إذا شمل تعامله الأخلاقي مع الله قبلنا حتى لا تكون نظرتنا علمانية ونهتم بأنفسنا فقط. حق الله أعظم من حقوقنا ..

إذا لم تكن أخلاقيا مع الله فلن تكون أخلاقيا معي أنا الضعيف .. الله يقول (اعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) وقال (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) . طريق الخير واحد، أي خروج عنه يكون خروجاً إلى عالم الشر، وهو الصراط المستقيم ، وهو الخير الكامل أو الشامل، والذي يشمل الخالق والنفس والمخلوقين والمخلوقات. حتى ظلم النفس والقسوة عليها من الظلم.

اذا أردنا أن نكون دقيقين : لا نحكم بالخيريّة حتى تتحقق الخيرية الشاملة ، ولا أقول الكاملة. لأنه لا احد يستطيع أن يكون كاملاً، ولكن الجميع يستطيع أن يكون شاملاً . قلت لصاحبي و أنا صغير : لنذهب لنصلي ، فقال : سوف آتي لأجلك أنت فقط .. لم أنس الموقف، وشعرت بنفور كبير منه، لم اعرف ما السبب إلا الآن .. هو سيصلي لأجلي وليس من أجل من خلقه و رزقه، مع أنه يقر به، أي ليس لديه احترام لربه، كيف سيحترمني وهو يقرّ أنه ربه ؟ من هنا جاء خوفي منه ..  

"ما اكثر الخيّرين حين تعدهم ** لكنهم في النائبات قليل .."

بل إن كثيرين من يكون خيرهم أن يكفّوا شرّهم ..

كل الناس يحبون الخير ، لكن قليل منهم من يستعد لأجله ويتحمل بسببه .. أكثر معاناة الخير قادمة من الخمول والاتكال على هذه النية العامة .. ومن الشر تركُ الخير اذا وُجدت الاستطاعة .. الناس يختلفون في شجاعتهم وقدرتهم وعزمهم .. البتّ في حساب الناس صعب جدا على الناس ، ولهذا الله تكفـّل به. قال تعالى (ليس عليك من حسابهم من شيء) وقال (وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) . و قال تعالى (هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين) .. الله هنا يخاطب الرسول والمؤمنين، أي الله أعلم منك ومنهم بذنوب عباده. بالتالي لا نستطيع ان نعرف كل الذنوب التي قد يفعلها الإنسان، لكن نعرف الذنوب التي تتعلق بنا، كأن يكون سرق او قتل او فعل ، فقط .. لأن المسألة فيها نيات. والنيات لا يعلمها إلا الله . وقصة موسى مع الخضر تبيّن للإنسان أنه لا يستطيع أن يعلم كل الخير، وبالتالي لا يستطيع أن يعرف كل الشر الذي يفعله الآخرون ، ومنها الذنوب.

أن نعرف الخير أو الشر هذا شيء، وأن نتخذ إجراءات عليهما هذا شيء آخر ..   

لا نعلم خيرية الإنسان إلا باستباقه للخيرات، والبحث وتحمل الاذى لأجل الخير، ونقده لذاته وقبول الحق وقدرته على التغيير ولو على حساب نفسه، والوقوف مع الأخيار في كل العالم دون مراعاة لمصالحه. انظري من تصفينهم بخيّرين مما يجري في العالم، الكل يشتكي من خمول الطيبين والشرفاء في العالم، ونشاط اهل الشر حتى صار اهل الخير اتباعا لهم، وصار العالم تحكمه القوة والمصالح، وهذه ليست علامة خير، المفروض ان يحكمه العدل والحقوق والتعاون والسلام، وهذا بسبب عدم اكتراث الخيرين الخاملين بما يجري من ظلم، سواء في الافكار او في الواقع او السياسة والمجتمع, ليس كل ساكت خيّر، بل قد يكون شريراً بسبب سكوته.

و طبعا : ما قيمة الدين بدون مقاصده ؟ الخيّر الحقيقي لا يكفي أن يكون يحب الخير، بل يبحث عنه، ولا يريد غيره، ويلتزم به كلما تبين له في أمر، هذا من نسميه خيّرا. هناك مختار للخير نشط، وهناك مختار للخير خامل. يجب أن نحترم أيضا كلمة خيّر، لا أن نوزعها بالمجان، ونقدّمها بالشكل الكامل لأحد بسهولة، لكن نقول أن اساسه خيّر فهذا ممكن في احيان كثيرة، لأنه لا يوجد أحد نيته شر بذاته أصلا. إذن احترام الخير هو الخير، وعلى مدى البعد والقرب منه بالشكل الشامل يتحدد الموقع. الله قال عن عاقر الناقة (اذ انبعث اشقاها) أي اشقى قوم ثمود الكافرين الجاحدين، فحتى للكفر درجات، والتهاون بالخير ينتج الشر. نستطيع أن نقول : هناك مختار للخير، وهناك تارك لاختيار الخير بدلا من مختار للشر. ثم نأتي لننظر تحقيقه وتصديق أفعاله لنيّته، اذن الباحث عن الخير المكتفي به ولو على حساب نفسه هذا نسميه خيّر، ولهذا تعبير القرآن أدق من تعبيرنا بخيّر وشرير : الحق والباطل ، لأن كلمة الحق أشمل من كلمة الخير، لأن الخير يدور في غالبه حول العلاقة بالآخرين أو الحيوان والبيئة، لكن الحق يشمل أمورا لا علاقة لها بالآخرين. حتى إنه يشمل الحقائق العلمية. فكلمة الخير أوسع من كلمة أخلاق كمفهوم عام، لأنها تُدخل الرفق بالحيوان والبيئة، وكلمة أخلاق تقريبا محصورة على البشر، هذا كمفهوم سائد .. وكلمة حق أشمل منها و أوسع منها جميعا .. فالأخلاق والخير داخلة في الحق، كل عمل أخلاقي هو عمل منطقي، والمنطق حق، فالشكر مثلا حق و واجب، لأنه ربط سبب بمسبب، فالمسألة منطقية ..

والنوع الثاني ذو نية خيّرة لكن أهمّتهم أنفسهم وتقاعسوا، فيقال : يرجى لهم خير، بدل أن يقال بأنهم اخيار .. ومنهم فئة المؤلفة قلوبهم التي جعل القرآن لهم حصة في الزكاة، مع المعاملة الحسنة والبر والقسط، لكي نساعد الخير في داخلهم أن يخرُج من كبته وخجله.

ونوع ثالث غير مرتبط أصلا بالخير الا إذا خدم مصلحته. وهو من يوصف بمختار الشر، وقد يفعل الخير احيانا، ولكن للمصلحة، والقرآن قسّمهم ثلاثة : السابقون، و اصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال . فالسابقون ثلّة من الأولين وقليل من الآخرين ، و أصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين .. مع ملاحظة كلمة "قليل" للنوع الاول.

لو كنا حقا نعرف أن هذا الشخص مختارٌ للشر بالكامل لكان على الآخرين التخلص منه، لكن لا أحد يعاقب على النية. هذا يدل على انها من شؤون الله وأن حكمنا ظني، فقاضي المحكمة لا يحكم بموجب إحساسه بأن هذا مجرم، بل يبحث عن أدلة مادية .. يقال : نحسبه كذلك والله حسيبه، و ايضا : لا نزكي على الله أحدا .. لكن نحن نتلمس بعض الشواهد والعلامات الخيريّة أو الشرّيّة بالنسبة لنا والتي تنفعنا نحن ومحتاجون لها حتى نعرف كيف نتعامل مع الآخرين، وليس بالنسبة لله. فنحن لا نعلّم الله بذنوب عباده أو حسنات عباده.

أرجو من الله أن أكون أصبت وأجبت عن سؤالك ، واستأذنك في نشر هذا الجواب مع سؤاله، ليستفيد منه القراء، فهو سؤال عميق، ولا شك أنه يشغل بال الكثيرين ..

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق