إعجاز القرآن له
أوجه كثيرة, المشهور منها الإعجاز اللغوي والتعبيري والبلاغي والعلمي والقصصي
والعددي ..إلخ. لكن هناك أوجه أخرى للإعجاز في القرآن لم تلق حقها من الاهتمام رغم
أهميتها.
إن كل من يحاول أن
يصنع مثل القرآن سيحاكيه أي يكون عالة عليه ويقدم نسخة مشوهة منه, طريقها إلى عالم
النكتة والفكاهة أكثر اختصار من طريقها لعالم الإقناع والخشوع. المشكلة أن كل من
أراد أن يأتي بمثله سيضطر إلى تقليده, وكل مقلد يثير الضحك حتى في تقليد الأصوات.
كما يفعل هذا الملحد الذي يصر على أن يقول مثل القرآن ويكسر تحديه ويصر على أنه
جاء بأفضل, بينما هو يكسر حاجز الكآبة عند القارئ ويجعله يضحك! :
هناك من يقول بإعجاز
الصرفة وهو اعتقاد خاطئ (وهو أن الله صرف العرب أن يأتوا بمثل القرآن رغم
قدرتهم -وأصلها فكرة هندوسية يقولونها عن كتبهم المقدسة-). فلو كان الله
صرفهم كي لا يقلدوه كيف يتحداهم؟ بل نسميه إعجاز إغلاق الطريق والتكامل, فمن أراد
أن يصنع قرآنا سيكون عالة على القرآن في مضامينه والأمور التي تحدث عنها فضلا عن
أٍسلوبه, ويتحول إلى نكتة تقليد. لهذا كان يربأ الكفار بأنفسهم أن يكونوا نكتة
للناس رغم فصاحتهم. مثلا القرآن تكلم عن جنة للأخيار ونار للأشرار, ماذا سيضع من
سيماثل القرآن غيرها؟ فإن جاء بشيء يشبهها صار مقلد ضُحكة وإن جاء بشيء غريب صار
ضحكة أكثر, كأن يجعل الأخيار في النار والأشرار في الجنة! القرآن وصف الله بصفات
القوة والعدل والرحمة ..إلخ, بماذا سيصف إلهه هذا المقلِّد؟ سيكون مسبوقا ومقفل
الطريق عليه, هذا إعجاز الانصراف وليس إعجاز الصرفة!
أي موضوع تناوله
القرآن أسقط كل الكتب السابقة التي تكلمت حوله, فانظر لكلام القرآن عن عيسى وأمه وانظر
كيف تكلمت عنه المسيحية, أيهما أقرب للعقلانية أكثر؟ انظر كيف تكلمت التوراة عن النبي
إبراهيم وانظر كيف تكلم القرآن عن إبراهيم, وقس على هذا بقية الأنبياء عليهم
السلام, فالتوارة تجعلهم زناة وشاربي خمور أو مستغلين أو ديوثين, وانظر للقرآن كيف
يجلهم ويرفع قدرهم الأخلاقي.
كأن القرآن يقول
هذه هي الدنيا وهذا هو الإنسان وهذه الآخرة وهذا هو الله, هيا تكلموا! ماذا
ستقولون أفضل من القرآن؟ القرآنُ {قول فصل وما هو بالهزل} أي فصَل بين الموضوعات
وانتهى, وليس بعد الفصل فصل وليس بعد الفصل إلا الهزل, وكأنه يشير إلى أي قول يريد
مماثلته بأنه هزل.
أحد خصائص القرآن
أنه يعطي إضاءة على الأشياء المادية لكنه لا يلتزم بها, بل يهتم بالغاية المعنوية
من ذكرها, مثل آية:{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ
خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ
وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} ثم يقول: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ
بِعِدَّتِهِم} فهو لم يقدم المعلومة المادية بدقة مع أنه يعرفها فهو {يعلم
السر وأخفى} لكنه لم يقدمها لنا, بينما نجد في التوراة لأنها محرفة من بشر مليئة
التفاصيل المادية, ولكن القرآن يهتم بالغاية من ذكرها, وكأنه يقول: ولو عرفت كم كان
عدد أصحاب الكهف مثلا ماذا ستستفيد؟
من يستطيع أن يحاكي
أسلوب القرآن؟ لا تستطيع فبشريتك تمنعك, فهل تستطيع أن تقول كما في الآية السابقة أنهم
كانوا ثلاثة أو خمسة أو سبعة ثم لا تقول المعلومة الصحيحة وأنت تعرفها؟ القرآن هنا
كأنه يقول: لا تفكر بطريقة مادية, فماذا يهم لو كانوا سبعة أو كانوا عشرين؟ لاحظ
أن كل من يتعاطى القرآن يبحثون عن التفاصيل المادية كأن يتساءلون : من هو ذو
القرنين؟ وأين كان؟ فالبشر يهتمون بالمعلومة وإذا لم يقولوها لا يشعرون أنهم قالوا
شيئا. لهذا القرآن ليس من صنع بشر, لو كان من بشر لعمل على إرضاء فضول البشر بهذه
المعلومات, لهذا تلاحظ المشناة (العلوم التي تنشأ حول الأديان كالسير والفقه
وغيرها) تهتم بإرضاء هذا الفضول البشري, بينما القرآن لا يستجيب لهذا الفضول,
فكثير يتمنون أن يعرفوا من هو ذو القرنين أو يأجوج ومأجوج ولكن القرآن لم يذكر
شيئا عنها. انظر لفن الرواية مثلا تجده يشبع القارئ بالتفصيلات مادية والمملة
أحيانا لأنها من بشر, و انظر للمسلسلات التلفزيونية تجد متابعيها وخاصة من النساء
تهتم بالتفاصيل المادية أكثر من مضمون القصة, ولكن القرآن جاء بالعكس يهمل هذه
التفاصيل ويركز على المعنى, لهذا فالقرآن يتلافى عيوب تفكير البشر. معنى أن القرآن
معجز هو أنه شيء غير بشري و لا تستطيعه عقول البشر, لأن قدرة البشر وطريقة
واهتمامات البشر معروفة ومتشابهة, البشر مربوط ببشريته. لا يستطيع البشر أن يخرج
عن كونه بشر ولا عن مشاكل البشر ولا عن اهتمامات البشر.
القرآن بالرغم من
طوله ليس فيه تفصيلات مادية. قصة موسى مثلا تكررت فيه سبع مرات ولو كانت من بشر
لأتى بقصص غير قصة موسى, لو كان بشرا لقال كلما أحضر قصصا متنوعة كلما كان أكثر
جذبا للناس, كون موسى تقابل مع فرعون وألقى مع السحرة تكررت أكثر من مرة, لماذا؟
وهي في كل مرة تؤثر في مكانها ويُنظر لها من جانب.
قد يأتي ملحد ويقول
أنه يستطيع أن يحضر آية مثل القرآن, مثل آية {والعصر} فيقول (والزمن), أو مثل آية
{الم} فيقول مثلا (ج ه و). لكن كلمة آية تعني عبرة وفكرة متكاملة وليست الآية
المرقمة في المصحف.
القرآن ليس كتابا
علميا كما يتصور الماديون, ولو كان علميا لما كان معجزا, لأنه لو كان علميا لصار
مثل تفكير البشر فالعلم يستطيعه البشر وعندهم كتب علوم فكيف يتحداهم بكتاب علمي؟
من أعظم أسرار
القرآن التناول..التناول.. التناول.. كيف تناول الموضوع بهذا الشكل؟ هنا الإعجاز.
لو تقرا كتب الديانات الأخرى وتقارنها بالقرآن لن تجدها مثله.
القرآن يحيلك على
الطبيعة والتأمل فيها ويعلمك الفلسفة: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} {انظروا إلى
ثمره إذا أثمر وينعه} {انظروا ماذا في السماوات والأرض}.. أي افهم وتفلسف. وهذا
الكلام هو أكثر شيء أثر بي وأدخلني عالم الفلسفة, فمن أتى بهذا المطر ومن جهز هذا
الكون؟ ومن صنع جسمي وركب العظام على بعضها وجهز الأسنان لمضغ الطعام..إلخ؟ من
السخف أن نقول أنه صدف عمياء, هذا عمل مجهز لغاية, من صنعه؟
القرآن قادر على
بناء عقلك وجعله عقلا جبارا. انظر مثلا لآية: {أخُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون؟}
وانظر إلى الملحدين الآن يقولون أننا جئنا من عدم, فهم لم يخرجوا عن كلام القرآن.
الداروينيون يقولون أن الأحياء تتطور من صدف عمياء (انتخاب طبيعي) أي "من غير
شيء", والتطوريون أتباع لا مارك يقولون أن الوظيفة تخلق العضو أي "هم
الخالقون" فالزرافة مثلا هي من خلقت رقبتها الطويلة!
انظر لتحدي القرآن
بأن يعيدوا الحياة لذباب ميت مثلا, هل استطاع البشر؟ و هل هناك أمل أن يستطيعوا؟
هذا كلام إلهي معجز كيف يستطيعه بدوي في الصحراء قبل ألف وأربعمئة سنة ولم يكن حتى
يختلط بالناس ولا يقرأ؟! مع أن البشرية الآن ترى أنها في قمة هرم العلم إلا أنه لا
يوجد ولا خيط واحد يؤيد إمكانية خلق حياة.
من أنواع الإعجاز
في القرآن: "إعجاز التحديد", مثل تحديد البشر إما بأخيار أو أِشرار
وتحديد مصيرهم إلى جنة أو نار, {إما شاكرا وإما كفورا}, وفعلا الواقع لم يخرج من
هذا الشيء. وأيضا حصر العبادة على الله أو الشيطان وما يتعلق به من الطاغوت وهوى
النفس. وأيضا مثل آية {أخلقوا من غير شيء أم هم الخالقون}, فحدد المجالات التي
ممكن أن يفكر بها كل كافر بالخالق في قضية أصل الإنسان وفعلا لم يخرجوا عنها, وملاحدة
العصر يقولون بهما معا فهم خلقوا من غير شيء في البداية وهم الخالقون أي المطورون
لأنفسهم إلى حد السوبرمان النيتشوي الذي لا يُقهر ولا يعرف الضعف لا من بين حقويه
ولا من بين ساقيه!
هناك إعجاز آخر
ممكن أن نسميه: "إعجاز الإضراب أو الترك", فحتى ترْك القرآن لموضوع وعدم
تكلمه عنه يكون فيه إعجاز. مثلما أنه ترك الكلام عن منكري وجود إله (الإلحاد)
وفعلا الإلحاد كحقيقة غير موجود لأن الله خلق الإنس والجن ليعبدوا. ومثل تركه
الكلام عن تأثير التربية والظروف وعدم ربط الخيرية أو الشر فيها.
ويوجد أيضا إعجاز أسميه:
"إعجاز الاستبدال", مثل ترك فكرة السعادة -البشرية- بالدنيا واستبدالها
بالطمأنينة, وترك فكرة الشجاعة بالحرب واستبدالها بفكرة الصبر.
قوة أفكار المؤمن
الحقيقي مصدرها قوة القرآن, فمن خلال القرآن يكتشف أن الناس على نوعين واختيارين
وليسوا كلهم طيبين أو كلهم أشرارا, وأن خيريتهم وشريتهم لم تأت بسبب الظروف
والتربية. وكل باب الثنائيات أصلا ذلك الموضوع الضخم لم نعرفه إلا من القرآن, فكل
مشاكل الفلسفة محلولة في القرآن. مثل مشكلة أن من يظلم الناس ويغتصب أموالهم هل يُعقل
أن يموت دون أن يأخذ عقابه؟ ومن يتصدق ويضحي بمصالحه لغيره هل يعقل أن يموت
خسرانا؟ القرآن أخبرنا أن هنالك يوم حساب عادل وجنة ونار. كذلك مشكلة أيهما الأصل
الخير أو الشر -وهي من المشاكل العويصة في الفلسفة- حلها القرآن, بأن دوافع الخير
والشر كلها موجود في الإنسان وهو باختيار حر يرجح أيا منها: {فَأَلْهَمَهَا
فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا, قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا, وَقَدْ خَابَ مَن
دَسَّاهَا} , وهذا هو الحقيقة والواقع لأنه لا شيء يجبر على اختيار الخير أو الشر
دائما إلا الاختيار الحر.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق