الأحد، 8 فبراير 2015

كيف نعرف أن الإسلام من عند الخالق؟ وهل يمكن أن يكون الإنسان فاضلا بدون دين؟

 جوابا على سؤال زائر في سجل زوار المدونة:

"لماذا الإسلام من عند الخالق؟
سؤال بسيط ولكن اعلم انه عميق ويحتاج للكثير من التفصيلات
ولكن احب ان ارى نظرتك العامه لأسباب ايمانك بالإسلام اذا سمحت..
وشكرا"


فعلا هذا سؤال مهم وعميق, و المدونة بشكل عام محاولة للإجابة على هذا السؤال, لذا أنصحك بقراءتها كاملة إن رغبت, على سبيل المثال -لا الحصر-:

 من ناحية فلسفية ومنطقية لا يستطيع البشر أن يفهموا كل مشاكلهم وأن يقدموا حلولا لها؛ لأنهم أعضاء في وسط المشكلة ومصالح بعضهم تقتضي وجودها بل وتحرف الفكر لأجلها أيضا. الداخل في وسط المعمعة لا يستطيع أن يقيّم مثل من ينظر لها من خارجها, إذن وجود دين إلهي حتمية فلسفية, مثلما أن وجود دار آخرة يجازى فيها كلٌّ على عمله حتمية فلسفية وأخلاقية لا بد منها, وإلا فلا قيمة للعقل ولا الأخلاق, وهذا ما جعل الإلحاد يقلل من قيمة العقل والأخلاق. عدم وجود دار آخرة يعني عدم وجود غطاء فلسفي للأخلاق والعقل, فبدون وجود إله وآخرة سيكون الدافع للظلم أقوى من الدافع للعدل والرحمة, وسيلمع قانون البقاء للأقوى؛ لأن الضحية والجلاد لهم نفس المصير وهو الموت. الإلحاد يجعل الأخلاق مسخّرة للمصالح كنوع من الأسلحة للكسب ليس إلا.

 لا يستطيع الإنسان أن يحرّم شيئا هو واقع فيه حتى لو ثبت له أنه خطأ, فالإنسان بدون دين حقيقي لا يستطيع أن يفصل الرذيلة عن الفضيلة في كل الأمور بسبب تشويش المصلحة. التشريعات العلمانية لم تستطع أن تحرم الخمور مثلا ولا الزنا ولا الربا والاستغلال الرأسمالي.., مع الإقرار بأن ضررها أكثر من نفعها عند كل العقلاء, لهذا الإسلام الحقيقي –وأكرر على الكلمة- والخالي من العلمانية هو الذي تحتاجه البشرية, لأنه متحرر من النظرة من داخل الواقع ومتحرر من ضغوط الواقع ومتحرر من إِشكالية المصلحة التي تعمي العيون. لا يمكن للذات أن تنقذ نفسها وهي داخل معمعة الحياة.  

بفضل الدين استطاع الإنسان أن يكفي نفسه شر نفسه, وهذا ما لا تستطيعه التشريعات البشرية التي تركز على الحماية من الغير وليذهب الفرد إلى الجحيم. إذن الإٍسلام هو الذي احترم حقوق الإنسان بمعنى الكلمة وهو الذي احترم الفردية, وليست الليبرالية التي تقدم طرقا ميسرة للانتحار! الإسلام حرم عل الفرد الميسر والظلم حتى لو كان الفرد قويا, و حرم الخمر والربا, التي آخر ما يقال بشريا عنها أنها حرية شخصية, مع أن جرائم تقع وأسر تُخرَج للشارع بسبب هذه الأمور. لم يستطع البشر أن يحموا أنفسهم منها ولا من الحروب ولا غيرها, فكيف نثق بهم؟ البشر لا يهمهم بك إلا ما يتعلق بهم. لكن الله رحيم بك حتى من نفسك, وهذا فرق يجب الوقوف عنده.

القرآن حرم عليك الفواحش, بينما القوانين الوضعية تقول افحش بقدر ما تستطيع لكن لا تمس القانون, القوانين الوضعية لا تطالبك بالأخلاق ولا تدعو إليها المهم ألا تكسر القوانين, وإن التففت عليها فهذا شطارة منك, ولا شأن لها بإسرافك ولا اقتصادك ولا بنيتك, كأنها تنظيمات ترتب أعمال وحوش أو مثل قوانين المصارعة والملاكمة. القوانين البشرية لا تحرّم تعريض النفس للخطر والتهلكة بل تشجع عليه كأرقام قياسية مفيدة للتسلية! وتقف مع الأقوى وتبرر له (مثال حق الفيتو).

الفضيلة متحررة من قيود الخوف والرغبة, ما ينادي به القرآن ليس منطلقا من تأُثير الخوف والرغبة بل من تأثير الحقيقة نفسها و قيمتها, القوانين البشرية منطلقة من الخوف وتدور حول حماية النخبة المشرِّعة وحقوقهم, بينما التشريعات القرآنية منطلقة من الضعيف بالدرجة الأولى -رحمة به لا اعتمادا عليه كما فعلت الشيوعية-, لهذا لا يوجد تنظيم بشري يحرم الربا والرأٍسمالية والاحتكار لأنه يخدم علية القوم, إلا الإسٍلام لأنه يخدم الضعيف أولا, هذا دليل أنه من الله وليس من نسج بشر, فمحمد من أسرة تجارية ورأسمالية ومع ذلك حارب الربا. البشر يستطيع أن يقول هذا الكلام لكن لا يستطيع أن يعتمده و يطبقه ويجعله على شكل تشريعات, لأنه سيتصادم مع نفسه, خصوصا والمشرع سيكون من علية القوم, لذا سيعتبره من نوافل الأخلاق غير الواقعية.

العلماني لا يستطيع أن يفصل الفعل عن النتائج في الدنيا العاجلة, وأن يربط القيمة بالنية والفكرة وليس بالنتيجة.

 الإنسان لا يستطيع أن يشرع تشريعات خارجة من تأثير واقعه, فإن كان غنيا سيتبنى الرأسمالية التي تركز على القوي وتسحق الضعيف, وإن كان فقيرا  سيتبنى الشيوعية التي ركزت على الطبقة الكادحة وسلبت حقوق الأغنياء فحولت الضعيف إلى مطرقة تكسر دكاكين الأغنياء!

التشريعات البشرية تتصادم مع بعضها, فمثلا تحرم القتل والاعتداء وتبيح الخمر الذي يسبب القتل العمد والقتل الخطأ, كمثال.. أما التشريع الإلهي فهو محكم وغير متناقض مع نفسه, وكلما وجدت تناقضا اعرف بوجود الهوى. المعيار البشري متحرك وغير ثابت بينما الفضيلة ثابتة ويجب أن تكون ثابتة, لأنه لا يمكن الوصول إلى شيء وهو يتحرك من مكانه! فالنظام البشري إذا اجتهدت في الوصول إليه تجده قد تغير! إذن لن تصل البشرية إلى الفضيلة من خلال العلمانية. أما النظام الإلهي فهو ثابت و كلما وصلت إليه أو بعضه استفدت منه. المسلمون مثلا رغم بعدهم عن دينهم و والتشويه الحاصل لدينهم إلا أنهم يبقون هم أُقل شعوب الأرض في تعاطي المسكرات والمخدرات وأقلهم أنتحارا رغم الظروف السيئة, وأقلهم في التشرد الأسري وأقلهم في الأمراض الجنسية, وأقلهم في الزنا والشذوذ .. وهكذا, كل ما أخذوا من النظام الإلهي استفادوا منه.

قبل الإسلام ترى التأثير البشري في الديانات والقوانين وتراها أيضا بعد الإسٍلام حيث عادت البشرانية مرة أخرى لتتحايل على النص الإلهي في صور عدة, لهذا قال الرسول "لتتبعن سنن من كان قبلكم, حذو القذة بالقذة, حت لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه", لأنهم بشر وهذا هو تفكير البشر, أما الدين الحقيقي فليس من تفكير البشر.. يبقى القرآن جوهرة مضيئة لوحدها تحمل الفكر غير البشري.. هذا الذي حرم الربا لوحده والذي أنصف الإنسان من نفسه وحرم الطبقية واعتبارات النسب -التي عادت فيما بعد- والذي جعل الإنسان يراقب نفسه بنفسه بنياته. التشريعات البشرية لا تستطيع أن تصنع هذا ولا التشريعات البشرية الداخلة في الدين.

أمريكا أصدرت قانون يحاول أن يمنع السكر نهائيا لكنها فشلت واصطدمت في الواقع, لكن الإسلام لم يفشل واضطر الصحابة لإراقة ما عندهم من الخمور لأن المشرع ليس واحدا منهم وإلا لراعى الأكثرية, ورسول الله في خطبته يقول :" وأول ربا أبدأ به ربا عمي العباس"! إذن كل الديانات المبشرنة والتشريعات البشرية تتحاشى بعض الأمور وتسهب في بعض الأمور وتتشدد لأنها محكومة بضغوطات.

لا أحد يجعلك تحاسب نفسك ونياتك بنفسك إلا الإسلام الحقيقي الخالي من البشرنة والتوسل. المسيحية مثلا وكثير من المذاهب والديانات -التي أسميها الاتكالية- تحيل ذنوبك على غيرك ليكفرها وتأخذ بركة عمل غيرك حتى لو لم تعمل, إيمانك بالمسيح المخلص مثلا أو القديس أو الرجل الصالح وحبك له يجعله يفديك ويحمل أوزارك بدلا عنك, وهذه الفكرة لا تصنع تربية أخلاقية بل تبرر لفعل الباطل, الإسٍلام الحقيقي يجعلك في المحك مع نفسك وأمام ربك, وهذا طريق التربية السليمة وإصلاح الذات, {كل نفس بما كسبت رهينة} من خير أو شر, {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} لن ينفعه إذن توسل أو محبة أحد أو طواف في قبر أحد, {ولا تزر وازرة وزر أخرى} لن يضرك فساد أحد وضلال أحد ولن تحمل وزر أحد ولا صليب أحد.

لو اتبعت الفضيلة لوحدها مصيرك أن تتخلى عنها.. إذا كنت لا ترى بوجود إله أو حياة أخرى أنت قطعت ارتباطات الفضيلة واحتقرتها بنفسك وجعلتها مثل الزهرة تنظر إليها وتشمها ثم ترميها إذا ضايقت يدك, فكيف تجعلها مسيطرة على حياتك والحياة صراع؟ إذن لا بد من الإسلام ليحمي الفضيلة, لأنه يجعل لأعمالك امتداد في دار آخرة ولا تنتهي بانتهاء حياتك ومتعلقة برضا الله عنك أو سخطه. هكذا تنتعش الفضيلة ويكون لوجودها مبرر في حياتك.

الله جعل حياة الفضيلة مرتبطة بالاعتقاد بوجوده والدار الآخرة, بدون هذين الشرطين تضمحل الفضيلة لعدم تناسبها مع حياة واحدة لا جزاء فيها لأحد ولا عقاب ولا فرق فيها بين ظالم ومظلوم كلاهما سيدفنان في التراب , ستكون الفضيلة عبارة عن حرمان للذات بدون أي فائدة ولا تميز عن من لم يحرم ذاته , وستكون تضييع فرص ليس إلا , فرص لمتع حقيقية بمتعة منقطعة لا ارتباط لها بشيء , وسيكون قول الشاعر الجاهلي صحيحا "كريم يروّي نفسه في حياته ... ستعلم إن متنا غدا أينا الصدي" (الصدي: الذي عاش عطشانا) لهذا بحتمية مفهومة اتجهت العلمانية والإلحاد إلى عالم اللذة الحسية على حساب عالم الفضيلة , لأنهم لا يرون إلا حياة واحدة.

المسلم الحق يعبد الله ولا يعبد الجنة , فحب العبد لله مبني على حبه للفضيلة ولن تعرف الله ما لم تعرف الفضيلة. البشرانية تقلل من شأن الفضيلة, والله هو الذي رفع شأن الفضيلة , فحب الفضيلة هو أساس حب الله.

الإسلام الحقيقي لا يتعارض مع المصلحة أو يرفضها , لكن إذا تعارضت المصلحة مع الفضيلة تقدَّم الفضيلة قدر الإمكان.

من الطبيعي أن ترى العلمانية ضد الشعور الإنساني وتحاول التغيير من الأحاسيس, فلن تسرهم الأحاسيس النابعة من الشعور الصافي , يحاولون أن يجعلوا من الشجاع جبان والكذاب يسمى ذكي والخائن بطل. الشعور الإنساني ليس دنيويا لهذا لا يتفق مع هذه التزويرات الدنيوية, فلا تستطيع إقناع شعورك أن المحتال الوصولي يستحق الاحترام مع أنك قد تُجْبر عليه لكن في داخلك لا تستطيع, فالشعور مرتبط بالفضيلة والفضيلة مرتبطة بالله في خط أبدي.

أن تقول اعمل الفضيلة للفضيلة دون أن يترتب عليها شيء , هذا بحد ذاته عدم احترام للفضيلة.. الملحد الذي يدعي أنه يمارس الفضيلة بدون دين لمجرد الفضيلة هو يحتقر الفضيلة , لأن كل تصرفاته هو يعرف أنها يجب أن ينبني عليها شيء , فإذا كانت الفضيلة مهمة بالنسبة له فإنه يجب أن يترتب عليها شيء , لا يمكن أن تكون الفضيلة لأجل الصالح العام والخاص في نفس الوقت لأنها ستصطدم بالمصالح , وكون الفضيلة لا يترتب عليها شيء هذا خـنق للفضيلة , ولولا ارتباطها بالدين واليوم الآخر لما عاشت إلى هذا الوقت, ولا بقاء للفضيلة إلا ببقاء الدين وإلا فستدوسها عجلة العلمانية. من يمارس الفضيلة دون أن يربطها بشيء سيوصف بالجنون, وأقصد الفضيلة الحرة من المصالح بل التي تخالف المصالح , أما الفضيلة الخادمة للمصالح فهي عبارة عن أخلاق تجارية لا قيمة لها في عالم الأخلاق و إن كان لها قيمة كبيرة في عالم المصالح والتجارة.

الفضيلة نظمت حياة البشر من خلال امتدادها وارتباطها بالله واليوم الآخر. إذن القرآن هو نظام أخلاقي جاء من ارتباط الفضيلة بخالق الفضيلة وخالق البشر.

الإٍسلام الحقيقي هو الذي يفصل فصلا كاملا بين الخير والشر, وينسب خيرك إليك وشرك إليك, بلا وسطاء ولا محاباة, {إن أكركم عند الله أتقاكم} لكن حصل له تلويث عبر التاريخ, ومن أراده صافيا فليعد إلى نبعه الصافي وما والاه, خذ هذا النبع وقارن به كل الديانات والمذاهب والفلسفات البشرية, ستسقط كلها أمام جماله. وهذا ما حصل لي, فقد طفت في المذاهب والديانات أٌقارنها بالإسلام الحقيقي بل حتى المذاهب الإٍسلامية نفسها وجدت أنها مليئة بالأفكار العلمانية وقل ما يصفو منها, ويبقى هذا القرآن وما والاه شعلة تعرفها القلوب المتعطشة للحقيقة الصافية الخالية من الأنانية والعلمانية .


ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق