العقل يقوّي الإيمان و يثبته ،
و ليس عدواً له ، فإذا فهمت فكرة عن اقتناع ، ليس هذا مثل التلقي الجامد ، ولا
يفيد الدين أحد حتى يعي ماذا يفعل وماذا يقول وماذا يعتقد بعقله و إحساسه .. قال
تعالى {على بصيرة أنا ومن اتبعن} والبصيرة هي العقل .
أما استعمال العقل للشر
والإساءة إلى الدين فهذا موضوع آخر ، لأن العقل وسيلة ستعمل للخير أو للشر ،
فاستعماله للخير يدعم الخير و يثبته في النفس ، مثلما طالب إبراهيم ربه كيف يحيي
الموتى حتى يدخل العقل عن طريق الحواس مع الإيمان ، ولهذا قال {ليطمئن قلبي} .. إذن
العقل يطمئن القلب ، و ليس العقل عدواً دائما للإيمان كما يتصور الكثير من
المتورعين .. العقل نعم القرين للإيمان والخير و نعم الحامي .. وكل معلومة اتفق
عليها الحس والعقل ستكون ثابتة و راسخة ، لهذا قال تعالى {إنما يخشى الله من عباده
العلماء} ، أي من يجمعون بين الإيمان والعقل ، فالعلم وسيلته العقل ، وإذا اجتمعا
أنتجا الخشية والتقوى ..
و قال تعالى {يؤمنون بالغيب} ،
أي أن الإيمان مجاله الغيب فقط ، أما عالم الشهادة والواقع فلا يصلح الإيمان و
الثقة والتلقي فيه ، بل يجب التثبت بالعقل ، لينجو كل إنسان بنفسه ، لأنه سيحاسب
لوحده ، ولن يحاسب على ذمة من اتبعه ..
التلقي يجعل مجالات العقل مثل
مجالات الغيب .. و يحوّل عالم الشهادة إلى عالم غيب من ناحية الإيمان به دون إدراك
، وتعطيل العقل عن مجاله تعطيل للفطرة ومخالفة للنص .. و كلما غاب العقل عن عالم
الشهادة والواقع فالنتيجة تخلف و ضعف و جنون واستغلال ، وكلما دخل العقل في مجال
الغيب فالنتيجة شبهات وانحرافات و خرافات واستغلال وادعاء غيب كما يفعل المشعوذون
..
الإيمان المطلوب خصصه الله
بالغيب ، والتلقي والتبعية عبارة عن إيمان و ثقة بالمتبوع دون وعي عقلي ، و الوعي
والبصيرة يكونان بالعقل ..
أما الهروب ممن يستعملون العقل
و اللجوء إلى الإيمان من خلال التلقي النقلي فقط فهذا لا يليق بالمسلم ، لماذا ؟
لأن المنطق والعقل مع الإيمان و مع دين الله ، فلماذا يهرب المسلم من العقل و
العقل معه مؤيدٌ له أساسا و ليس مع خصوم الإيمان ؟! فدينه الحق ، و العقل يعتمد
على الحق والحقائق ، والله حث المؤمنين و مدح فيهم العقل مع الإيمان .. وطلبُ
الإيمان بالله ورسوله و اليوم الآخر موجه لقوم يعقلون ، ليجمعوا بين الإيمان
والعقل دون تناقض ، كلٌ في مجاله ..
ولن تنهض هذه الأمة إلا إذا
تحسنت العلاقة وازدادت وتطابقت بين العقل و الإيمان .. فالعقل وحده لا ينفع ،
والإيمان وحده ضعيف وغير محمي ، لأنه حالة شعورية قد تتبدل إذا لم يثبتها العقل ،
و العقل من اسمه كعقال البعير الذي يثبته ويحميه من الضياع .. فهما مثل الماء
والإناء أو القنوات، فالإيمان الماء ، والعقل الإناء أو القنوات ..
يجب أن تزول المخاوف من
التفكير و الفلسفة والتأمل ، لأن ديننا هو الذي طالبنا بها ، فالله أمرنا بجدال
المخالفين و المناوئين للدين ولم يأمرنا بدس الرؤوس .. و الجدال وسيلة العقل
و ليس الإيمان ، فأنت لا تقنع أحداً بمجرد قولك : أحبُّ كذا .. فسوف يسألك لماذا؟!
هنا يأتي دور العقل بعد أن قال الشعور رأيه ..
القرآن يأمرنا بالتدبر والتفكر
في الكون والآيات والأمم السابقة و جدال المخالفين ، والدعوة تحتاج إلى المنطق ،
لأنه يقنع ، وكل هذه تحتاج إلى عقل ، فمن الذي خوّف المسلم من العقل ؟ و لمصلحة من
؟ هذا إذا تجاوزنا عن النيات الحسنة للبعض بسبب التورع الشديد والخوف من
الخوض في مسائل غير واضحة ، والذي غالباً ما يوقع في الخطأ دون أن ندري ..
التخوف الشديد لا يعني الحماية
، و الاحتياط لا يحمي دائماً ، و سد الذرائع لا يلغي الذرائع ، و وسائله لا
تكفي لسدها .. كثير من الأمور تحتاج إلى المواجهة حتى نحمي أنفسنا منها .. بل
الحياة كلها هكذا : نحمي أنفسنا بمواجهة مخاوفنا فيها ، وإلا لسحقتنا الحياة ونحن
نرتجف خوفا في مخابئنا .. والعقل عزة ، و الله يقول {ولله العزة و لرسوله
وللمؤمنين} ..
إذا التغى العقل يقلّ الإيمان
ويصبح عرضة للشبهات والكمون والضعف والانكفاء والانطواء على الذات ودس الرأس في
الرمل ، وعقل لا يعمل : حقـّه ألا يرتفع .. بينما الله يقول {فلا تهنوا وأنتم الأعلون}
، وهذا العلو ليس علو تكبر وتجبر على الناس ، لان من صفات المؤمنين المشي على الأرض
هوناً ، و عدم طلب العلو والفساد ، وهذا ما يجعلهم الأعلون ، أي علو أخلاقي ومنطقي
، وهما أجمل ما في الإنسان : المنطق والأخلاق ، وبدونهما يقترب من الحيوان أكثر ..
الإيمان يزيد بالعقل و يثبت ،
ويضعف وينكفئ بالجهل والتقييد والتبعية غير الواعية ..
إن من يجنّب عقله في الدين
ويأتي ليجادل ، سيكون ضعيفاً ، لأنه استغنى عن أقوى سلاح في المعركة .. إذن لا
يليق أن نقول : لا عقل مع الدين ، أو : النقل مقدم على العقل ، ونحن مأمورون
بالمجادلة بالتي هي أحسن ، و من يجادلك يجادلك بالعقل ، فكيف تجادله و أنت مجنـّب
للعقل في تدينك ؟
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق