العقل هو شعور ليس له طعم, فالعقل لا نحسه. بالعقل تعرف مثلا أن النار
تحرق دون أن تشعر بالحرارة, أو تقول أن لحظات الوداع أليمة دون أن تشعر بها تلك
اللحظة لكنك عرفتها كقانون. هكذا يجمد الشعورُ القديمَ على شكل عقل (ذاكرة) حتى
يتفرغ للجديد, و من خلال الكتابة صار الشعور يثبَّت على ورق.
هناك من يقرأ القصيدة بالعقل لوحده, وهناك من يقرؤها بعقل وإحساس و كأنه
يسخن هذه القصيدة المجمدة ويتذوقها, مثل من يتذوق الكفتة المبردة بعد تسخينها, أما
من يقرأ القصيدة بعقل فقط فهو لم يعش جوّها. لهذا لا يصح أن تتعامل مع الأدب والفن
بالعقل وحده, كذلك الصور الفنية والتشبيهات لا بد أن تحس بها من خلال عميلة التخيل
والتصور نفسها, فتتخيل مثلا ما قال الشاعر:
"الموجُ الأزرقُ في عينيك.. يُجرجِرُني نحوَ الأعمق
|
وأنا ما عندي تجربةٌ
|
في الحب.. ولا عندي زورق..
|
إن كنت أعز عليك .. فخذ بيديّ
|
فأنا عاشقةٌ من رأسي .. حتى قدميّ
|
إني أتنفَّسُ تحتَ الماء..
|
إنّي أغرق..
|
أغرق..
|
أغرق.."
|
هذه صورة شعرية, إذا أخذتها بالعقل ستأّخذها
باللطش والسرعة لكن كلما تأملتها سيخرج جمال, فتتخيل الموج الأزرق وتتأمل من يتنفس
تحت الماء وتتخيل البحر.. إلخ.
قال تعالى: {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} فندري أن الشمس
تخرج في الصباح, لكن لماذا؟ تأمل دقة حركتها ولماذا هي تتحرك هكذا, وكيف أنها تخرج
كل يوم لتدفئ أرضنا..., لهذا مدح الله المتفكرين والمتأملين, والتأمل هو إعادة
تدوير الشعور من جديد.
في الشعر تخيل نفسك مكان الشاعر, مثل الشاعر الذي قال:
وأجْهَشْتُ لِلتَّوْبَادِ حِينَ رَأيْتُهُ
|
وهلل للرحمن حين رآني
|
وأذْرَيْتُ دَمْعَ الْعَيْنِ لَمَّا رَأيْتُهُ
|
ونادَى بأعْلَى صَوْتِهِ ودَعَانِي
|
فَقُلْتُ له أين الَّذيِنَ عَهِدْتُهُمْ
|
حواليك في خصب وطيب زمان ؟
|
فقال مضوا واستودعوني بلادهم
|
ومن ذا الذي يبقى مع الحدَثان
|
فتخيل منظر الجبل الذي كان يمر عليه هو و محبوبته حين كانوا صغارا..
تستطيع أن تتأمله وتبكي, وتستطيع أن تمر عليه ببرود.
الكلمات لم توضع إلا من أجل أن نتمكن من أن نستحلب الشعور. مثلما
استنكر أحد الشعراء على من لا يشعرون بالشعر ويرونه مجرد كلمات مصفوفة, فيقول:
لو كان شعري شعير ** لأكلته الحمير
لكن شعري شعور** هل للحمير شعور؟!
الشعور يصنع العقل, والعقل ليعيد الشعور, فالعقل موضوع لكي تسترجع
الشعور. إذا قلت لك مثلا أن غرفة مساحتها 5×6 متر, هنا لا بد أن تحس بالأمتار التي
سمعتها مني, فتكون كأنك ترى مساحة هذه الغرفة, هذا هو الأصل. ولكن يفوتنا كثيرا
علمية تذويب الجامد هذا فيُبلع وهو ناشف.
العقل عبارة عن اختصار للشعور, والشعور واسع, لهذا يمدح الله الذي
يتفكرون ويتدبرون الكلام و يتأملون, وليس فقط يمرون مرورا عابرا. انظر للملاحدة
مثلا كيف يمرون على القرآن فيقولون : "أين المعلومات؟!" هو لم يأت
ليعطيك معلومات فهو ليس كتاب علمي أصلا! لكنهم يقولون أنه كتاب يحوي أخبار عن
الميتافيزيقا ومعلومات علمية غير دقيقة, ويستغربون لماذا يقول خمسة وسادسهم كلبهم
وسبعة وثامنهم كلبهم.., فيقولون: "طيب والنتيجة كم؟" طيب وإذا عرفت كم
ماذا تستفيد؟! هو لم يأتي ليخبرك كم!
العقل ليس جهازا, الشعور هو الموجود جهازا كاملا لا يزاد فيه ولا
ينقص, أما العقل فليس جهازا ولدنا به, بل هو شعور جُمِّد, ويستطيع أن يسخَّن هذا
المجمد بقليل تأمل. لهذا فالطفل يولد بلا عقل وشيئا فشيئا يبنى له عقل ويزداد ذكاؤه,
ولهذا ترى الأكبر سنا أكثر قدرة على اللغة والحسابات العقلية, مما يعني أن العقل
يزداد.
الشعور لا يعني فقط رغبة أو ألم, بل أيضا إدراك وتمييز, فتقول أشعر أن
هذا أكبر من هذا, وأن هذا يحتاج هذا ليسنده حتى لا يسقط, وأشعر أن المكان فيه أكثر
من واحد, أي أميز. إذن الشعور عنده الألم واللذة وعنده التمييز الذي لا علاقة له
بالمصلحة, فأنت مجبر على أن تميز, والحيوان ليس عنده هذا الشعور التمييزي الواسع. والعواطف
هي انفعالات من الشعور وليست كل الشعور.
المعلومة هي عبارة عن نقل لتمييزك, فمثلا رأيت في الصين جمل له سنامين
بينما في الجزيرة العربية جمل له سنام واحد, فحين رأيته ميزت أن له سنامان وحولت
هذه المعلومة وكتبتها, والحيوان ليس عنده هذا التمييز وبالتالي لا يعرفها. التمييز
يصنع التصنيف من خلال العقل, فإذا ميزت شيئا تبحث له عن اسم في اللغة وقد لا تجد
فتخترع له اسما, وهكذا. مثلما أن تجد نوعا من العصافير لكنه مختلف عن غيره, كيف
عرفت أنه مختلف؟ بالتمييز الشعوري, ثم سألت عن اسمه أو بحثت عنه ووجدت أن له اسما
معينا وحفظت هذا الاسم في العقل (ذاكرة), وهكذا.
الأسماء كلها قائمة على تمييز, قال تعالى:{وعلم آدم الأسماء كلها}, أي
أعطاه التمييز الذي يجعله يقترح الأسماء للأشياء, وهذه ميزة للإنسان لا يتمتع بها
غيره من الأحياء كالحيوان والنبات. والأسماء أساس اللغة, فاللغة اسم وفعل وحرف
والفعل والحرف تابعان للاسم. وكل مكان وكل مدينة وكل قرية سميت باسم شيء بارز فيها
إما مادي أو معنوي, مثل مدينة "القرنة" في العراق سميت بهذا لأنها ملتقى
يقترن فيها دجلة والفرات, ومثل الطائف كان أبرز ما فيها سور عال ملتف عليها
"يطوف بها" ولهذا سميت الطائف, ومثل الكويت سميت بسبب قصر صغير بها أصغر
من قصر "الكوت" الموجود في العراق فسمي "كويت" تصغيرا. أو على
اسم شخص مشهور مات فيها مثل مدينة الزبير في العراق التي دفن فيها الزبير بن عوام.
وهكذا يبحث الناس عن أبرز شيء مميز ليطلقوا الصفات والأسماء وتخزن في الذاكرة. وقد
يُنسى الأصل التمييزي لها ويبقى الاسم بناء على كثرة الاستعمال. ولو ذهبت إلى
الكويت مثلا قد لا تجد ذلك "الكوت" الصغير بل ستجد أبراجا ومباني عالية
أكثر تميزا منه, هذا إن كان موجودا.
المنطق أيضا أساسه التمييز الشعوري, فكلما تركت شيئا مرفوعا سقط للأسفل
إذن هناك انجذاب ورغبة في الاستقرار, فصار عندنا هذا القانون أنه كلما وضعت شيئا
في الأعلى دون حامل سيسقط, لهذا الطفل قد يجلس تحت أشياء قد تسقط عليه وهو لا
يدري, والحيوان لا يمكن أن تنبني له هذه المعرفة أبدا فيمكن أن يجلس تحت مبنى آيل
للسقوط معتبرا أنه مكان آمن.
هذه هي الحكاية, فنحن لا نعرف شيئا بل معلَّمون, فالأشياء التي
عُلّمناها أخذناها عن طريق التمييز الفطري الذي من خلاله نعرف الفروق والعلاقات
بين الأشياء لكننا لا نعرف ماهية الأشياء نفسها, لهذا أقول أننا لا نعرف شيئا أي
لا نعرف ماهية شيء, ولا حتى ماهية قانون, حيث أن الطبيعة عبارة عن أِشياء وقوانين.
ودعنا من ماهية الأشياء بل فكر بماهية معرفتنا للأشياء! {سبحانك لا علم لنا إلا ما
علمتنا}.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق