الأربعاء، 1 يوليو 2015

هل الإحساس بالألم متأثر بالثقافة؟

تعليق على مقال بعنوان : ثقافة الألم 

ثقافــــة الألم The culture of pain



هيمنت النظريات البيولوجية والطبية التقليدية على تفسير طاهرة الألم الإنساني، وركزت على الأبعاد العصبية والفسيولوجية في تشخيصه وعلاجه. والحقيقة أن الطب العلمي قد اختزل خبرة الألم في بعدها العضوي باعتبارها نظاما معقدا من الإشارت العصبية، بدلا من النظر إلى هذه الخبرة كظاهرة اجتماعية تتشكل وفق سياق اجتماعي - ثقافي محدد. وعلى الرغم من أن الاهتمام بدراسة الألم يقع - وفق التحليل العلمي السليم - في منطقة مشتركة بين البيولوجيا والثقافة، مما يجعله موضوعا مهما في التحليل السوسيولوجي، إلا أننا نلاحظ أن اهتماما ضئيلا scant attention قد أُعطي لدور العوامل الثقافية خاصة المعتقدات حول الألم، وفي هذا الإطار يقول "موريس" Morris في كتابه ثقافة الألم The culture of pain الصادر في عام 1991 إن الألم ليس مجرد ظاهرة فسيولوجية وتشريحية فقط، وإنما هو نتيجة التفاعل بين العقل والجسد والثقافة. ويؤكد "موريس" في كتابه سالف الذكر أن النظرة الطبية أهملت جوانب مؤثرة في تحليل الألـــم تتعلق بأن الألم يتم تشكيله وتقييمه وفق عناصـــــر ثقافية محددة. ( (Bendelow and Williams 1995:139-140



إن الاختلاف بين النظرة الطبية للألم والنظرة السوسيو – أنثروبولوجية له تكمن في الاختلاف بين رؤية الألم كإحساس pain as sensation ورؤيته كعاطفة pain as emotion (وهو مفهوم أكثر ديناميكية من الإحساس) ففي إطار النموذج الطبي وهو النموذج المهيمن في تفسير الألم، والذي يتم تدريسه لطلاب الطب، ينظر للألم على أنه إحساس ينتقل عبر مستقبلات الألمpain receptors في الجلد إلى مركز الألم في المخ. أما الرؤية السوسيو- أنثروبولوجية للألم فقد لخصها "ميلزاك" و "وول" Melzack & Wall بقولهما: إن كلمة ألم تمثل طائفة من الخبرات المختلفة والفريدة التي تتأثر بقوة بالعوامل الاجتماعية والثقافية. (Bendelow and Williams 1995:142)



ولقد أوضحت الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية المتعاقبة أن الألم ظاهرة معقدة، تتأثر بالبناء الاجتماعي والثقافي والموروث التاريخي لكل مجتمع، وأن القدرة على تحمل الألم تتباين وفقا للثقافة والانتماء العرقي، فلقد قدم "ميلزاك" مثالا على الاختلاف في خبرة ولادة الطفل بين الثقافة الغربية والثقافة البدائية ممثلة في إحدى قبائل أمريكا الجنوبية، حيث كتب يقول:

(تعد عملية الولادة واحدة من أصعب الآلام التي يمكن أن تكابدها المرأة في المجتمع المعاصر، وقد لاحظ الأنثروبولوجي الأمريكي "كروبر" Kroeber أن النساء لا يظهرن أي إحساس بالألم أوالمعاناة أثناء الوضع، وبالإضافة إلى ذلك تستمر النسوة الحوامل في ممارسة العمل في الحقول حتى قبل الولادة بوقت قصير، وبعد الولادة تعود الأم إلى الحقل لاستئناف العمل، وقد يبقى الزوج مع الطفل لرعايته لحين عودة الأم. ويتساءل "ميلزاك" هل يعني ذلك أن النساء في ثقافتنا الغربية المعاصرة يتصنعن making up الألم؟ ويجيب بالطبع لا، إن ما يحدث هو جزء من ثقافتنا التي تنظر إلى عملية الولادة بأنها تمثل خطرا محتملا على صحة الأم وتتعلم الفتيات الصغيرات الخوف من الولادة في مراحل نموهن المختلفة) (Tuckett 1978: 167)



ويقدم "ميلزاك" مثالا آخر من الهند حيث يقول: "يعد طقس تعليق الخطاف (أوالسنارة) hook hanging - الذي ما زال يمارس في بعض مناطق الهند - واحدا من أغرب الأمثلة على تأثير القيم الثقافية على تحمل الألم، هذا الطقس مأخوذ أساسا من ممارسة قديمة ترتكز على اختيار أحد أفراد الجماعة الاجتماعية ليمثل قوة الآلهة. يتحدد دور الرجل المختار (أو الكاهن celebrant) هو مباركة الأطفال والمحاصيل الزراعية في عدد من القرى المتجاورة في فترة معينة من العام. المدهش في هذا الطقس أنه يُؤتى بعدة خطافات حديدية وتُشد بحبال قوية وتُربط في عربة خاصة، وتُغرز الخطافات تحت الجلد في جانبي الظهر، وتبدأ العربة في التحرك من قرية إلى قرية، وبالطبع يتحرك الرجل حيثما تتحرك العربة، وفي قمة الاحتفال بتأرجح الرجل في الهواء بطريقة شعائرية، وهو معلق بالخطافات المغروزة في ظهره، والغريب أنه لا توجد أية دلائل على أن الرجل يتألم أثتاء ذلك الطقس، بل إنه يكون في (حالة رفعة أو مجد a state of exaltation ) وعندما تخلع الخطافات في النهاية تشفى الجروح سريعا دون تدخل طبي باستثناء وضع رماد الخشب wood ash عليها، وبعد مرور اسبوعين تقريبا تختفي تماما آثار الجروح". Tuckett 1978: 167))



وفي دراسة كلاسيكية شهيرة أوضح "مارك سبورفسكي" M. Zborowski ان الأصول العرقية تلعب دورا مهما في تقبل الألم وتحمله، ففي هذه الدراسة التي أجريت على عينة من الأمريكيين القدامى Old Americans وعينة أخرى من أمريكيين من أصول يهودية وإيطالية، تبين أن الثقافتين اليهودية والإيطالية تطرحان إطارا محددا في التعامل مع المرض، يختلف عما تطرحة الثقافة الأمريكية، فالثقافتان اليهودية والإيطالية تسمحان للفرد بالتعبير الحر عن مشاعره وعواطفه بالكلمات والإشارات كما تسمحان بحرية التعبير عن الألم والمعاناة من خلال البكاء والأنين، فلا مجال للخجل من الشكوى، ويلاقي بذلك تعاطفا من أفراد أسرته. أما الثقافة الأمريكية فإنها تتعامل مع المرض بصورة موضوعية صارمة من خلال التحديد العلمي الدقيق له، ويتحاشى المريض إظهار الشكوى والمعاناة؛ لأن ذلك يتناقض مع المعايير المرتبطة بقوة الرجل وقدرته على التحمل. (Zboroweski 1952: 10)



إن استجابة المرضى الأمريكيين للألم ضعيفة؛ لأنهم يحاولون إيجاد أنسب الطرق لتحديد نوعية الألم، وعندما يذهب المريض للطبيب لكي يفحصه، فإنه يعطي انطباعه عن هذا الألم للطبيب ويصفه كاملا، ولا يصدر منه أي شكوى أو تأوه أو أنين، أما الإيطاليون واليهود فإنهم يبالغون في تصورهم للألم، ويكون رد الفعل العاطفي تجاه الألم شديدا جدا ومؤثرا. (نادية السيد عمر188:1993-189).



وبالإضافة لتأثير الثقافة والأصل العرقي على مكابدة الألم، فقد رصد علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا العديد من العوامل الأخرى المؤثرة في تلك العملية منها التعليم والبيئة الاجتماعية، فقد اتضح أن المرضى الأرقى تعليما يكونون أكثر معرفة بأعراض المرض وبالتالي أكثر توقعا للألم، والمرضى الأقل تعليما يكونون أكثر قلقا وبالتالي تزداد نسبة استجابتهم للألم، وأن استجابة الفرد للألم تتأثر إلى حد بعيد بالأفراد الذين يقابلهم الفرد في حياته وخاصة في مراحل الطفولة سواء من والديه أو المدرسة أو الأصدقاء، وكشف "ميكانيك" Mechanic أن اتجاهات الأم وأفكارها تلعب دورا أساسيا في استجابة الطفل للمرض والألم، وأن الأطفال الذكور لا يبالغون في شعورهم بالمرض مثل الإناث، (نادية السيد عمر192:1993-1 95).



ومن العوامل الأخرى التي رصدها الباحثون ما كشفت عنه دراسة عالم التخدير الأمريكي "بيكر" Beecherأنه لا توجد علاقة مباشرة بين الشدة الموضوعية (الفعلية) للمرض أو الإصابة والخبرة الذاتية للفرد بالألم أو عدم الراحة، فقد أجرى دراسته على عينة من الجنود الجرحى، وعينة أخرى من المرضى المدنيين يستعدون لإجراء عمليات جراحية، وكشفت الدراسة أن ثلث عينة الجنود فقط أرادوا إجراء لتخفيف الألم، في حين طلب 80% من المدنيين نفس الإجراء لتخفيف الألم، رغم أن معاناتهم أقل كثيرا من معاناة الجنود. وقد فسر "بيكر" ذلك التباين انطلاقا من فكرة الاختلاف في تعريف الألم في كلا المجموعتين. فالجندي الجريح جاء من ميدان القتال وربما كان من بين القتلى، ولذا فإنه يستخف بألم الجراحة، أما المدني فيرى الجراحة حدثا خطيرا، ولذا فإنه يبالغ في توقع الألم.(Mechanic 1978: 265) 



إن التباين الثقافي بين المجتمعات المختلفة يؤدي إلى تباين في اتجاهات الأفراد نحو الألم واستجابتهم له، ويمكن تقسيم هذه الاتجاهات إلى نمطين: اتجاهات توقع الألم pain expectancy واتجاهات تقبل الألم pain acceptance فمن الأمثلة على توقع الألم ذلك الألم المتوقع عند الولادة، والألم المتوقع في الحرب والنشاط الرياضي (توقع الإصابة) وهناك مثال يوضح الفرق بين توقع الألم وقبوله، فالألم يكون متوقعا عند الولادة، ولكنه قد يقبل في مجتمع ولا يقبل في مجتمع آخر حسب بنيته الثقافية، كما أن المجتمعات التي تركز على الانجازات العسكرية يمكن أن تتوقع ألام جروح الحرب وتتقبلها، ولكن المجتمعات التي تسودها قيم التسامح والسلام نجد أنها تتوقع الألم ولا تتقبله. (نادية السيد عمر192:1993).



الخلاصة من كل ما سبق أن الألم ظاهرة اجتماعية معقدة لا ترتبط فقط بالجوانب العضوية المجردة، وإنما تتجاوز ذلك إلى الأبعاد الاجتماعية والثقافية والعرقية، وقد أكدت الجهود الفكرية المتراكمة من جانب علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع هذه الحقيقة.


الرد:

الكلام صحيح في عدم اقتصار الألم على النواحي الطبية البيولوجية، ولكن بالنسبة للبدائل او العوامل الاخرى ، مثل العرق والثقافة والمجتمع ليست دقيقة ولا شاملة ولا كافية. بسبب وجود مثل هذا الاختلاف في تحسس الألم بين اثنين من عرق واحد وثقافة واحدة ومجتمع واحد. وهذا كثيرا ما نجده.

دخول المعركة يبين من الجندي الشجاع والجندي الجبان ، وهما من ثقافة واحدة ومجتمع واحد وفرقة واحدة في الجيش . و لذا فهناك عوامل كثيرة جدا داخلة في موضوع الاحساس بالألم . ومنها الإيمان .. فالمؤمن أخف إحساسا بالألم بشكل عام، لأن دينه يربيه على الصبر، والدنيا ليست كل شيء عنده. علمانية الغرب جعلت الانسان المنتمي لها هلوعاً ؛ انظر الى خوف الغربي على الأمن أو الصحة مثلا ، نجده مبالغا فيه، مقارنة بشعوب تعيش في وسط المخاطر والحروب والأمراض والفقر، ولا تبدي جزعاً. كذلك خوف الغربيين على مالهم وثرواتهم مبالغ فيه، وما ذلك إلا لأن الثقافة الغربية مبنية على رؤية ماديين سيطروا عليها ولا يمثّلون الجميع .

النظرة المادية للحياة تسبب الهلع والخوف المبالغ فيه و الفوبيا على المصالح، فالاختيار بين عالم الخير وعالم الشر يؤثر في الموضوع ، كذلك التربية والقدوة ، فهناك فرق بين شخص يربيه أب صبور ومقدام ، وبين من يربيه أب خائف ومتشائم، بل هناك فرق بين شاب تربيه أمه وشاب يربيه أبوه بشكل عام .

التعامل مع الألم هو في مسألة النظرة إليه، النظرة للألم هي من يحدد الألم، رغم وجوده عضويا أو واقعيا ، والألم ليس فقط عضوي، هناك ألم عضوي وهناك ألم نفسي، مقدار التحسس يزيد الألم أو يجعله ثانويا . و مقدار التحسس تتحكم فيه أولاً العوامل الخاصة عند الإنسان كفرد، وهي الأهم من العوامل الاجتماعية، كاختياره وإيمانه ، ثم تأتي العوامل الأخرى كالمجتمع والثقافة الخ ..

و كون نساء القبائل أقل تأثرا بآلام الولادة، لا يعني أن الألم غير موجود، لكن يدخل عامل الصبر والنظرة الغير مُبالِغة للموضوع والتي تخفف من تأثيره، فالألم العضوي هو نفسه تقريبا ، لكن النظرة إليه تختلف.

الألم أساسه من الشعور، والتغيير في الشعور قد يجعله يخفّف الألم، مثل شخص مريض لا يستطيع التحرك، قد تأتيه اخبار سعيدة فيقوم من فراشه وربما يرقص. هذا لا يعني أن مرضه زال، لكنه تراجع الى الصف الثاني بدلا من الأول .

اذن النجاح الشعوري هو أفضل وسيلة للعلاج، وللوقاية ايضا، ولا يكون نجاحٌ مع الشعور الا بالتمسك بعالم الحق والفضيلة ومعرفة الله تمام المعرفة .

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق